مقالات مختارة
المقاومة وإشكالية الفساد
محمد شقير
ليست جديدة هذه الحملة على المقاومة، وهذا السعي المسعور إلى الإضرار بمكانتها ودورها، والذي لا يوفّر معطى أو آخر إلا ويصرّ على استغلاله لبلوغ وطره منها، وشيطنتها. هذا ولن يكون آخر فصول تلك الحملة ما نشهده من مسعى للوصل ما بين المقاومة وحضورها، من جهة، وما بين الفساد المستشري في النظام اللبنانيّ، بل في الاجتماع اللبنانيّ العام، من جهة أخرى. وهو ما يثير سؤالاً عن مدى مصداقيّة هذه الحملة وموضوعيّتها، إذ إنّ مجمل الشواهد والأدّلة تفضي إلى أنّها لا تعدو أن تكون جزءاً من أساليب الصراع السياسي على السلطة، ونيل الحصّة الأوفر منها، وإضعاف القدرة الردعيّة للبنان أمام العدوان الإسرائيلي المستمرّ على أرضه وبحره وإنسانه وحقوقه الاقتصادية، وصولاً إلى إلحاقه بمحاور إقليمية ودولية، تمارس التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وتتماهى معه في أكثر من سياسة وموقف.
إنّ ما تقدّم يستدعي أن نشير باختصار، وبشكل عام، إلى تعريف الفساد ومجالاته، ومجمل أسبابه وعوامله في المسألة اللبنانيّة، لنرى أين تقع تلك الحملة في مقاربتها لقضية الفساد، والانهيار الاقتصادي في لبنان.
أمّا في التعريف، فتكثر التعاريف التي تتحدّث عن الفساد، حيث إنّ بعضها يربط ما بين الفساد وما بين سوء استخدام السلطة، بينما يربط البعض الآخر بينه وبين انتهاك الواجب العام، أو القوانين، أو المعايير الأخلاقيّة. كما يجري البحث في أسباب الفساد في المجتمعات والمؤسّسات، حيث إنّ بعض النظريّات المفسّرة للفساد تنحو إلى البعد الأخلاقي، في حين أنّ نظريّات أخرى تنحو إلى البعد الثقافي، أو القانوني، أو الحضاري. ويُبحث أيضاً في أشكال الفساد، ومظاهره، وأيضاً في مجالاته وميادينه، من سياسي إلى مالي، وإداري، واقتصادي، وأخلاقي، واجتماعي، ومؤسّساتي، وثقافي، وقانوني، وقضائي، وأمني، وصولاً إلى البحث في استراتيجيّات مكافحة الفساد، وأساليبها، وخططها، وبرامجها.
أشرت إلى هذا المختصر لأقول: إنّ الفساد في مختلف أبعاده المعرفية، ومجمل ما يتّصل به، هو حقلٌ قائم بذاته، ويرقى إلى أن يكون عِلماً يحتاج الخوض فيه ـــــ نظريّاً وعمليّاً ـــــ إلى الكثير من العلمية والموضوعية والمصداقية والنزاهة، وإلى أن يكون من يحمل لواء محاربته سليماً من أي من مثالب الفساد أو عوارضه، أو صفاته. أي يجب أن لا يكون مصاباً به، أو متلطّخاً ببعض هناته، حتّى يُقبل الكلام منه في الفساد، ويُرتضى قوله. لأنّ من يكون فاسداً كيف يمكن أن ينظّر في الفساد، ويصدق في معالجته.
وهنا عندما نأتي إلى المسألة اللبنانيّة، التي كثر الحديث فيها عن الفساد، وخصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية، والانهيار الاقتصادي الذي حصل ــــــ وما زال في لبنان ــــــ لا بد أن يُطرح سؤال حول أسباب الفساد وميادينه، لنصل إلى خلاصة ترتبط بما يسعى البعض إلى إلصاقه بالمقاومة، وتحميله إيّاها، من تغطية للفساد، وتبعاً لذلك، لبعضٍ من مسؤولية الانهيار الاقتصادي الحالي.
