خاص العهد
كيف حوّلت "سوليدير" وسط بيروت إلى "جزيرة" معزولة؟
فاطمة سلامة
عندما نتحدّث عن الحالة الاقتصادية شبه المعدومة التي وصل إليها لبنان، سرعان ما يلمع في مخيلتنا أسماء شركات وشخصيات أوصلت البلد إلى ما هو عليه من انهيار مالي ومعيشي. شخصيات وضعت على ظهر لبنان حملاً ثقيلاً من المديونية، نتيجة السياسات العوجاء التي لم تجلب إلا البلاء. تلك السياسات التي لم يكن فيها المواطن سوى حرفاً ناقصاً، يجري التلاعب بثروات بلده ونهبها. فالنهب هنا لا يهم بأي وسيلة يتم؛ المهم النتيجة الكامنة بملء الجيوب وسط غياب المساءلة والمحاسبة على قاعدة "حاميها حراميها". منذ عقود حتى اليوم، تنوّعت أساليب النهب من صفقات مشبوهة تتم خارج دائرة المناقصة إلى التهرب الضريبي والمليارات المصروفة بلا وجه حق، وغير ذلك الكثير. أساليب النهب لم تقتصر على سرقة المال العام، بل تعدّت ذلك إلى محاولات السطو على الأملاك العامة والخاصة. شركة "سوليدير" تمثّل نموذجاً حياً لهذا النهج الذي حوّل نكبة لبنان المتمثّلة بالدمار إلى فرصة للبعض لجمع الثروات، فكان أن استحال قلب العاصمة من شريان حيوي يربط جميع المناطق ببعضها البعض إلى إمارة قائمة بذاتها وجزيرة معزولة لطبقة معيّنة من المواطنين، بينما المفروض أن يكون قلب العاصمة جامعًا لمختلف المناطق. فكيف حوّلت "سوليدير" وسط بيروت من فرصة تربط كافة المناطق إلى تهديد؟
لدى التطرق إلى "سوليدير"، نستحضر في البال طيف الراحل رفيق الحريري، الذي أسس الشركة، فيما تمتلك عائلته والمقرّبون منه معظم أسهمها. الوزير السابق شربل نحاس يروي قصّة "سوليدير" من ألفها الى يائها، وهو الذي عاصرها وعمل آنذاك مسوؤلاً عن مشروع إعادة إعمار وسط بيروت ضمن شركة "أوجيه لبنان"، وترك هذا المنصب لاحقاً إثر خلاف مع الراحل الحريري على تحويل مشروع إعادة إعمار وسط المدينة من مؤسسة عامة الى شركة تجارية خاصة. بالنسبة لنحاس، فإنّ وسط المدينة هو قلبها النابض ولا يجوز محاصرته وعزله عن بقية المناطق، ليصبح الوصول إليه سيراً على الأقدام أمراً مستحيلاً، بعد أن أحيط بالاوتوسترادات من كل جانب. يروي نحاس قصة شركة "سوليدير"، فيسترجع من الذاكرة بدايات الحديث عن إعادة إعمار وسط بيروت بعدما عاثت الحرب الأهلية خراباً في هذه المنطقة، وتحولت الأسواق التراثية لساحة يومية للحروب، ومن بعدها ساحة للنهب. عام 1977 حتى عام 1979 جرى تكليف مجموعة من المهندسين بوضع مخطط توجيهي لإعادة إعمار وسط العاصمة. البعض اعتبر حينها أن هذا الدمار قد يتم الاستفادة منه لإعادة ترميم الأسواق التاريخية وتنظيم حركة السير، والاستفادة من الظروف لإعادة تأهيل وسط العاصمة وإقامة شبكة مواصلات تتضمن بشكل أساس خطين محوريين لمترو بيروت عند تقاطع باب ادريس.
اعتمد هذا المخطط -وفق ما يسرد نحاس- كمرجع لإعادة الترميم، وكان يتضمن الى جانب ذلك إعادة إظهار الطابع التراثي للأسواق القديمة، إلا أنّ شرارات الحرب سُرعان ما عادت وباغتت المخططين، ليأتي بعدها الاجتياح الصهيوني للمدينة عام 1982، ويتوقّف التخطيط. إثر ذلك، وبعدما خمدت نيران الحرب، تقدمت السعودية بهبة لرفع الأنقاض وتدعيم الأبنية المتصدعة، وعلى هذا الأساس كلفت شركة "أوجيه لبنان" التي يملكها رفيق الحريري القيام بالأعمال واستخدام الهبة لهذا الأمر. حينها تم توقيع عقد بين مجلس الإنماء والإعمار، شركة "أوجيه لبنان"، وشركة دار الهندسة للقيام بإعادة تحديث المخطط التوجيهي الذي وضع عام 1977 على ضوء ما حصل من مستجدات، لإنجاز كل الدراسات الفنية للشبكات والبنى التحتية. يوجز نحاس -الذي كان مسؤولاً عن المشروع- حال العاصمة التي تشظت نتيجة الحرب، تشظّت مادياً واجتماعياً وجرى تقسيمها على قواعد طائفية من شرقية الى غربية وكان الهم الأساسي حينها إعادة إعمار وسط بيروت لأنه المكان الوحيد الذي يستطيع إعادة توحيد العاصمة وربط كل النواحي ببعضها البعض. بالنسبة لنحاس، فإنّ تعزيز الشبكات يدخل في هذا السياق، بالإضافة الى السعي لإقامة منشآت تجمع المدينة من مكتبة وطنية إلى جامعة لبنانية إلى حديقة عامة كبيرة، وذلك في سياق تحويل الدمار الى فرصة للجمع والالتقاء.
