خاص العهد
فتحي الشقاقي: قائد سابق الزمن من أجل فلسطين
هو مفردة من مفردات هذه المقاومة، أمين جهادها الاسلامي، رفيق درب الخط الوحدوي من أجل تحرير كامل تراب الوطن الفلسطيني المحتل. خاض في عز الصعاب غمار المسؤولية وكان مدرسة في القيادة، نال الشهادة وهو مهاجرٌ في سبيل الله والقضية.
هو فتحي الشقاقي من دون ألقاب ولا توصيفات تسبق أو تلحق باسمه، عرفته القاهرة وبيروت ودمشق وغزة وطهران وما بينها من محطات التضحيات في سوح النزال.
على أعتابه تحتار الكلمات ماذا تقول، لذا تركنا لسيرته بعض سطور وصور دليلًا عليه وإليه.
* حياته وعلومه
ولد فتحي إبراهيم الشقاقي مؤسس حركة "الجهاد" الإسلامي لمقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين بمخيم رفح للاجئين في الرابع من كانون الثاني/ يناير عام 1951، بعد أن شردت عائلته عام 1948 من قرية "زرنوقة" التي تقع بالقرب من مدينة يافا إلى قطاع غزة.
تلقى علومه في مدارس رفح، حاز على شهادة الثانوية العامة في العام 1968، ودرس في جامعة بيرزيت وتخرج من دائرة الرياضيات، ليعمل بعدها مدرّسًا في القدس، والتحق بكلية الطب في جامعة الزقازيق المصرية 1974.
غادر من مصر إلى فلسطين في 1/11/1981 ليعمل طبيبًا في مستشفى فيكتوريا في مدينة القدس لمدة عامين، إلى أن اعتقلته سلطات الاحتلال الإسرائيلي عام 1983 لحوالي عام تقريبًا، ليسجن مرة أخرى عام 1986 لمدة أربع سنوات، وخمس سنوات مع وقف التنفيذ، بتهم التحريض ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونقل الأسلحة إلى القطاع، والانتماء إلى حركة "الجهاد" الإسلامي.
قبل انقضاء فترة اعتقاله، أبعد من قبل الاحتلال إلى لبنان من السجن مباشرة في الأول من آب/ أغسطس عام 1988، حيث أقام فيه لمدة عام، لينتقل بعدها إلى دمشق ويتنقل خلال فترة إبعاده بين عدد من العواصم العربية والإسلامية.
* مسيرته الجهادية
يوسف: الشهيد الشقاقي صاحب رؤية وأفكارسبّاقة
يقول القيادي في حركة "حماس" أحمد يوسف لموقع "العهد" الاخباري إن "الشهيد فتحي الشقاقي كان مفكرًا وصاحب رؤية سبّاقة، عاش لفلسطين واستشهد من أجلها، وجعل قضيتها همًّا مركزيًا لكل المسلمين. في ستينيات القرن الماضي وقبل نكسة العام 1967، كان للخطاب الناصري أصداء تطرب مسامعنا وكنّا في حالة من الاستنفار الدائم بانتظار "البيان رقم واحد". كانت أحلام العودة إلى فلسطين لم تفارق أذهاننا".
ويضيف يوسف: "إبان الهزيمة المروعة عام 1967م، بدأنا نشاهد جيش الاحتلال الإسرائيلي يجوب شوارع المخيم وأزقته. كان العجز والخوف يشل سواعدنا، والوهن عشش وأرخى سدوله على مخيمات غزة، وتقاصرت مع الإحباط الهمم، طعنت كبرياء روحنا الوطنية، وأصابت اعتزازنا القومي، وألقت بنا على الرصيف، حيث أخذنا نفتش لنا عن مِنسأة فكرية نتكئ عليها أو مرفأ يحمل أحلامنا إلى فلسطين".
* التحاقه بالشيخ أحمد ياسين
بحسب يوسف "كانت زيارات الشيخ أحمد ياسين لمدينة رفح متقطعة، حيث كنا نلتقي بشكل شبه يومي في بيت الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، لنذاكر ونفكر في كل ما حمله لنا الشيخ أحمد ياسين في دروسه، ولقاءاته السرّية التي كان يزودنا بها في مرحلة التبليغ والتعبئة لمقاومة الاحتلال. كان الشهيد الشقاقي طالبًا متميزًا، ترتيبه الأول في المدرسة، صاحب موسوعة معرفية، يقرأ المجلات الغربية ويقدم الرؤية والتحليل، فيتكامل عطاؤه مع جهد الشيخ الشهيد أحمد ياسين. سافرنا إلى الضفة الغربية للدراسة في معاهدها عام 1968، واستمر التواصل بيننا هناك، حيث كلفه الشيخ ياسين بمسؤولية الإشراف التنظيمي على طلاب غزة الملتزمين بالفكر الإسلامي في كل معاهد الضفة الغربية".
