خاص العهد
جورج إبراهيم عبد الله "النضالي" الذي لم يغُيره "الباستيل" الجديد
فاطمة سلامة
لم تُبدّل العقود العجاف التي قضاها المناضل جورج ابراهيم عبد الله في "باستيل" الجمهورية الفرنسية الجديدة من عزيمته وحبّه للمقاومة. يملك هذا الرجل من العزّة والعنفوان ما يجعله رقماً صعباً أمام عروض الحرية التي يتلقاها من السجان الفرنسي وخلفه أميركا. "لا معنى للحرية بلا كرامة" هي مقولته التي ذهبت مثلاً. قالها أكثر من مرّة، "أرغب بالتأكيد بالخروج من السجن ولكن إياكم أن تتوسّلوا أو تتسولوا حريتي".
35 عاماً من الاعتقال قضاها اللبناني عبد الله في السجون الفرنسية، لم تُغيّر في عزيمة "الكفاحي" ابن المقاومة اللبنانية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي أحبّ القدس وشعبها فقاد عمليات "بطولية" ضد المحتل الصهيوني ومن خلفه أميركا، فساحة المواجهة مفتوحة ولا تقتصر على فلسطين. تحرير الأرض السليبة من النهر الى البحر يستوجب ـ وفق قناعاته ـ وضع المعسكر المعادي بأكمله تحت ضربات المقاومة.
ثار جورج الفتى "المسيحي" عابراً بطائفته كل الطوائف والحواجز، فتحرير فلسطين بات همه، ومحاربة القوى الامبريالية شغله الشاغل. نضاله وضعه تحت مجهر الرصد فاتُّهم بقيادة العمليات "البطولية" التي نفذتها الفصائل الثورية اللبنانية، على رأسها اغتيال المسؤول في الاستخبارات الأميركية تشارلز راي ومسؤول في الموساد هو ياكوف برسيمنتوف عام 1982. هذه التهمة التي يعتبرها عبد الله وساماً على صدره، اعتُقل لأجلها بعد مطاردته من قبل الموساد "الاسرائيلي" في باريس.
تهمٌ بالجملة وجّهتها السلطات الفرنسية آنذاك للمقاوم عبد الله الذي لا يزال يقبع في الأسر ـ رغم أنّه أنهى محكوميته ـ بأمر واضح من الولايات المتحدّة الأميركية التي تمارس شتى أنواع الضغوط على القضاء الفرنسي. ضغوط أشد وطأة من التمنيات اللبنانية التي بعثها لبنان الرسمي غير مرة للفرنسيين والتي لم تؤت أكلها.
اليوم، يعود الحديث عن وساطة وحراك لبناني باتجاه فرنسا لاسترجاع حرية عبد الله، وهو الأمر الذي لا تعلم عنه شيئاً عائلة الأسير. أخوه جوزيف ينفي لموقع "العهد الإخباري" علمه بأي مساع لبنانية لا من قريب ولا من بعيد، نسمع مثلكم عبر الاعلام، يقول جوزيف الذي يُفضّل إعطاء الكلام لشقيقه الدكتور روبير كونه الملم بكل تفاصيل هذا الملف.
ما يقوله جوزيف يؤكّده روبير. "صدقاً لا نعلم شيئاً رغم كل ما يُقال عن وساطة تقوم بها الدولة اللبنانية لإطلاق سراح جورج". متى آخر مرة تواصل معكم رسميون؟ يجيب المتحدّث بالإشارة الى أنّهم كعائلة قدّموا طلباً لمقابلة وزير الخارجية جبران باسيل منذ نحو الثلاثة أشهر. "استقبلنا ووعدنا بالاهتمام بالملف ومتابعته عبر سفير لبنان في فرنسا. الأخير زار جورج في السجن وزوّده ببعض الكتب والشوكولا، واطمأن على صحته ووضعه، لا أكثر ولا أقل، ومنذ ذلك الحين لا نعلم شيئاً عن أي تطور في هذا الملف.