يوضح نحاس كيف اجتمع آلاف المهندسين والمساحين، وأقيمت المباريات الدولية لإنجاز المهمة بتحويل وسط بيروت الى جامع للمناطق، إلا أن سوء الحظ واندلاع الحرب من جديد من بوابة الجبل، أديا الى "فرملة" العمل بالمشروع، بعد أن لزّم الخط الساحلي الذي يربط المرفأ بعين المريسة. عقبها، بدأت المؤتمرات التي جمعت أطراف النزاع في لبنان لإنجاز التسويات، وبهذه الاجتماعات كان يحضر عبدالحليم خدام كممثل عن سوريا ورفيق الحريري كممثل عن السعودية. حينها تحوّل الحريري من مقاول وصاحب شركة تعهدات ودراسات الى طرف سياسي. هذا التحول غيّر المعطيات ودخل من بوابته الحريري كطرف مستجد في الساحة اللبنانية، ما دفعه الى اغتنام الفرصة لاحقاً، وتنفيذ مخططه بأن تتولى شركة خاصة إعادة إعمار وسط بيروت بدلاً من أن تدير العملية مؤسسة عامة. حينها تحوّل المشروع التوجيهي من مؤسسة عامة الى شركة خاصة، وبدأ التحضير على هذا الأساس، وأعيد النظر في البرنامج المرسوم سابقاً، تحت عناوين وحجج ضح أرباح في الأسواق اللبنانية وتحقيق ثروة لهذه المنطقة. فأزيل من المشروع كل المخططات المتعلقة بالبنى التحتية والتي يتحول فيها الوسط الى نقطة تلاق، كما صُرف النظر عن المشاريع المركزية كالجامعات وغيرها، لصالح التركيز على الأبنية التجارية والمكاتب والشقق الفخمة. ناهيك عن ذلك فقد جرى السطو على الأملاك العامة التي حولت الى الشركة لقاء إنشاء البنى التحتية الخطوة التي شطبت من حسابات القيمين على المشروع.
وللأسف، يشير نحاس، الى أنه وعندما جاء الطائف وكان رفيق الحريري قد أصبح لاعباً سياسياً، صوّت المجلس النيابي عام 1991 على قانون أقر بموجبه تحويل وسط العاصمة الى شركة عقارية تجارية من خلال تحويل الملكيات والحقوق الى أسهم وإدخال مساهمين جدد من خلال اكتتابات، وفيما يخص النزاعات بين المالكين أنفسهم، فقد تم حل الأمر عبر لجان تخمين.
أقر القانون وصدرت مراسيمه، وبات لدينا ما يُعرف بشركة "سوليدير"، بعدما تنازلت الدولة عن الفكرة الأساسية بوسط عاصمة للجميع، لصالح إنشاء مشروع تجاري للأغنياء فقط من لبنانيين وأجانب. وهنا يؤكد نحاس أنه وعلى الرغم من تمركز "سوليدير" على ثروة عقارية هائلة، إلا أن حجم مديونيتها يزداد يوماً بعد يوم، ما حول وسط العاصمة الى مدينة أشباح بعد إقفال العديد من المحلات التجارية. ناهيك عن قضم حقوق الكثير من العمال والتخلف عن دفع رواتبهم.
بعد كل هذا العرض، يلفت نحاس الى الارتكابات التي نفذتها "سوليدير" تلك الشركة التي قامت على أنقاض الأملاك العامة، فيوجزها بالآتي:
-انتزاع ملكيات تحت حجة "المنفعة العامة" بينما الواقع بيّن أنها لم تصب إلا في سياق المنفعة الخاصة
-تدمير أقدم مناطق عمرانية تختصر تاريخ بيروت الثقافي
-جرف الآثار بحجة إنجاز الاعمال بسرعة
-إنفاق هائل لبناء السنسول البحري بتكبير الردم الى أربعة أضعاف مساحته طمعاً بمساحات إضافية هائلة لبيعها للمستثمرين
-تفويت الفرصة التاريخية بربط جميع المناطق وتوحيد المدينة حول وسطها
يختم نحاس حديثه بالإشارة الى أنّ جريمة "سوليدير" لم ترتكب في السر بل أتت بموافقة العديد من الأطراف السياسيين، ما حوّل وسط العاصمة من فرصة للجمع الى جزيرة معزولة لا يدخلها إلا قاصدوها.