خاص العهد
كيف أجهض حزب الله العصر الأميركي؟
جهاد حيدر
من مميزات انجازات وانتصارات محور المقاومة، أن كل حلقة منه كان لها دورها الذي يتناسب مع كل مرحلة وظروفها في صناعة كل انتصار من انتصاراتها، على تفاوت. حتى عندما يتم الحديث عن أن ساحة من ساحات هذا المحور كانت ميداناً لاسقاط المخطط الاميركي، كان للاخرين دورهم الأساسي ايضاً في صناعة هذا النصر. الميزة الاخرى، أن كل محطة من محطات الصراع المتواصل شكلت منعطفاً مفصليا في صناعة مستقبل المنطقة في الاتجاه المعاكس لما كانت تخطط له الولايات المتحدة و"اسرائيل". هذا المفهوم ينطبق على كل من الجمهورية الاسلامية في ايران، والعراق وسوريا ولبنان.
شكل إفشال المخطط الاميركي من احتلال العراق، وطرده (رغم أنه يعود جزئيا) محطة مفصلية في رسم مستقبل العراق والمنطقة. المفهوم نفسه ينطبق على مواجهة التهديد التكفيري في سوريا، وفي كل المراحل ينطبق على موقف ودور ايران التي شكلت العمق الاستراتيجي للمقاومة وداعميها في مواجهة هذه التهديدات. في نفس السياق، كان لانتصار العام 2006 اسهامه الاساسي في هذا المسار التاريخي الذي حال دون بسط الهيمنة الاميركية على المنطقة.
لماذا وكيف شكل انتصار العام 2006 مدخلا لإسقاط مشروع ادخال المنطقة في العصر الاميركي؟
لم يعد خافياً أن الولايات المتحدة في ظل رئاسة جورج بوش الابن، حاولت تنفيذ مخطط فرض الهيمنة الاميركية على المنطقة ومن خلالها بسط هيمنتها على العالم. بدأت محاولة تنفيذ هذا المشروع في احتلال العراق وانتقل لاحقاً عبر البوابة اللبنانية مع ايكال مهمة التنفيذ الى "اسرائيل".
بقراءة خاطفة لتلك المراحل، يمكن ملاحظة أن تعثر الاحتلال الاميركي في العراق، دفع الولايات المتحدة للانتقال الى لبنان بهدف احتواء مفاعيل الفشل الذي لاحت ملامحه، في حينه، وبهدف تحقيق جزء أساسي من أهدافه عبر الاداة الاسرائيلية. لو أن الاحتلال الاميركي للعراق حقق أهدافه في الساحتين العراقية والاقليمية (السورية والايرانية) لما كان هناك حاجة لاستخدام "اسرائيل" بل كانت مفاعيل النجاح الاميركي المفترض ـ على الاقل بحسب الرهان الاميركي ـ كفيلة بتحقيق أهدافه على الساحة اللبنانية وهو ما عبر عنه بشكل صريح رئيس استخبارات الجيش الاسرائيلي خلال حرب العام 2006، اللواء عاموس يادلين في محاضرة له عام 2016 (بعدما أصبح رئيس لمعهد ابحاث الامن القومي في جامعة تل أبيب).
لفت يادلين في حينه أنه كانت هناك رهانات اسرائيلية بأن التطورات الإقليمية والدولية ستؤدي إلى إضعاف حزب الله وكبحه. ومن المحطات الأساسية التي عزّزت هذه الرهانات قبل أن يتبيّن لاحقاً فشلها: أحداث 11 أيلول وما تبعها من إعلان واشنطن الحرب على الإرهاب؛ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003؛ والقرار 1559 الذي كان يدعو إلى نزع سلاح حزب الله. وأوضح انه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان، "بدا في حينه أن حزب الله ضعف في مقابل تصاعد نفوذ القوى الموالية للغرب، ما أعطى انطباعاً في إسرائيل بأن الأمور تتطور إلى الجانب الصحيح، وأن حزب الله سيتفكك تلقائياً".