قد يصحّ القول إنّ الفساد في لبنان لا ينحصر في النظام السياسي، فضلاً عن تلك النخبة السياسية، أو جلّها، وإنّما يتعدّاه إلى النظام العام (الدولة) في مجالاته المالية، والمصرفية، والإدارية، والاقتصادية، والقضائية وغيرها. بل قد يصحّ القول أيضاً إنّ الفساد يتعدّى النظام العام (الدولة)، إلى الاجتماع العام، في مجالاته الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية. حيث قد يكون الفساد في أعلى الهرم، وفي النظام العام، أو رأسه، تعبيراً عن فسادٍ ما في قاعدة الهرم، وفي ذاك الاجتماع العام، في أي من ميادينه ومجالاته، حيث لا يمكن الفصل بشكلٍ حاد ما بين الفساد في النظام العام (الدولة)، وما بين الاجتماع العام.
وعليه، قد لا يكون صحيحاً اختزال الفساد في النظام العام (الدولة)، بل لا بد من البحث عن الفساد وجذوره في الاجتماع العام، وليس فقط الاجتماع السياسي. وليس صحيحاً اختزال الفساد في النظام السياسي، بل لا بد من البحث في فساد النظام الاقتصادي، والمالي، والمصرفي، والإداري. وليس صحيحاً اختزال الفساد في النظام السياسي في الطبقة السياسية، بل لا بد من البحث عن الفساد في جميع مستويات النظام السياسي ومراتبه. وبتعبيرٍ معاكس، يجب في بحثنا عن الفساد أن نتجاوز تلك الطبقة السياسية إلى النظام السياسي، وأن نتجاوز النظام السياسي إلى النظام العام (الدولة)، وأن نتجاوز النظام العام إلى الاجتماع العام في ميادينه كافّة.
هذا فيما لو أردنا أن نبتعد عن الانتقائية والتوظيف السياسي، وأن نقدّم رؤية علمية موضوعية متكاملة وهادفة، تشكّل أساساً لمعالجات علمية ومجرّدة ـــــ غير سياسية ـــــ لقضية الفساد. لكن ما الذي يجري في هذا الشأن؟ نجد أنّ من يمتهن الاستثمار السياسي في الأزمات، يختار من ميادين الفساد النظام العام (الدولة)، ويغفل عن الاجتماع العام. ويختار من النظام العام النظام السياسي، ولا يعطي تلك الأهمّية لأي نظامٍ آخر. ويختار من النظام السياسي النخب السياسية (الزعامات السياسية، أو حتّى الأحزاب)، ولا يولّي تلك الأهمّية لمجمل النظام السياسي ومراتبه. ويختار من تلك النخب الطبقة الأقرب منها إلى المقاومة، ليكون في هذا الوصل مرتكزٌ لتشويه صورة المقاومة ومشروعها. وحتى إن جرى توسيع دائرة الاتّهام، فقد يكون من باب لزوم إضفاء نوع من المصداقية أو الموضوعية على استغلالهم ذاك، ليكون أكثر مقبوليّة لدى الرأي العام.
وأمّا إن كان الكلام عن أسباب ما وصلنا إليه من انهيار اقتصادي، وأزمات ذات صلة، فيمكن أن نذكر على سبيل الإجمال: النموذج الاقتصادي، والنظام المصرفي والمصارف، والطائفية، والنظام السياسي، وثقافة السلطة، وثقافة التبعيّة واستلاب الإرادة، والنفوذ الخارجي والهيمنة الخارجية، والاحتلال والعدوان الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من سبعين عاماً، وصولاً إلى الفساد في مجمل ميادينه. حيث لا يمكن أن نغفل ــــــ في مقام تحديد المسؤوليّات وتثقيلها ــــــ عن دور النموذج الاقتصادي الحالي في ما وصلنا إليه، ولا يمكن أن نتجاوز دور المصارف والنظام المصرفي في ذلك، ولا يمكن أن نتجاوز دور الهيمنة الخارجية، والتماهي الداخلي معها في الحؤول دون اعتماد خيارات اقتصادية تعود بالنفع والفائدة على لبنان، أو دور العدوان الإسرائيلي المتمادي، والذي تسبّب، وما زال، بكثير من الخسائر والأضرار للبنان في اقتصاده، ومصالحه، وأمنه، وحقوقه، أو ما يمكن أن يتحمّله النظام السياسي برمّته، أو ثقافة السلطة، أو الطائفية، وصولاً إلى الفساد في مختلف تعابيره.
