خاص العهد
الحاج عماد واحتفال بنت جبيل.. وقصة "بنت جبيل بتنادي"
يوسف الشيخ
في العويني كان آخر عهد لهن ببنت جبيل لعقد ونصف من الزمن، عندما فررن إلى صور والضاحية بثيابهن فقط هرباً من انتقام "شيطان الشريط" العميل حسين عبد النبي بعدما أشبعنه تأديباً بالشحاطات عندما اقتحم حرمة بيتهن يريد أن يسحب الابن الأصغر (13 عاماً) إلى التجنيد الاجباري في جيش العملاء.
تذكّر أم حسين (اسم مستعار) زوجة أخيها بآخر ساعة لها في بنت جبيل عندما استأجرن سيارة وهربن على عجل إلى صور والضاحية قبل أن يبلغ ذاك الشيطان العميل عناصر معبر بيت ياحون بمنع خروج الشقيقات الأربعة (أم حسين وبناتها الثلاث اللاتي شاركنها بالعملية النوعية تلقين حسين عبد النبي درساً بليغاً بالشحاطات) خارج الشريط.
تضحك البنات الثلاث اللاتي كبرن وأصبحن أمّهات ويتشاركن مع أمهن وزوجة خالهن بفرط كومة كبيرة من أطباق الورد في دلوين من البلاستيك فيما ابن البنت الكبيرة ذو السبع سنين يتساءل عن سبب فرط أمه وخالتيه وجدته للورود البيضاء والحمراء داخل "السطل"، فتُسكِت أمه فضوله: "اليوم جاي السيد حسن (نصر الله) على بنت جبيل وهول الوردات لإله". تصيب الولد حالة من الكبرياء عندما يعلم أنهم سيكونون اليوم ضيوف سماحة السيد الذي سيلقي كلمة التحرير. ولكن أين؟
يعود ليسأل أمه مرّة أخرى فتجيبه "تحت بالملعب". تقصد الملعب الذي يبعد عن مكانهن حوالي 500 متر. يخرج الابن إلى الشرفة المطلة على الملعب ويطلق لمخيلته العنان "كيف سيتحول هذا الملعب بعد الظهر عند قدوم السيد؟".
كان الأخوة قد أتموا تجهيز المنبر فيه، فيما أخوة آخرون يرفعون اليافطات.
كان من أعد هذا المشهد يجلس في مكان لا يبعد عشرة أمتار عن المكان الذي تجمعت فيه أم حسين وبناتها، فقد اتخذ الحاج عماد مغنية من بيت قريب مركزاً لإدارة عملية اليوم الكبرى "خطاب بيت العنكبوت" وراعى أن يكون المنزل قريباً من الملعب ومن مدخل بنت جبيل لكي يكمل جولاته على القرى المحررة. فمن هذا البيت ذهب قبل يومين إلى مارون الراس ليطالع بعيون العاشقين حبيبته الجميلة "فلسطين"، حيث شم هواءها لأول مرة في لبنان منذ السابع عشر من شهر آذار 1978 عندما اشتبك في مكان قريب لأول مرة مع الصهاينة مع مجموعة من رفاقه إبان عملية الليطاني 1978.
كان الحاج عماد يعرف بنت جبيل جيداً ففيها خضع لأول دورة عسكرية عام 1977 وفي محيطها كانت أولى خطوات جهاده. لم تتغير تلك البلدة الطاعنة بالأسر كثيراً. أخذ يجوب تلك الحاضرة العاملية المشهورة بحثاً عن أفضل مكان تقيم فيه المقاومة الاسلامية مهرجان النصر.
كان أمامه خياران:
الأول هو سوق بنت جبيل وهو ما يعرف ببنت جبيل القديمة
أما الخيار الثاني فكان ملعب البلدة.
تجول الحاج في البلدة وهو يستعيد أيام البدايات (تلة مسعود – الفريز – النبية – الشهيد حسان شرارة الذي أوقف رتلًا اسرائيليًا بقاذفه قبل أن يستشهد في الأيام الأخيرة من اجتياح الـ 1978).