وفي حديثه لموقع "العهد"، يستذكر يوسف "أوائل السبعينيات، حين التحق الشهيد الشقاقي بكلية الطب في جامعة الزقازيق. لم يغب عنه المشهد الإسلامي الذي كان حاضرًا في كتاباته بمجلة المختار الإسلامي، تحت اسم "عز الدين الفارس"، والتي توسعت مساحات توزيعها أضعافًا مضاعفة بفضل حيوية قلمه وروعة أفكاره، والتي شكلت إضافة نوعية للمجلة، حيث كانت التغطية النوعية والتحليل العميق ـ آنذاك ـ لأحداث الثورة الإسلامية في إيران تشدنا إليها بشكل جاذب، وكانت كتابات الدكتور فتحي وتعاطيه معها بمثابة مرجعية لحركة الوعي السياسي بالثورة وبالإمام الخميني (قده) لدى الكوادر الإخوانية الفلسطينية في مصر، والتي لم تكن لديها الدراية بحقيقة ما يجري هناك، فكان هو المدرسة التي نضجت فيها حيوية التفاعل والحراك مع الثورة الإسلامية وانتصارها، والذي كنا نرى فيه انتصارًا لأصحاب المشروع الإسلامي ولقضية فلسطين. ولا شك في أن كتابه "الخميني: الحل الإسلامي والبديل"، الذي صدر مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بالقاهرة كان من أكثر الكتب مبيعًا في السوق المصري، ولقد نفدت طبعته في زمن قياسي، وجرَّ عليه نشره للكتاب خلافات واسعة مع عدّة أفرقاء، ومع سلطات أمن الدولة المصرية التي قامت باعتقاله، وتعقب كل العناصر التي كانت على علاقة به".
كانت رؤية الشقاقي بحسب رفيق دربه أن "بعض الحركات الإسلامية ستؤجل مشروع التحرير إلى حين قيام دولة التمكين في إحدى دول الجوار، وحيث إن المؤشرات لا تحمل مبشرات قرب تحقيق ذلك، فإن انتظارنا كحركة إسلامية على أرض فلسطين سيطول، فيما المشروع الصهيوني يتجذر ويفرض بالاستيطان الحقائق القاسية على الأرض، ويتباعد مع اتساعه كل يوم حلم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وبين جدلية التحرير والتمكين، قرر الشهيد الشقاقي الإبحار برؤيته في المواجهة المسلحة مع الاحتلال بعيدًا عن بعض التنظيمات، والذين كانت فلسفة انتظارهم ـ آنذاك ـ قائمة على ضرورة استكمال بناء مؤسسات الحركة، وإيصال امتداداتها إلى العمقين العربي والاسلامي، وحشد الطاقات النضالية وإعدادها عقائديًا لميادين المواجهة وساحات الوغى، مع أهمية توافر أدوات القتال التي تضمن استمرارية الانطلاق والتصدي لجيش الاحتلال، وتطوير قدرات المجاهدين بالشكل الذي يجعلهم خنجراً في خاصرة الاحتلال، وحالة استنزاف دائم لكيان العدو. كانت كانت نظرية الشهيد تستند في بعض فصولها إلى درس استقاه من التجربة الجزائرية، حيث كان "العربي بن مهيدي"، أحد قيادات جبهة التحرير الوطني، يقول: "أَلقِ بالثورة إلى الشارع، يلحق بك الشارع"، أي عندما تراك الجماهير تبادر بالثورة فلن يتخلفوا عن المضي خلفك.
لحق بالشهيد القائد بعض من كانوا إلى جواره في تنظيمات أخرى، ثم تتابع تطور الرؤية والفكر حتى غدت حركة مستقلة لها قياداتها وكوادرها النضالية، وأخذت تتوسع أفقياً، وتحاول أن تجد لنفسها مكاناً يميزها داخل الصف الإسلامي".
