خاص العهد
شماعة أمن الشخصيات: 60 مليار ليرة سنوياً ومهمات لا أمنية
فاطمة سلامة
في غمرة الحديث عن العجز الذي يُحكم الطوق حول مالية الدولة واقتصادها، تستفز المواطن اللبناني الكثير من المظاهر. ففي الوقت الذي يُهدّد فيه بأمنه الاقتصادي والاجتماعي بسوط أهل السلطة، تطالعه العديد من أوجه الفساد التي لا يفقه لها تفسيراً سوى أنها استكمال للسياسة "العوجاء" التي أوصلت البلد الى الدرك الأسفل. بمعنى آخر، تقطع الدولة يدها وتتسوّل عليها عندما تصل الأمور حد حقوق المواطنين من رواتب وتقديمات، أما عندما تلامس حدود "البريستيج" و"الاتيكيت" و"الرفاهية" لأهل السلطة، فلا حرج من تحميل الخزينة المزيد من الأعباء ورفع مديونيتها. هذه "الفلسفة" التي تسير عليها الكثير من القضايا في هذا البلد، لم تعد غريبة على المواطن، الذي ملّ الحديث عنها بلا جدوى. الحمايات والمرافقات الرسمية في لبنان هي إحدى تلك القضايا التي تُثير الكثير من الجدل، وسط ما يُحكى عن تحويل مهام رجال الأمن في الكثير من الأحيان من أمنية الى خدماتية و"منزلية" لا للشخص المعني، بل لأصغر فرد في عائلته. وفي ظل الحديث عن "تنفيعات" و"محسوبيات" تحت مظلّة الحماية الأمنية. فضلاً عن فرز أعداد هائلة أقرب الى "السريالية" لبعض الشخصيات، ما يكبد خزينة الدولة 60 مليار ليرة سنويا.
لدى سؤالنا أحد المسؤولين السياسيين عن هذا الملف، سارع بالقول "وجعة راس". بالنسبة اليه، فإن هذا الملف خرج عن غايته الأساسية لغايات متنوعة ومتعددة، تبدأ بتحول رجل الأمن من مهمته الأساسية لحماية الشخصية الى مهام أخرى تبدأ بسائق للعائلة ولأصغر فرد فيها، الى "ساعي بريد" يكلف بمهام ما أنزل الله بها من سلطان. بعض أعمال الفرز لما يسمى الحماية الأمنية –إن لم نقل أكثرها- يتم بطريقة "مزاجية" بلا أي مسوّغ قانوني، وفق ما يقول السياسي الذي يحاول -وهو الذي قدر له في إحدى الفترات متابعة هذا الملف عن كثب- يحاول ضرب الأمثلة لتوضيح الصورة، لكنه يشدد في المقابل على عدم ذكر اسمه، تحسبا لأن تقوم الدنيا ولا تقعد عليه. يحار من أين يبدأ من رؤساء الجمهوريات والحكومات السابقين الذين يُفرز لهم عناصر لا تؤديهم فيطلبون المزيد. يُعطي على سبيل المثال رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، في إحدى الفترات وصل عدد العناصر المولجة حمايته الى نحو 60 من مختلف الأجهزة تحت شماعة "التهديدات الأمنية". لرئيس حزب "القوات" اللبنانية سمير جعجع حصّة الأسد أيضاً، إذ يُفرز تحت مسمى "حمايته" ثلاثة ضباط ونحو مئة عنصر، بينما هم في الحقيقة رهن خدمته بكل ما للكلمة من معنى، وتموّل رواتبهم من خزينة الدولة، أي على حساب الشعب. تلك الرواتب التي تتخطى المليون دولار سنوياً. ترفض الشخصية الولوج أكثر في هذا الملف، تعود الى مقولتها "وجعة راس الها أول ما الها اخر"، لكنها تختم كلامها بالاشارة الى أنّه آن الأوان لوضع حد لكل هذا الترف.