والسؤال الذي يطرح نفسه أنّه لماذا يسعى البعض، في مقام البحث في الفساد وتحليل أسباب الانهيار وتثقيل مسؤوليّاته، إلى:
إمّا إغفال مجمل الأسباب الأخرى التي أفضت إلى الانهيار سوى الفساد، وفي ذاك الميدان الذي يخدم استغلالهم تحديداً، أو التقليل من شأنها، والإضاءة بشكل أو بآخر على ذاك السبب الذي يسمح لهم ـــــ بحسب اعتقادهم ـــــ بممارسة ذاك الاستغلال السياسي، بهدف تشويه المقاومة، والإضرار بها؟
وإذا أردنا أن نجمل ما ذكرنا، لنبني عليه استنتاجاً أو آخر حول كيفيّة مقاربة هذه الفئة أو تلك، إعلامياً وسياسياً لإشكالية الفساد، والانهيار الاقتصادي، فيمكن أن نلحظ ما يلي: افتقاد هذه المقاربات إلى العلميّة، وعدم المصداقية، وعدم الموضوعية، والانتقائية، والمبالغة في بعض القضايا، أو الإضاءة عليها في مقابل التعمية على قضايا أخرى ذات صلة، أو عدم تثقيلها، والشعبوية، والاستغلال السياسي في معارك تحديد الأحجام السياسية، ونيل النصيب الأوفر من السلطة، والتوظيف السياسي في مشاريع خارجية تهدف إلى ضرب المقاومة، وتشويهها، خدمة لمصلحة العدو الإسرائيلي وغاياته.
وهو ما يجعل من السهولة بمكان الوصول إلى هذا الاستنتاج، وهو أنّ هذه الطريقة التي يمارسها الفريق المعادي للمقاومة، تدلّ على أنّ مشكلة هذا الفريق في جوهرها ليست في الفساد، وليست في الانهيار الاقتصادي، وإنّما يتعامل مع قضيّة الفساد كوسيلة لتحقيق مآرب سياسية تتصل بسعيه إلى نيل حصّة أوفر من السلطة. ويتعامل مع قضية الانهيار الاقتصادي كذريعة لتحقيق غايات خارجية تتصل بالمقاومة وصراعها مع إسرائيل. وهو ما يجعلنا نستنتج أنّ اتهام هؤلاء للمقاومة بأنّها تغطّي الفساد، أو أنّها شريكة فيه، إنّما يعبّر في الواقع عن أشد مراتب الفساد، وأشنعها، ويحمل في طيّاته جملةً من الموبقات التي لا تقلّ سوءاً وخطراً عن تلك المثالب التي يدّعون محاربتها؛ والسبب في ذلك:
1- لقد كان العدوان والاحتلال الإسرائيلي، وما زال، من أقبح أشكال الفساد وصوره، بما سبّبه ويسبّبه للبنان من ضرر اقتصادي، ومالي، وسياسي، وإنساني، وأمني، وفي المجالات كافّة. وهنا عندما تبادر هذه الفئات إلى ممارسة الضغوط على المقاومة وتشويه صورتها؛ فهي بذلك تعمل على إضعاف الجهة (المقاومة) التي تقف في وجه هذا الفساد وتردعه، وتحول دون وصول ضرره إلى الدولة والوطن. وهي بذلك تعين هذا الفساد الإسرائيلي ـــــ من حيث أرادت أم لم ترد ـــــ وتقف إلى جانبه، وهي بذلك شريكة في هذا الفساد، بل في أخطر أنواع الفساد على لبنان الدولة والوطن والإنسان.