لدى الحديث مع روبير يبرز عتباً شديداً على الدولة اللبنانية. ليكن لدينا دولة تتصرّف كدولة وتنسى ولو ليوم واحد أنها خرجت من عباءة الانتداب والاستعمار الفرنسي. لتتصرف بصفتها مستقلة لها كيانها الخاص. عليها أن تتعاطى مع قضية جورج بمسؤولية، عليها أن تفخر به. بالحد الأدنى يجسّد جورج حالة مقاومة ومناضلة، وما نسمعه فين الكواليس مع المسؤولين يدعو للفخر بهذا المقاوم. كثر يكنون له كل الاحترام والمناقبية من أعلى الهرم الى قاعدته. هذا في الصالونات السياسية، أما على "الأرض" فلا تدبير يدل على أنّ لجورج دولة تطالب به، وهذا أمر مخزٍ ومعيب. يصمت روبير قليلاً، ويستطرد بالقول "نأمل أن يكون هناك شيء ما في الكواليس يُحضّر لحرية جورج، لكننا نستبعد ذلك".
التواصل مع جورج وعائلته يقتصر على الهاتف والمراسلات. لجورج خمسة أخوة وثلاث أخوات، البعض فارق الحياة، ولم ير جورج. والدته تمكّنت قبل وفاتها من رؤيته. أما أخوته فلا يستطيعون، والسبب؟القضاء الفرنسي اتهمهم ظلماً وعدواناً بمسؤوليتهم عن أحد الهجومات، ولفّق لهم ملفاً عن ذلك. وعلى الرغم من ايقاف المعتدين آنذاك والمسؤولين عن الاعتداء، إلا أنه لم تصدر عن السلطات الفرنسية أي اعتذار أو تبرئة. هذا الأمر يجعل أخوة جورج بمثابة مطلوبين للقضاء الفرنسي ما يقف حائلاً أمام ذهابهم لفرنسا وزيارتهم لأخيهم في المعتقل.
يتحدّث روبير عن الضغوط التي تمارس على القضاء الفرنسي. ثمة وثائق رسمية من قلب فرنسا تتحدّث عن التلاعب بالقضاء الفرنسي تحت ضغوطات أميركية. يروي كيف أن المدعي العام المسؤول عن محاكمة جورج يعترف بتسييس الملف ويتحدّث عن الضغوطات الدولية التي تُمارس. مسؤول الأمن الفرنسي أيضاً يُقر بتلفيق ملف جورج. يُدلّل روبير على وثائق "ويكيليكس" أيضاً التي نقلت في أحد تقاريرها كلاماً عن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تطلب فيه صراحة من السلطات الفرنسية البحث عن مسار جديد لعدم الافراج عن جورج عبد الله. يُصر روبير ويُشدّد على أنّ أميركا تمارس دورها في الهيمنة على العالم وهي من يحتجز حرية جورج. يسأل: أين الدولة اللبنانية من ذلك؟
"لم يتغيّر خطاب جورج النضالي رغم كل السنوات التي مرّت عليه والظلم الذي لحق به"، يقول أخوه. المراسلات الدائمة معه تُبيّن ذلك. يتواصل مع العائلة باستمرار وفي كل مرة يبث جرعات من الأمل. لا يزال كما هو مذ كان شاباً، هادئاً، رصيناً، ومتماسكاً، محباً لقوميته ووطنه، مناضلاً حتى من خلف القضبان لأجل تحرير الأرض. لجورج أيضاً عتب على الدولة اللبنانية التي يُصر على أن تطالب به مرفوعة الهامة. تُطالب به من منطلق الحق ومن منطق الند للند بعيداً عن التوسل والتمني.
في ختام كلامه، يأسف روبير للمشهد الذي نراه كل عام في السفارة الفرنسية في بيروت في الرابع عشر من تموز/يوليو لمناسبة العيد الوطني الفرنسي، إذ تتقاطر الوفود الرسمية لأداء طقوس الطاعة للسفير الفرنسي، في حين أنّ للبنان سجيناً في فرنسا لا يزال قيد الاعتقال!!.