خاص العهد
موظفو القطاع العام: سبب الأزمة اللبنانية!
محمد علي جعفر
يدور الحديث اليوم حول الحلول الحكومية لخفض عجز الموازنة. النقاشات الدائرة هي كسابقاتها ليست إلا محاولة لمعالجة المشكلة وليس الأسباب. تدور غالبية المُقترحات حول خفض النفقات، والتي تضغط غالبية القوى السياسة (ما عدا حزب الله والإشتراكي)، لتكون على حساب موظفي القطاع العام.
اليوم، حدَّدت الدولة سبب مشكلتها، وأعلنت أنها رواتب موظفي القطاع العام! هي قراءة تُعبِّر عن إحدى نتائج العقل الموروث للسلطة اللبنانية الحاكمة، والتي دائماً ما تستبعد مصالح النخبة أو ما يُشار اليه بـ :"أصحاب المصالح الريعية" عن النقاش، وتستهدف فقط، مصالح الطبقة الشعبية المغلوب على أمرها.
قد يكون مُبرراً لهذه السلطة أن تنظر الى الحلول الممكنة والسريعة في لحظة حساسة يمر بها لبنان وتُهدد اقتصاده. لكن هذه الغيرة الإضطرارية للدولة الفاقدة لشروط ممارسة السيادة الداخلية، ليست مُبرَّرة أن تكون على حساب الحلقة الأضعف في الدولة. خصوصاً أن البحث عن حلول جدية وحقيقية مُمكن، لكنه يطال حتماً مصالح أركان السلطة لا سيما كونهم الجزء الأكبر من القطاع الخاص المؤثر في الإقتصاد اللبناني وتحديداً المصارف! وبدل أن تكون السياسة النقدية في خدمة الإقتصاد، بقي الإقتصاد رهن السياسة النقدية للدولة، وهو النموذج الإقتصادي غير الموجود إلا في لبنان!
ويبدو أن الدولة المترهلة في إدارتها لن تسعى لمعالجة الأسباب ما دام أن مصالح المواطن وحقوقه الطبيعية ما تزال ضمن دائرة المساومة والنقاش. فموظفو القطاع العام لم يكونوا يوماً المشكلة. ولا داعي للبحث عن سُبل خفض الإنفاق، حيث يمكن البحث عن أبواب لإيرادات جديدة، كإدخال تعديلات جذرية على النظام الضريبي اللبناني. لكن ذلك ليس وارداً للنقاش، لماذا؟
إن النقاش الحقيقي والخفي هو حول: من يجب أن يدفع ضريبة إصلاح النظام المالي اللبناني؟ حتى اليوم تقف النخبة الحاكمة الى جانب شركائها من أصحاب الرساميل الريعية الرافضين لتقديم أي تنازل من أرباحهم.
منذ أيام قدم وزير الإعلام مطالعة تبريرية غير مُقنعة حول إعفاء 14 شركة ومؤسسة من دفع الغرامات على ضرائب مستحقة. وهو ما يُشكل دليلا إضافيا على طغيان منطق "أصحاب المصالح الريعية" على منطق "مصلحة الدولة والمواطن". والمسألة لا يجب النظر لها بأنها تتعلق فقط بالإعفاء عن دفع الضريبة بل ما ينتج عن ذلك، حيث إن هذه الظاهرة التي ليست بجديدة في لبنان، تُشجِّع الشركات على مخالفة القانون، وتُحفِّز التهرب الضريبي، وتضرب ثقة الأعمال بمؤسسات الدولة، وتُعزِّز النموذج اللبناني القائم على الحكم وإدارة الدولة بناءً للمصالح المشتركة للنخبة الحاكمة مع أصحاب المصالح الريعية.
منذ قيامها، رسَّخت الدولة اللبنانية سياسة تفادي فرض الضرائب المناسبة على الشرائح الأكثر ثراءً، وبقيت تُعوِّل على الضرائب غير المباشرة والضرائب التنازلية (الضرائب على السلع والخدمات). الأمر الذي يتحمله المواطن اللبناني الفقير، حيث تُشكل الضرائب المفروضة على الشرائح الثرية في المجتمع (ضرائب الدخل، والأرباح، وأرباح الأسهم..) ما يساوي 17% فقط من إجمالي الإيرادات خلال العقد المنصرم، بحسب تقرير للمركز اللبناني للدراسات. وبحسب إحصاءات المركز نفسه، فإن تقدير "مقدار التهرّب الضريبي" في لبنان يساوي حالياً 5 مليارات دولار (كان 1.13 مليار دولار خلال 2015)، ما يساوي تقريباً العجز في موازنة لبنان!
وهنا فإن الدولة اللبنانية، لا تمارس فقط سياسات مُجحفة بحق المواطن اللبناني، وموظفي القطاع العام والمؤسسة العسكرية، بقدر ما تمارس سياسة التضليل وقلب الحقائق. اليوم، تطرح الدولة حلولاً هي أشبه بأسباب لأزمة اجتماعية. موظفو الدولة اللبنانية لا يتميزون إلا بالأمان الإجتماعي الذي يتميز به أي موظف حكومي في أي دولة. وهو الأمر الذي بدأ يفتقده موظفو القطاع الخاص يوماً بعد يوم، بسبب ارتفاع عوامل اللاإستقرار في لبنان. المشكلة هي في الواقع الإقتصادي والإجتماعي والسياسي للبنان، وغياب التوجه الحقيقي والصادق لأركان السلطة في بناء الدولة. اليوم، ترتكب الدولة اللبنانية جريمة موصوفة، بحق المواطن اللبناني حيث ستُهدد الأمان الإجتماعي لما يقارب 300 الف عائلة تنتمي مداخيلها للقطاع العام.
بالنتيجة، إن حديث الدولة اليوم هو جزء من مسار تاريخي لافتراء النخبة الحاكمة وأركان السلطة في لبنان على المواطن. وما الحديث عن رفع الضرائب على ارباح فوائد مصرف لبنان من 6% الى 10% إلا لإظهار بعض من عدالة الدولة. فهل تكون العدالة بتخفيض حقوق موظفي القطاع العام مقابل تخفيض بعض أرباح أصحاب الرساميل الريعية؟!
لدى الدولة خيارات عديدة لكنها ليس بوارد القيام بها لأنها تطال أصحاب المصارف وكبار المودعين. فإلى جانب تعديل بنية النظام الضريبي وجعله أكثر عدالة، يمكن للدولة التوجه لخيار خفض الفائدة على الدين العام واسترداد الأموال التي ضخها مصرف لبنان للبنوك من خلال صفقات هندساته المالية.
تلجأ الدولة لفرض خيار يُعارض روحية إدارة الدولة، حيث تُعزز الدول موظفيها وليس العكس. في لبنان دولة، يُديرها تجار وأصحاب مصالح، صَدَق من قال إنه ينتقصهم بعض الغيرة على الوطن. هؤلاء لا يمكن ائتمانهم على شيء، فكيف يمكن ائتمانهم على مصالح الدولة والوطن؟!