"كانت العمليات العسكرية في عام 1987 هي اللحظة التي دشنت من خلالها حركة الجهاد انطلاقتها، وفرضت حضورها كعنوان مقاوم"، يقول يوسف، مضيفًا "وكانت عملية الهروب الشهيرة من سجن غزة المركزي لستة من كوادرها، ونجاحهم في القيام بالعديد من العمليات العسكرية داخل القطاع مثل كعملية الشجاعية وقتل قائد الشرطة العسكرية الإسرائيلي في غزة "رون طال"، وأحد قادة الشاباك "فيكتور رجوان" في أيلول/ سبتمبر1987، مؤشرًا آخر على صدق حدس د. فتحي الشقاقي بجدلية الثورة والشارع، حيث تكاثر عدد المنتمين لها، وهي تمثل ـ اليوم ـ عنوانًا للجهاد والمقاومة، وشريكًا نضاليًا لا يشق له غبار".
* شخصية الشقاقي القيادية والانفتاح على الآخر
وعى الشهيد القائد فتحي الشقاقي أهمية التحالف والعمل المشترك والانفتاح على الآخر، لذلك، كانت علاقاته بالاتجاه الإسلامي داخل حركة "فتح" وتطورت إلى عمل تنظيمي وعمليات عسكرية مشتركة ضد الاحتلال الإسرائيلي. كما كان منفتحًا على باقي فصائل منظمة التحرير، وكانت له علاقة متميزة مع الأخوة في الجبهة الشعبية وقيادات فتح الانتفاضة.
وكانت ذروة العلاقة هي تشكيل قيادة جماعية تحت اسم "تحالف الفصائل العشرة"، والتي ظلت هي الحاضنة لنبض الشارع الفلسطيني في الشتات، والشوكة في حلق كل من يحاول تجاهل وتهميش الخارج الفلسطيني، بذريعة أن السلطة الوطنية عادت للداخل، وهي من يملك القرار الفلسطيني، وبيدها كل مقاليده ونواصيه.
برأي يوسف "نجحت حركتا حماس والجهاد ـ بحق ـ في تفعيل شريان الحياة الفلسطيني في الخارج، وتمكنتا من إعادة المكانة لفلسطينيي المهاجر والشتات، وإيقاظ مشاعر الحنين وآمال العودة على أكتاف هذا الجيل الذي يحمل رؤية وطنية براية إسلامية، ويمد يده إلى الكل الوطني حتى يتوازن الحراك، وتصل القافلة بجهد الجميع إلى غايتها. لقد كان فتحي الشقاقي وحدوي الهوى، منفتحًا على الجميع، يرى في الشراكة والتحالف كسبًا للقضية وإضافة لحركته الجهادية، حيث إن فلسطين هي مشروع جهادي للأمة، وهم يمثلون طليعة متقدمة على رأس هذا المشروع. وبعد اندلاع الانتفاضة قامت سلطات الاحتلال بإبعاده إلى لبنان في أغسطس 1988، بعد اتهامه بلعب دورٍ رئيس فيها، وهناك قام ببناء أوسع شبكة علاقات له مع قيادات الحركة الإسلامية في لبنان (حركة التوحيد الإسلامي، وحزب الله)، وأيضًا مع قوى المقاومة الفلسطينية في بلاد الشام".
* العلاقات العربية والإسلامية
بعد اتساع حركته وسخونة المواجهات في العديد من الساحات على أرض فلسطين، اضطر الدكتور فتحي وإخوانه للعمل على توفير المال والسلاح والغطاء الإعلامي والسياسي، فكان أن تحرك في اتجاه إيران؛ الدولة الإسلامية، التي طالما هتف لثورتها، وعبَّأ الجماهير للوقوف خلفها والانتصار لها. وتمكن د. فتحي من إقامة علاقة مميزة مع جمهورية إيران الإسلامية، سهلت له تكوين فضاء إسلامي لحركته، يرفدها بالمال والسلاح، وبكل مستلزمات البقاء والقدرة على توجيه الضربات الموجعة للعدو.