ومما لا شكّ فيه أنّ حماية أمن الشخصيات ليست أمراً كمالياً في فكرتها الأساس، فبعض الشخصيات تبدو في موقع المحتاج لهذا النوع من الحماية، نظراً لحساسية موقعها ومهامها، إلا أنّ تجاوزات بالجملة يشهدها هذا الملف تجعله يفقد "فلسفته" الأساسية التي استحالت في الكثير من الأماكن ترفاً ووجاهةً. تجاوزات في الشكل والمضمون على حد سواء. من حيث الشكل، يمكن التنويه الى أنّ مهمة حماية أمن الشخصيات أنيطت بموجب المرسوم بجهاز أمن الدولة حصراً، إلا أنّ الكثير من الشخصيات لا تكتفي بعناصر أمن دولة بل تطلب عناصر قوى أمن داخلي بشكل يخالف القانون. المسألة لا تكلّفها الكثير. فقط ارسال القليل من التمنيات للجهة المعنية، ليكون لها ما أرادت، طالما "التنفيعات" تتم على مستوى رأس الهرم أو من ينوب عنهم. أما من حيث المضمون، فحدّث ولا حرج. ما يُروى في هذا الملف "خطير" ولو حصل في دولة "تحترم" عقول شعبها لاتخذت تدابير وإجراءات تدفع كل من تمادى على حساب أموال الشعب الى أن يتلو فعل الندامة. مصادر تصف هذه القضية بـ"المغارة"، فبكل بساطة مثلاً، تتهرّب بعض الشخصيات من توظيف سائق لديها كي لا تدفع له راتباً، فتسارع الى طلب المزيد من الحمايات، ليتولى العنصر مهمة "القيادة" بالمجان وعلى حساب الدولة. أكثر من ذلك، بعض الشخصيات النافذة يمتلك أبناؤها سائقين بالجملة يتناوبون فيما بينهم. وبعض الشخصيات النافذة تمتلك عشرات العناصر لحمايتها في سياق "التنفيعات" الحاصلة خارج الطريقة المعتمدة في الفرز أي خارج مديرية حماية الشخصيات. "الاستنسابية" تلعب دوراً كبيراً في هذا الملف أيضاً، فالبعض لا يمتلك كل هذا "الهرج" و"المرج" الأمني رغم أنّ له ما له من "حيثية". بعض الشخصيات –وفق المصادر- لا تمانع بطلب عنصر إضافي لحمايتها بناء على قاعدة المحسوبيات حتى ولو بقي متطوعا على الورق يتقاضى راتبه بلا خدمة.
الكلفة..60 مليار ليرة
وفيما تتحدّث مصادر رسمية عن 1500 عنصر لجهاز أمن الدولة موزعين على رؤساء ووزراء ونواب وقضاة تحت عناوين الحماية والمرافقة، تشير مصادر أخرى الى أنّ الأرقام تفوق العدد المكتوب ورقياً بكثير، ويُضاف اليها عناصر من قوى الأمن الداخلي كرمى لعيون فلان وعلان وبلا مسوغات قانونية، حتى أن بعض الشخصيات لم يرد ذكرها في مرسوم الحماية والمرافقة كالشخصيات الاعلامية ورغم ذلك استفادت من "فوضى" الحمايات على حساب الدولة.
الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين يؤكّد هذا الأمر ويوضح أنّ هذه العملية تشوبها المحسوبيات والوجاهات واستغلال خزينة الدولة من قبل البعض الذين يسعون لتوفير الأموال الخاصة فيحولون مهمة الأمنيين الى سائقين لخدمتهم وعائلاتهم، وقس على ذلك الكثير. يؤكّد شمس الدين أنّ خزينة الدولة تتكبّد سنوياً 60 مليار ليرة لقاء هذه الحمايات والمرافقات، بعضها لا يُدرج سوى في إطار البذخ. وقد خضع مرسوم تنظيم الحماية والمرافقة للعديد من التعديلات عبر السنوات، آخرها حدّد للنائب 4 عناصر للحماية بدلاً من اثنين كما كان سابقاً، وهنا لا يتفهّم شمس الدين حاجة هذا العدد رغم أن البعض يتجاوزه أيضاً بأشواط. النواب السابقون أيضاً يتوسّطون للفوز بحمايات على حساب الدولة وينجحون في ذلك.
يعطي شمس الدين أمثلة عن الأعداد القصوى للعناصر والتي حددها المرسوم، فيشير الى أن المرسوم حدّد لرئيس الجمهورية السابق 10 عناصر قابلة للزيادة وفق التعديلات الأخيرة،كما حدد ل رئيس مجلس النواب السابق (8 عناصر)، رئيس مجلس الوزراء السابق (8 عناصر)، وزير حالي (4 عناصر)، حرم رئيس جمهورية سابق متوف (عنصران)، رئيس طائفة مقيم في لبنان (6 عناصر)، نائب رئيس مجلس نواب سابق (4 عناصر)، نائب رئيس مجلس وزراء سابق (4 عناصر). يعود شمس الدين ليكرّر بأن هناك تجاوزات واسعة للأعداد المسموحة، فالمرسوم مثلاً يسمح لمدعي عام التمييز بعنصر واحد بينما هو في الحقيقة يمتلك أكثر، مثله مثل العديد من القضاة والأمنيين والسياسيين والشخصيات.
مما لا شكّ فيه أن المقال لا يتسّع للإحاطة بكافة زوايا هذه القضية التي باتت ظاهرة "مزعجة" على حد تعبير أحدهم، إلا أنّ كل ما قيل ويقال عن كواليسها يبقى "إخباراً" الى الدولة التي تشكّل الخصم والحكم في آن، عساها تبادر الى تغيير هذا الواقع.