وعليه، لا بد من طرح هذا السؤال: كيف يكون صادقاً في دعواه محاربة الفساد، أو الثورة عليه، من يتّهم المقاومة ويتحامل عليها في موضوع الفساد زوراً وبهتاناً، بهدف شيطنتها، والإضرار بمكانتها، ودورها، وقدرتها على ردع العدوان الإسرائيليّ وفساده؟ أي إنّ من تكون لديه مصداقيته في محاربة الفساد، يجب أن يعضد ويعين أية جهة تحارب هذا الفساد وتواجهه، فكيف إذا كان هذا الفساد بحجم الفساد الإسرائيلي، وعدوانه، واحتلاله، وإضراره بلبنان. ولكن عندما نجد على العكس من ذلك، أنّه يعمل على إضعاف تلك الجهة التي تواجه الفساد الأشدّ خطراً على لبنان، فهذا يعني أن لا مصداقية لأولئك في دعواهم محاربة الفساد، وأنّهم يتّخذون من محاربة الفساد شعاراً لممارسة ألوان شتّى من الفساد وأشكاله.
2- إنّ الهجوم على المقاومة واستهدافها بالطريقة التي تحصل، إنّما يفضي إلى تعزيز الانقسامات الطائفيّة، وتغذية العصبيات والعنصريات الفئوية على اختلافها، ممّا يؤدّي إلى المزيد من الأضرار، والمفاسد، التي تتأتّى من الطائفية واستعارها على الدولة واستعادتها، أو على أي مشروع يهدف إلى إنقاذها من هذا الانهيار الاقتصادي وغير الاقتصادي.
كيف يمكن أن يكون صادقاً في دعواه استعادة الدولة والإنقاذ الاقتصادي، مَن يوهن الإرادة الوطنية؟
بل لا بدّ من القول: إن كانت الطائفيّة من أهمّ أسباب الفساد في لبنان، وأسباب انهياره الاقتصادي، فكيف يكون صادقاً في دعواه محاربة الفساد، من يصرّ، في المقابل، على تعزيز أحد أهمّ أسباب الفساد في لبنان، وهو الطائفية بمختلف أشكالها، وتعابيرها المقيتة. إنّ من يستخدم هذا الخطاب العنصري والطائفي في الهجوم على المقاومة، إنّما يمارس تهافتاً في القول، عندما يدّعي محاربة الفساد، وانفصاماً في البيان، عندما يصرّح أنّه يريد استعادة الدولة؛ إذ إنّ من يريد استعادة الدولة، كيف يستخدم خطاباً يؤدي إلى تقويضها؟ ومن يريد محاربة الفساد، كيف يوظّف بياناً يعبّر فيه عن واحدة من أسوأ أسباب الفساد وتعابيره الطائفية في لبنان؟ أليس هذا تناقضاً في القول، أن تستخدم خطاباً تدّعي فيه محاربة الفساد، وهو في الوقت عينه، يحمل في طيّاته ومضامينه أسوأ معاني الفساد، وأسبابه، وتعابيره؟ أليس هذا وقوعاً في الفساد، وممارسة له، من حيث الدعوة إلى محاربته؟
3- توجد بعض الجهات، الإعلامية وغير الإعلامية، في لبنان تخضع لنوع من التأثير، أو النفوذ، أو الهيمنة من الخارج، سواء كان إقليمياً أو دولياً. هذا الخارج الذي تقوم سياسته تجاه لبنان على جملة من القضايا، التي تقع في صلبها المصلحة الإسرائيلية، والتي تتمثّل في إضعاف المقاومة، وإيذائها، والإضرار بها. وهو ما يعبّر عن حالة من الضعف في احترام الذات الوطنية والانتماء الوطني، والتبعية، والاستلاب، الذي له تعابير مختلفة، يتصل بعضها بما ذكرنا من موقف من المقاومة، وبالخيارات الاقتصادية للبنان، وغير ذلك.