كان الرهان الاميركي ـ الاسرائيلي، بأن يؤدي سحق حزب الله وانتصار "اسرائيل" الى نجاح المخطط الاميركي في لبنان، وتطويق سوريا تمهيداً لاسقاطها. وفي هذه الحالة يتم إعادة إنتاج البيئة الاقليمية التي فشل الاحتلال الاميركي للعراق في انتاجها. هذه النتائج المقدَّرة ـ أميركيا ـ كانت كفيلة بتغيير المسار التاريخي للمنطقة لصالح المشروع الاميركي. وفق هذا السيناريو، كان يمكن للولايات المتحدة أن تحتوي فشل احتلالها للعراق، بل وتحويل سوريا الى منصة تستند اليها لمواجهة تداعيات هذا الفشل والدفع باتجاه انجاح المخطط الاميركي في العراق...
لكن فشل اسرائيل في مواجهة حزب الله، حال دون تبلور هذا المسار. وتكامل هذا الانتصار مع انتصار المقاومة في العراق... وصولاً الى إسقاط مخطط ادخال المنطقة في العصر الاميركي.
على خلفية هذا التحول الاستراتيجي بدأت الولايات المتحدة، بالبحث عن بدائل اتضح لاحقاً أنها هدفت ايضاً الى محاولة إسقاط سوريا عبر بوابة الارهاب التكفيري، بعدما فشلت عبر الارهاب الصهيوني. وهنا بالذات تبرز نتيجة هامة جداً، وإضافية، لانتصار العام 2006، أنه لم يقتصر فقط على افشال المخطط الاميركي في ذلك الحين، بل ادى ايضا الى انتاج معادلات اقليمية ساهمت جداً في مواجهة المخططات التي تلت في الساحة السورية والاقليمية.
عند قراءة الخارطة الاقليمية المحيطة بسوريا، يحضر بشكل فوري السؤال عن العوامل التي كبحت قوى اقليمية عن التدخل العسكري المباشر والواسع، وعلى رأسهم الكيان الاسرائيلي لتغيير موازين القوى لمصلحة الجماعات الارهابية والتكفيرية، وهو ما كان يمكن أن يؤدي الى تدحرج التطورات في الساحة السورية نحو مسارات غير تلك التي سلكتها.
فيما يتعلق بـ"اسرائيل" كانت نتائج حرب العام 2006، الأكثر حضوراً في وعي وحسابات صناع القرار السياسي والامني في تل ابيب. اذ بعدما ثبت لديهم بالتجربة الميدانية أنهم عاجزون عن الانتصار في مواجهة حزب الله، وعن اسكات صواريخه، كان عليهم أن يأخذوا بالحسبان أن أي تدخل عسكري خارج خطوط حمراء معينة، سيؤدي الى مواجهة عسكرية واسعة لن تكون فيه قادرة عن منع تساقط الصواريخ على جبهتها الداخلية وهو ما ساهم بشكل رئيسي في ردعها عن الكثير من السيناريوهات وفي أكثر من محطة.
بقراءة اجمالية للمسار الذي انطلق في 14 اب/ أغسطس 2006، يلاحظ أن تداعيات هذه المحطة الاستراتيجية، والمعادلات التي أنتجتها، كانت وما زالت تتدفق مفاعيلها لصالح محور المقاومة. بل إن هذه المحطة مضروبة بأضعاف، وما انتجته من معادلات أثقلت صانع القرار الاسرائيلي، ومعه، ومن خلفه الاميركي، حالت دون الكثير من السيناريوهات الكفيلة بتغيير مجرى التاريخ لمصلحة مشروع العصر الاميركي. ومن أبرز التجليات المتصاعدة لهذا المفهوم (المعادلات التي أثقلت صانع القرار) بفعل الانتصار التأسيسي في 14 اب/ أغسطس 2006 ، ما لوَّح به الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مقابلته مع قناة المنار (12 تموز/ يوليو 2019) بوضع "اسرائيل" على خط الزوال في مواجهة أي خيار عدواني اميركي اسرائيلي واسع.