حسم الحاج عماد الأمر من الجولة الأولى فالسوق محدود المساحة لاحتفال النصر كما أنه سيعطل اختياره السير في معظم بلدة بنت جبيل. أما الملعب ففيه بعض المناطق الملحقة من الغرب والشرق والشمال ويمكنه أن يتّسع لأعداد كبيرة من الضيوف دون أن يؤثر على الحياة في البلدة التي تعتبر عقدة اتصال للقرى المجاورة. فتم اختيار الملعب ولم تتردد القيادة كثيرًا عندما وافقته الخيار.
عاد الحاج عماد إلى مقره، وحين كان يدخل من الباب إلى المقر المؤقت شاهد مجموعة من الشباب وكبار السن يتحلقون حول الشاي عند مضيفهم، وبينهم أخ أم حسين وصاحب المنزل الذي كانت أخته وصويحباتها يفرطن فيه الورد ليستقبلوا به سماحة السيد. كعادة الحاج عماد عند المرور بمجموعة من الناس وخاصة إذا كان فيهم من هم كبار في السن ألقى السلام على الحاضرين فردوا عليه السلام. وحاول صاحب المنزل استضافة الحاج على الشاي إلا أن الحاج اعتذر بابتسامة وشكره.
كان موعد الخطاب يقترب حيث لم يبق إلا 4 ساعات ويطل سماحة السيد معلناً كلمات النصر ومحدداً استراتيجية المقاومة الاسلامية في السنوات القادمة. يطّلع الحاج عماد من ضباطه على آخر أحوال الجبهة من الناقورة إلى شبعا: الجاهزية، تأمين مهرجان الانتصار، ثم بتفاصيل التفاصيل يتساءل عما أنجز من المنصة – شكلها، اتجاهها – هل علقتم العلم اللبناني؟ الكراسي والاعلام؟ وضع الصحافة وأمكنة التغطية؟ ...الخ. كانت تلك عادته منذ بداية شبابه بالتأكد من أبسط التفاصيل قبل الشروع بالعمل وخاصة في حالة الحاج عماد الذي كان يضيف لمساته و"روتشاته" الجمالية على مناسبات كهذه ومنها مثلاً طلبه من الخطاط في 9 آذار 1985 صباح اليوم التالي لانفجار بئر العبد الذي كان سيستهدف سماحة السيد محمد حسين فضل الله (رض) أن يكتب على يافطة سوداء وباللغتين العربية والانكليزية "صنع في أمريكا" أو طلبه منذ بداية التحرير عند بوابة الغندورية من الاخوة زرع العلم اللبناني وعلم المقاومة على معظم الآليات والمواقع المصادرة، أو طلبه من الأخوة المعنيين بأن يكلفوا فريقاً من المجاهدين ليأتوا إلى بيروت بعلم قيادة الاحتلال من ثكنة مرجعيون، ذلك لأن الحاج عماد قرر حرق هذا العلم الكبير علم قيادة جيش العدو والذي تبلغ مقاييسه ( 120*240) في 5 حزيران 2000 لدى دخول مجموعة من آليات الاحتلال المغتنمة إلى ساحة شورى حزب الله في حارة حريك مؤذناً بانتهاء "عصر الهزائم ودخول عصر الانتصارات" وراداً صفعة نكسة "5 حزيران 1967" إلى العدو المذموم المدحور في 24-ايار 2000 من لبنان.
قرر الحاج عماد الخروج وكانت الناس قد سبقت بداية الاحتفال بالوصول من عكار وجبيل والبقاع الغربي ودير الاحمر والخيام وكل لبنان احتفاءً بالنصر.
يلتفت الحاج عماد إلى الجار ليسلم عليه فيراه منهمكاً بتكسير ألواح الثلج في أوانٍ مليئة بمياه الشرب فضلاً عن عدد كبير من صناديق عبوات المياه وبمبادرة شخصية منه. ذلك الجار الطيب قرر أن يتحول إلى سقّاء يسقي كل أو معظم ضيوف بنت جبيل.