وهنا لا بد من طرح السؤال التالي: أليس الاستلاب أمام الإرادات الخارجية من أخطر أشكال الفساد وأسبابه، في الآن نفسه؟ أليست التبعية للخارج، أو القبول بممارسة الهيمنة الخارجية، أو التدخّل الفاضح والمهين في كثير من الأحيان في شؤوننا الداخلية، أو الانتقائية في ممارسة السيادة، أو الضعف في التعبير عن الكرامة الوطنية والعزّة القومية؛ أليس كل ذلك من مظاهر الفساد وأسبابه، أو بالحد الأدنى من الأسباب التي ساهمت وتساهم في انهيار الدولة، سواء في بعدها الاقتصادي أم في غيره، وما زالت تحول دون استعادة الوطن لعافيته، وتمنع من استعادة الدولة، أو الأخذ بأهمّ أسباب الإنقاذ الاقتصادي في لبنان؟
يكفي أن نشير في هذا الشأن إلى الفرص الاقتصادية التي تم إهدارها إلى الآن، نتيجة لوهن الإرادة الوطنية، وضمور العزّة القومية، والفرعونية السياسية التي تُمارس عليه من أطراف شتّى. وهنا أيضاً، كيف يكون صادقاً في محاربة الفساد من يتماهى ـــــ بالحدّ الأدنى ـــــ مع ذاك التأثير الخارجي أو الهيمنة الخارجية، وخصوصاً عندما يرتبط الأمر بقضية تتصل في جوهرها بحماية لبنان، وأمنه الوطني، وردع أي عدوان إسرائيلي أو تكفيري على إنسانه، وأرضه، وبحره، وسمائه، ومصالحه، وحقوقه، واقتصاده؟
وكيف يمكن أن يكون صادقاً في دعواه استعادة الدولة والإنقاذ الاقتصادي، مَن يوهن الإرادة الوطنية، ويضعف استقلال الإرادة السياسية للدولة، بل للاجتماع السياسي اللبناني، بمزيد من التبعية، والاستلاب، والقبول بممارسة الخارج لهيمنته، ونفوذه، وتغوّله؟
إنّه لا يمكن الحديث عن استعادة الدولة دورها وعافيتها على جميع المستويات من دون الحديث عن الاستقلال الحقيقي، والحرّية الناجزة، والكرامة الوطنية، والعزّة القومية، وعن حد ولو أدنى من التضامن الوطني، الذي يقوم على أساس من تشخيص التهديد الأشد على لبنان، المتأتّي من الاحتلال والعدوان الإسرائيلي وضرورة ردعه ومواجهته، فضلاً عن الخطر التكفيري، والحؤول دون أية هيمنة خارجية، أو تبعية تضر بالمصلحة الوطنية، ويُراد لها أن تخدم الكيان الإسرائيلي، ومصالحه.
4- عندما يكون الهجوم على المقاومة، والسعي إلى تشويهها، والإضرار بها، سبيلاً لدى هؤلاء للوصول إلى السلطة، ومدخلاً لنيل حصّة أكبر منها؛ ألا يعبّر هذا الأمر عن ثقافة السلطة تلك ومساوئها، والتي هي من مظاهر فساد الثقافة السياسيّة السائدة، هذا الفساد الذي يعد من أسباب ما وصلنا إليه في لبنان من أزمات اقتصادية وغير اقتصادية.
