معركة أولي البأس

خاص العهد

عن خطاب السيد نصر الله
01/06/2019

عن خطاب السيد نصر الله "الاستثنائي".. وما بعده

فاطمة سلامة
.. وأنت تستمع إلى خطاب أحد المسؤولين أو الشخصيات النافذة، قد تؤدي بعض المهام بالتوازي، أو تقوم بمتابعة بعض الأمور. وإن فاتك شيء من الحديث فلا بأس. وأحياناً تجد نفسك لا شعورياً مندفعاً الى تغيير القناة انطلاقاً من أن لا جديد في ما تسمعه، وكله تكرار بتكرار. مع خطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله، يبدو الأمر مختلفاً. تخشى أن تفوتك أي كلمة في خطابه. أصلاً، لا يمكنك سوى أن تكون مستمعاً بإنصات. يملك الرجل من المنهجية في عرض الأمور ما يجعلك مأسوراً بشدة تُتابع كل جزئية يتحدّث عنها. ومع خطاب السيد لا ملل، لا إحساس بالوقت، حتى عندما ينتهي الخطاب تشعر وكأنك تُريد المزيد. يُحيط سماحته بكل أدبيات الخطاب الذي يؤدّيه بإتقان وصدق. ولعلّ أكثر ما يلفت في إطلالاته التي لا يشبه بعضها بعضاً، أنك في كل مرة تشاهده تشعر وكأنها المرة الأولى. لا خطاب يُشبه سابقه، حتى المواقف التي يُكرّرها تبدو بإخراج جديد. يملك السيد من "العفوية" ما يجعله الأقرب الى الرأي العام والجماهير، تماماً، كما يملك من الكاريزما والحزم ما يجعل لكل موقف يُطلقه نصيباً من الربط والتحليل.

أمس، أطلّ السيد نصر الله  لمناسبة إحياء أربعين عاماً على إعلان الإمام الخميني اليوم العالمي للقدس. "ازدحمت" كلمته بمواقف جريئة كالعادة، قطعت الطريق على المخططات الأميركية و"الإسرائيلية". وفي خطابه "الشامل" عبّر عن قدرة واقتدار المقاومة لمواجهة أي حرب محتملة، والتي لن يكون معها المحور المعادي "سعيداً". إنه خطاب مفصلي و"استثنائي" وفق ما يقول المحلل السياسي وسيم بزي، انطلاقاً من طبيعة اللحظة وحجم الاستقطاب الحاصل في المنطقة، وطبيعة الذكرى. من الواضح أنّ هناك مجموعة عناصر اجتمعت لتعطي خطاب الأمس هذا المستوى والأهمية والترقب ليس على مستوى لبنان والمنطقة بل العالم. ومن وجهة نظر بزي، استطاع الخطاب بعناصره الشكلية والمضمونية أن يمثّل تعبيراً كلياً عن موقف محور معني بالمواجهة مع محور آخر، ما يُسهّل قراءة طبيعة المواجهة، وعناصرها، وموازين القوى فيها. كل الفئات المعنية بالمواجهة ـ حسب بزي ـ أدركت الوضعية الموجودة التي وصلت اليها المواجهة، وسمعوا بدقة شرح الموازين على الضفتين بطريقة دفعت المستمع المحايد الى أن يدرك بعقل وحجة ومنطق حقيقة ميزان القوة ومواطن الضعف، كما أن مسألة الحرب من عدمها كانت بأقصى درجات الوضوح.

يُشدّد بزي على مجموعة عوامل أعطت لخطاب السيد "المفصلية" و"الاستثنائية"، بعضها في الشكل وبعضها الآخر في المضمون. من حيث الشكل يُسجّل المتحدّث الآتي:

ـ إطلالة السيد "وحدها" تأخذ بعداً مهماً، فما بالك إذا كانت بالتزامن مع قرب إعلان "صفقة القرن"، والذكرى الأربعين لإعلان اليوم العالمي للقدس. هذه الأمور اجتمعت لتضفي على الخطاب مزيداً من الاستثنائية والاستقطاب.

ـ ملكة الإخراج، حيث الابداع والتبسيط والحجة واستخدام لغة الجسد وفن إيصال الرسائل الى الأعداء، وكلها عناصر كانت حاضرة في لحظة كاريزما "متوقّدة".

ـ التعمد الواضح لتظهير جديد تمثّل في عرض عسكري كان قد أوقفه الحزب منذ سنوات لأسباب موضوعية تتعلّق بالداخل اللبناني. العودة لهذه الرمزية في هذا الشكل تحمل رسالة واضحة تريد أن تقول إن الجهوزية والشعار والالتزام في حضور "العسكرة" هي رسالة عن مستوى الاستعداد لخوض المواجهة أمام مصيرية اللحظة.