تسمر الحاج عماد في مكانه متأثراً بهذا المشهد لاثماً من بعيد بعينيه اللتين فرت منهما دمعتان تلك اليدين المشققتين بفعل تراب الجنوب واللتين مثلت لهما المقاومة الثقة والامان واليد التي مسحت على عذاباتهم.
كان جسم الحاج متجهاً نحو الشرق ومرت خاطرة برأسه أن هذا اليوم هو يوم أربعين الامام الحسين (ع) صاحب هذا النصر بالأصالة، فأرخى عينيه للدموع وهو يسلم على إمامه الذي لاحقه بقلبه وروحه وجسده منذ طفولته طلباً للالتحاق بركبه في قافلة النور.
التفت نحو الجار مسلماً عليه قائلاً: "الله يرزقك شفاعة الحسين (ع) والشهداء، ممنونك يا عم". في هذه اللحظة خرجت أم حسين ومجموعتها يحملن 3 دلاء يظهر منها الورد المفروط حيث كن يأملن أن يجلسن في الصف الأمامي أو الثاني في الجزء المخصص للنساء والذي نظمه الأخوة شرقي المنصة.
كانت أم حسين وبناتها وزوجة الجار (زوجة أخوها) تتناقشان ماذا ستقولان عند حضور السيد، فاقترحت إحداهن: "الصلاة على محمد وآله (ص)"، الثانية اقترحت ذكر عبارة "هيهات منا الذلة" التي يحبها سماحة السيد حسن كثيراً، قطعت أم حسين الكلام مذكرة اياهم بأن العبارة التي يجب أن تقال المطلوب منها أن تعبر عن ترحيب بنت جبيل بسماحته والتأكيد على البيعة له وللمقاومة ثم قالت: "من هون لنوصل بيدبرها الله بيلهمنا شو منقول".
وصلت أم حسين وبناتها وزوجة أخيها ومجموعة من أخواتها ونساء بنت جبيل فوجدن معظم الصف الأول المخصص للنساء خالياً. بعد تفتيش الدلاء وتأمينها من قبل الأخوة المعنيين اتخذت تلك المجموعة مكانها بانتظار اللحظة الموعودة.
تقترب من مدخل الملعب سيدة معها ثلاثة أولاد تعرفها ابنة أم حسين فتسر في أذن أمها أنها زوجة الاستشهادي صلاح غندور "ملاك" وولده وابنتاه. فتقترب منها أم حسين لتحضنها وتقبل الأولاد. في هذه اللحظة بالذات خرجت من وجدانها العبارة الذهبية "بنت جبيل بتنادي لبيك يا بو هادي" قامت فوراً بتلقينها لجميع من رافقنها إلى الملعب الذي سيلقى منه خطاب النصر.
حان الوقت وبدأ الملعب يمتلئ بالحضور. ما هي إلا دقائق حتى وصل ضيف بنت جبيل الجليل. ومن هذه اللحظة ستصبح بنت جبيل وأهلها وضيوفها القادمون من الأصقاع اللبنانية والسورية ضيوف أبي هادي قائد الجحفل الحسيني الذي مرغ أنف "اسرائيل" بالوحل. استقبلت النساء سماحته بالزغاريد والبكاء، فيما كانت غلّة الورد في دلاء أم حسين ورفيقاتها تتطاير متناثرة في الهواء باتجاه السيد محملة بالعبارة الذهبية التي ضج لها ملعب "خطاب النصر".
"بنت جبيل بتنادي لبيك يا بو هادي"، كل هذا والحاج عماد يتأمل من مكان غير بعيد حركة سماحة السيد مع ذر الورود والحفاوة الكبيرة مرفقة بالعبارة الذهبية الجديرة بشكر بيئة هذه المقاومة. تمتم بكلمات مختلطات بدموع عينيه وهو يشكر الله تعالى أنه سخر هذه المقاومة لخدمة هذا الشعب الطيب الأبي ورفعته.