فعندما تسعى تلك الجهات، لأجل حسابات سلطويّة وسياسية، إلى شيطنة المقاومة، وتطالب بتجريدها من عناصر القوّة لديها، التي تردع إسرائيل عن ممارسة العدوان على لبنان، أليس في هذا إضراراً بالأمن القومي اللبناني، أو قد يصل إليه (ذكرت بعض الصحف أنّ بعض المتعاملين مع العدو الإسرائيلي اعترف أنّه فعل ذلك كرهاً بالمقاومة)، وإغراءً بالعدوان على لبنان، وإضعافاً له في مواجهة العدو الإسرائيليّ؟ أليس في هذا الأمر تعبيراً عن أسوأ معاني ثقافة السلطة في اجتماعنا العام، عندما ترتضي أن تمارس إضراراً بالمصلحة الوطنية العامّة، وتهديداً للمصلحة القومية، في ما يرتبط بالعدو الإسرائيلي، تنفيذاً لتوجيهات خارجية، أو من أجل تحقيق مصلحة خاصّة، ترتبط بنيل حصّة أو أخرى من السلطة، في موسم انتخابي أو آخر؟
ما الذي يختلف فيه هؤلاء عمن يتهمونهم بالفساد؟ إنّ ما يقوله هؤلاء هو أنّ تلك الطبقة السياسية قد قدّمت مصالحها الخاصّة على المصلحة الوطنيّة؛ أليس هذا نفسه ما يفعله هؤلاء، عندما يقدّمون مصالحهم السلطويّة، والانتخابية على المصلحة الوطنية العامّة، التي تعني الاحتفاظ بجميع عناصر الردع والقوّة في مواجهة إسرائيل، والابتعاد عن الطائفية، وعن أيّة تبعية للخارج أو ارتهان له؟ أليس هذا هو الفساد بعينه؟ أليس هذا من أخطر تعابير الفساد عن ثقافة السلطة الفاسدة تلك، والتي تبدي قبولاً بكشف لبنان أمام العدوان الإسرائيلي، ليكون هذا سبباً للوصول إلى السلطة، والاستزادة منها؟
عندما ينخرط البعض في مشروع كشف لبنان، وإضعاف قدرة الردع لديه في مواجهة إسرائيل، من أجل الوصول إلى السلطة، أو ربما العكس من ذلك، يريد السلطة لإلحاق لبنان بمشروع التطبيع مع إسرائيل، أو قد يكون كل منهما برأسه هدفاً له؛ ماذا يمكن أن نصف هذا الوضع؟ أليس هذا هو الفساد نفسه الذي يدّعون محاربته؟
5- إنّ من أسوأ أشكال الفساد العمل على إفساد العلاقة بين مختلف المكوّنات اللبنانية، وضرب الثقة والتضامن في ما بينها. إذ إنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن الذهاب إلى ذاك المدى من مشاريع التعافي، والإنقاذ، واستعادة الدولة، من دون أن يكون لدينا مستوى أو آخر من الثقة بين تلك المكوّنات، والتضامن الوطني بينها، والتوافق ولو على حد أدنى من رؤية وطنية شاملة، وتالياً اعتماد الخطاب والسياسات التي تفضي إلى ذلك؟
ولكن عندما نأتي إلى خطاب وسياسات العديد من تلك الفئات، التي لا تنفك تتحدّث عن مجمل تلك العناوين؛ نجد أنّها تمعن في هدم ما تبقّى من ثقة بين اللبنانيّين، وتوغل في القضاء على ما خلص من تضامن وطني بينهم، وتذهب بعيداً في تعزيز ثقافة العنصرية، ولغة الحرب الأهلية، ومناخات الإلغاء، والاحتراب الداخلي؛ فهل هذا ما يؤسّس لبلوغ تلك الأهداف المعلنة، وتحقيق الشعارات المرفوعة؟ أليس العمل على هدم تلك الثقة، والإضرار بالتضامن الوطني، والدفع باتجاه الاحتراب الداخلي، هو أخطر أشكال الفساد في لبنان، والتهديد الأكبر لمشاريع التعافي والإنقاذ؟ ألا تمثّل هذه السياسة العائق الأكبر أمام استعادة الدولة، وإعادة بنائها؟
لقد قلت ما تقدّم، لأنّنا نحتاج إلى تمييز من يكون فاسداً عمّن يكون صالحاً، ومن يكون مفسداً عمّن يكون مصلحاً، حتى نتبيّن الموقف بشكل علمي وموضوعي، وحتى لا نؤخذ بكثير من الشعارات، وأساليب البيان، والنفاق السياسي. فليس كل من رفع شعار الإصلاح كان صادقاً في دعواه، ولا كل من نصّب نفسه الخصم والحكم في مشروع مكافحة الفساد يصدق في قوله. ولا كل من كان في السلطة كان فاسداً، ولا كل من كان خارجها كان صالحاً، فالمعيار في ذلك ليس الكون في السلطة من عدمه. وليس الفساد السلطوي هو الفساد الأوحد. فكثيرٌ هم الفاسدون من خارج السلطة السياسية أو غيرها. بل إنّ بعض عوارض الفساد ومظاهره على بعضهم تجعلك تميل إلى الاعتقاد أنّهم لو وصلوا إلى السلطة كما يشتهون فسيكونون أشدّ فساداً في البلاد والعباد ممّن يعيبون عليهم الفساد.