نجح الشهيد الدكتور في إيصال التعاطف مع حركته إلى أمريكا، حيث كانت الأنشطة والمهرجانات والمؤتمرات تعقد في العديد من المدن الأمريكية، ويشارك فيها علماء وقيادات وناشطون إسلاميون من مختلف البلاد العربية والإسلامية، وكان لهذا الحراك الفكري والثقافي والفني أكبر الأثر في توعية الجاليات العربية والإسلامية في الغرب بمأساة الشعب الفلسطيني والتعريف بقضيته، ومن ثم تحريك الهمة لتقديم المساعدات الانسانية له، والقيام بالتظاهرات والمسيرات الضخمة أمام السفارة الإسرائيلية والبيت الأبيض للاحتجاج على المجازر وسياسات القمع، التي يمارسها جيش الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
* العلاقة مع حركة حماس
لم يتنكر مؤسس حركة "الجهاد" يومًا لجذوره، وكان حنين العودة إلى ربوع الحركة الأم لا يفارقه، وكانت هناك أكثر من محاولة سعت فيها جهات من الطرفين إلى توحيد الحركتين، على اعتبار أن خلافات الرؤية التي باعدت بينهما في مطلع الثمانينيات قد تلاشت بعد الدخول في معترك الجهاد، وبالتالي لم يعد هناك ما يبرر بقاء الحركتين منفصلتين.
يروي يوسف في هذا الاطار: "لقد انعقدت أكثر من خمسة لقاءات لمعالجة هذه المسألة في أكثر من عاصمة عربية وغربية، وكان لي شرف المشاركة في بعضها، ولكننا ـ للأسف ـ لم نتمكن من التوصل إلى اتفاق يحقق وحدة الحركتين، وإن كنا نجحنا في خلق تفاهمات للعمل المشترك وتنسيق المواقف والسياسات، وضرورة أن يعمل الطرفان على وأد الفتن في مهدها، وقطع الطريق أمام كل من يحاول توتير العلاقة بينهما".
لقد ظهر حرص الشقاقي على عودة العلاقة مع التيارات الإسلامية، حين قام عام 1993 بزيارة المبعدين في مرج الزهور والجلوس معهم، وقد كانت كلماته هناك لصديقه المهندس عيسى النشار، القيادي في حركة حماس "عليكم أن تتعهدوا شباب الجهاد، لأننا سنعود يومًا لنصبح جسدًا واحدًا".
* الشيخ حمّود: انطلاقة "الجهاد" كانت علامة فارقة في التاريخ الفلسطيني
من جهته يرى رئيس اتحاد علماء المقاومة الشيخ ماهر حمود في مقابلته مع موقعنا أن "الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي شكّل علامة فارقة في التاريخ الفلسطيني بتأسيسه لحركة الجهاد الإسلامي وشكل حافزًا على الساحة الفلسطينية، إذ إنه كان سباقًا وقادرًا على تجاوز العقبات الكثيرة التي وقفت أمام مشروعه المقاوم".
وأضاف "استطاع الدكتور الشقاقي بفكره الإسلامي المتأثر بالإمام الخميني (قده) أن يجمع بين عقيدة الإسلام ومجابهة الاحتلال الصهيوني بالسلاح".
وعن علاقته بالشهيد الشقاقي قال الشيخ حمود لموقع "العهد" الاخباري "كانت بداية علاقتنا في بيروت إبان إبعاده عن وطنه. ترافقنا سويا إلى تشييع الإمام الخميني (قده) وإلى العديد من العواصم العربية والإسلاميّة حيث قام بصولاته وجولاته من أجل تأسيس حركة مقاومة إسلامية الفكر والمنهج. الدكتور فتحي الشقاقي عبارة عن موسوعة ثقافية تاريخية مميزة، تشعر أنك تعيش التاريخ المعاصر منذ يعرف تاريخ فلسطين، وجغرافية فلسطين، ولديه قدرة على استقراء المستقبل بشكلٍ دقيق".
أما عن اللقاء الأخير بالشهيد، فأشار الشيخ حمّود إلى أنه كان في دمشق قبيل استشهاده بأيام قليلة في مالطا.
* استشهاده
استشهد الدكتور فتحي الشقاقي في مدينة "سليما" بمالطا، يوم الخميس 26/10/1995 أثناء عودته إلى الفندق، بعد أن أطلق عليه أحد عناصر الموساد الإسرائيلي رصاصتين على رأسه من جهة اليمين، اخترقتا الجانب الأيسر منه، بل وتابع القاتل إطلاق الرصاص عليه، فأصابه بثلاث رصاصات أخرى في مؤخرة رأسه ليرتقي شهيدًا مضرجًا بدمائه.
شيع جثمان الشهيد القائد يوم الأربعاء 1 / 11 / 1995 إلى مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك، بالقرب من العاصمة السورية دمشق.