أما في المضمون، فيسجّل بزي جملة ملاحظات تمثّلت في البداية بالتبويب الذكي جداً الذي استخدمه السيد لاختياره أجندة أولويات، ترك بموجبها الشق الداخلي الى نهاية الحديث. هذا الشق يحمل ما يحمله من الاعتبارات للأسباب التالية:

عن خطاب السيد نصر الله "الاستثنائي".. وما بعده

أ. الابتزاز الدائم الذي يتعرّض له المسؤولين اللبنانيين في ملف ترسيم الحدود من قبل الأميركيين

ب. القرار بالرد على ما طرح في الاعلام وليس عبر المسؤولين، وبالتالي اشراك العامة في هذا الموقف عبر منصة المهرجان والذكرى بناء على قرار واضح بأن يكون الزخم الحاصل في المناسبة جزءاً من منظومة "إيصال الرد".

ج. الرد الحازم من قبل سماحته والذي قطع الطريق على قاعدة أميركية تاريخية بإدارة التفاوض عنوانها محاولة استغلال لحظة لأجل لحظة أخرى، وهذا جزء من ثقافة تاريخية بالابتزاز المستخدم من قبل الأميركيين، سبق وأن استخدمه هنري كيسنجر وفيليب حبيب وغيرهما من الشخصيات التي أدارت عمليات التفاوض خلال تاريخ الصراع، وبالتالي أراد سماحته أن يقطع دابر هذا الأمر ولو لمرة واحدة.

د. "الصواريخ الدقيقة" هذا العنوان بحد ذاته له ما له من الأهمية، خصوصاً أنه كان مثار جدل وأخذ ورد، أحياناً على قاعدة "الغموض البناء" وأحياناً على قاعدة "الجهر بالحقيقة" تبعاً لحاجة المشهد وموازين القوى. ومنذ فترة خرج الى الاشهار بعد أن حسم السيد مسألة امتلاك المقاومة لأعداد "كافية" تُحقّق المهمة.

ه. المصانع التي لوّح سماحته بها، والمتداولة في الأدبيات السياسية منذ ما قبل الثلاث سنوات، وهنا أكشف أنّ قائداً سابقاً للطوارئ زار مسؤولاً كبيراً في الجنوب منذ حوالى الثلاث سنوات وطرح عليه هذا الأمر، ما يدل على حجم الابتزاز المعنوي والسياسي الذي كان يمارس على لبنان من خلال هذا العنوان. مقاربة السيد بالأمس رغم أنها نفت مبدأ المصانع إلا انها جدّدت السعي لتحقيق ذلك كحق طبيعي من حقوق الدفاع، وحرّمت على الأميركيين التفكير بمقايضة ملف الصواريخ بالترسيم.

ويؤكّد بزي أن الكلام الذي أطلقه سماحته بالأمس وفّر على الرؤساء الاحراج وأعاد ترتيب الرد بمنهجية أقسى نحو المفاوض الأميركي. وبحسب معلومات بزي، طُرح هذا الأمر منذ ثلاثة أسابيع على رئيس الحكومة سعد الحريري من قبل الموفد الأميركي، وعندما عجز الحريري عن إعطاء الاجابة، طُرح لاحقاً على رئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري.

وفي المضمون أيضاً، يلفت بزي الى الأسلوب الذي استخدمه السيد في "تسخيف" القمم الثلاث وتظهير الهلع السعودي الخليجي من سرعة خروج ترامب من خيار الحرب. كما كان لافتاً الطريقة "التهكمية" التي انتقد فيها بيان القمة العربية والذي تألف من 10 بنود، "كلّها عن إيران و"الحوثيين"، وآخر سطرين عن خصوص القضية الفلسطينية". ويقرأ بزي في هذه القمة أيضاً "مشروع" مشكل لبناني ـ لبناني بعد الموقف الذي عبّر عنه الحريري والذي انتقده سماحته، خصوصاً أنّ الموقف اللبناني الرسمي عوّدنا في السنوات الماضية على توازن معيّن تمثّل في سياسة النأي بالنفس تحررت منه القوى السياسية. والمفارقة بدت في إعطاء الحريري لنفسه الحق في تجاوز البيان الوزاري خصوصاً في ظل حساسية اللحظة التي يعيشها لبنان. ومن السيد برزت أيضاً إشادة معبّرة بالموقف العراقي كتعزيز لحجم الثقة بالعراق المنخرط بمحور المقاومة رغم وجود 6500 جندي أميركي على أرضه. والمضحك المبكي ـ برأي بزي ـ يكمن في أن هذا الموقف العربي العراقي عبّر عنه رئيس من الإثنية الكردية في وقت لم تتحرك فيه عروبة الموجودين.

ولا ينسى بزي أن يُعرّج في قراءته على ما أدلى به السيد من ثقة بإسقاط صفقة القرن من جهة وقدرة إيران وحلفائها على خوض المواجهة إذا فرضت والحديث عن القدرة على إبادة القوات الأميركية في معركة لن تبقى مقتصرة على إيران من جهة أخرى. كل هذه المواقف أعطت خطاب الأمس بعداً استراتيجياً، مفصلياً واستثنائياً، يختم بزي.

إقرأ المزيد في: خاص العهد