لقد قلت ما سلف لأنّي أعتقد أنّ المقاومة في لبنان استطاعت أن تقدّم نموذجاً مضيئاً في الصلاح، وأن تترك أثراً بعيداً في الإصلاح، سواء في مواجهتها للفساد الإسرائيلي، أو في سعيها لمواجهة أكثر من فساد داخلي، أو في تقديمها لأكثر من مثال وطني في سياستها الداخلية، أو في حرصها على تعزيز أواصر الثقة والتضامن بين اللبنانيين، أو في إبرازها لأكثر من نموذج في حرّية الإرادة الوطنية، والاستقلال والسيادة الحقيقيين، وليس المزيّفين، وفي تقديم الغالي والنفيس لحماية لبنان وحقوقه واقتصاده، والتأسيس لاستعادة الدولة ودورها وحضورها، وفي تحمّل العديد من المسؤوليّات التي كانت على الدولة أن تقوم بها، في الدفاع، والتنمية، والخدمات، مع ما تستلزمه هذه المسؤوليّات من جهود، وتضحيات، وإمكانيّات مالية كبيرة جداً، ونفقات هائلة، كان يجب أن تُدفع من خزينة الدولة، لو تحمّلت الدولة مسؤوليّاتها في هذا الجانب ـــــ الدفاع في وجه العدوان الإسرائيلي ـــــ وسادت في إرادتها، وأحكمت قرارها.
لقد أضحت المقاومة جزءاً من معادلة استعادة الدولة ومواجهة الفساد على أكثر من مستوى، ويمكن أن تكون شريكاً أساسياً في مشروع الإنقاذ والتعافي على المستوى الاقتصادي وغيره، وهذا يعني أنه قد تكون هناك حاجة ما ـــــ في سياق بناء رؤية وطنية لمكافحة الفساد ـــــ إلى إعادة النظر في كيفية التعامل مع ما يمثّله المتحاملون عليها في موضوع الفساد، لأنهم جزء من هذا الفساد، وتعبير واضح عنه، في الارتهان للخارج، وتسعير الخطاب الطائفي، والسعي إلى كشف لبنان أمام العدو الإسرائيلي، ونزع عناصر القوة منه لردع عدوانه، وإشاعة مناخات الحرب الأهلية والاحتراب الداخلي، والإضرار بالمصالح الوطنية، والإساءة لأكثر من سلم أهلي، أو إعاقة العمل على إعادة بناء الدولة واستعادتها.
لا يعني ما تقدّم ألا توضع تجربة المقاومة على طاولة البحث، والتشريح، بل والنقد؛ فليس هذا المراد، وإنّما المراد التمييز بين من يمارس تحليلاً أو نقداً بشكل علمي وموضوعي، وغير منحاز، وبنّاء، وبين من ارتضى أن يكون مجرّد أداة في حملة ذات تحريك خارجي لشيطنة المقاومة، والإساءة إليها، يُراد منها ـــــ من جملة ما يراد ـــــ أن تخدم مصلحة العدو الإسرائيلي في لبنان، بإضعاف المقاومة، وتجريدها من عناصر الردع لعدوانه، في استعادة لأهداف عدوان 2006، ولكن هذه المرّة بأدوات داخلية، وأساليب وطرق مختلفة.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية
المصدر: صحيفة الأخبار
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
20/11/2024
في بيتنا من يتبنّى فهم العدو للقرار 1701!
19/11/2024
محمد عفيف القامة الشامخة في الساحة الإعلامية
19/11/2024
شهادة رجل شجاع
13/11/2024