مقالات مختارة
لبنان والمعادلات الإقليميّة
نقلا عن صحيفة "البناء" - ناصر قنديل
لا بدّ من لفت الانتباه الى ان لبنان السياسي مولود حديث لم يعرف الوجود بحدوده التي نعرفها الا كثمرة معادلات إقليمية تولدت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وتفكك الإمبراطورية العثمانية وسيطرة الحلفاء وسيطرة الاحتلال البريطاني الفرنسي على منطقة المشرق العربي وغرب آسيا، وإعادة رسم الجغرافيا السياسية وفقاً لاتفاقيات سايكس بيكو، ووعد بلفور بإنشاء كيان الاحتلال على أرض فلسطين، وسلخ الأقضية الأربعة من ولايات دمشق وحمص وعكا وبيروت وضمها إلى القائممقاميتين في جبل لبنان، بعكس إرادة إهلها الذين عبروا عن رفضهم الانضمام الى دولة لبنان الكبير الذي أعلنه الجنرال غورو عام 1920، وبعد مرور قرن على القرار، لم ينجح اللبنانيون الذين ارتضوا العيش في كيان سياسي واحد، في تحويل هذا الكيان إلى وطن، وبقيت التفاهمات على تنظيم تقاسم السلطة بين الجماعات الطائفية، من صيغة 1943 الى اتفاق الطائف، تقع على سطح الاجتماع السياسي اللبناني، الذي حافظ في العمق على الجماعة الطائفية مرجعاً تأسيسياً في صناعة السياسة، حيث عناصر الشد والجذب بينها أعلى مرتبة من العقلانية السياسية، كما تقول تجربة التفكك المتمادي لقوى 14 آذار من جهة، وتجربة الغالبية النيابية التي وقفت وراء حكومة الرئيس حسان دياب وفشلها في التماسك، من جهة مقابلة، ثم فشل محاولات توافق مكوناتها على خيار رئاسي مشترك، رغم السقوف السياسية الجامعة في ما بين قوى الجبهتين. وهكذا بقيت المعادلات الإقليمية العامل الحاكم في استقرار العلاقات والتوازنات بين الطوائف، تصنع حالات الحرب والسلم في ما بينها.
المعادلات الإقليمية تتغير
على خلفية وراثة الأميركي للنفوذ البريطاني والفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، شكلت الفترة الممتدة بين عامي 1980 و1990 العقد الذي حمل شحنة المتغيرات الإقليمية الكبرى، حيث شهدت تغيير البيئة الإقليمية العربية مع ظهور اتفاقيات كامب ديفيد وخروج مصر من حالة الصراع مع كيان الاحتلال، وإعلان بدء المسار العربي المتصالح مع بقاء الكيان والاعتراف بشرعيّة وجوده، بينما كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان يكسر معادلة الاستقرار التي يفترض أن حياد لبنان الرسمي في هذا الصراع قد قام بتأمينها، كما شهد هذا العقد ظهور لاعب فاعل جديد إقليمياً مع انتصار الثورة الإسلامية في ايران، وشهد تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور الأحادية القطبية الأميركية عالمياً، وانطلاق المقاومة الإسلامية في لبنان، وسوف تظهر هذه العوامل حضورها المتنامي في رسم المعادلات الإقليمية الجديدة المحيطة بلبنان.
المعادلات الإقليمية الجديدة
توّج العقد الممتد بين عامي 2010 و2020 وما بعد، مجموعة تحوّلات بارزة وهامة تنامت وتبلورت في العقود التي أعقبت عام 1990 الذي شهد تسوية الطائف اللبنانيّة كترجمة لتقاطع المتغيرات الإقليمية والدولية، فقد أصيبت الأحادية الأميركية في الصميم، وتراجع الصعود الأميركي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً أمام لاعبين جدد، أبرزهم روسيا والصين وإيران، وأصيب كيان الاحتلال إصابات استراتيجية تتصل بفقدانه قدرة الردع وفشله في الحفاظ على احتلال جنوب لبنان وغزة، وظهر محور المقاومة، وفشل الربيع العربي في إعادة تشكيل المنطقة سياسياً، وتسبّب بتعميم حال الفوضى في كياناتها السياسية، كما فشل في نقل سورية من ضفة إلى ضفة في معادلات الصراع الكبرى حول النظامين الدولي والإقليمي، وشكلت حرب سورية ومن بعدها حرب أوكرانيا، نماذج مجزأة لحرب عالمية ثالثة، تدور حول عناوين بحجم تشكيل نظام عالمي جديد، ونظام إقليمي جديد، تواجه ولادتهما مخاضاً صعباً، يقع لبنان في قلب الصراعات الدائرة بين جبهات المواجهة الدولية والإقليمية التي تخوض التنافس والسباق والقتال لحجز مقاعدها في هذين النظامين.
التوازن الاستراتيجي السلبي
يولد النظام العالمي والنظام الإقليمي، بفعل نصر حاسم يفرضه محور أو تحالف، أو بحصيلة تسوية بين المتحاربين، وتفيد أي مراجعة لموازين القوى الراهنة في الصراع حول النظامين الدولي والإقليمي، أن فرضية النصر الحاسم ومثلها فرضية التسوية، بعيدتان عن التحقق، وأن التوازن الاستراتيجيّ السلبيّ يحكم العالم والإقليم، طرف يملك قوة النار والقدرة على بذل الدماء واقتصاد الأصول الثابتة، وطرف يملك أنابيب المال والمعلومات والإعلام، ففي حرب أوكرانيا على سبيل المثال، تتفوّق روسيا عسكرياً، لكنها لا تستطيع فرض شروطها في تسوية، ولا المضي قدماً نحو نصر حاسم، وفي سورية حيث تفوقت الدولة السورية وحلفاؤها على جبهة الحرب عليها، مضت سنوات ولم تظهر فرصة تسوية تنهي الحرب وتعيد العافية الاقتصادية والسياسية لسورية، أو فرصة إنجاز نصر حاسم، يخرج الاحتلالين الأميركي التركي ويحقق ردع العدوان الاسرائيلي ويستعيد كامل الجغرافيا السورية ومن ضمنها الثروات الاستراتيجية إلى عهدة الدولة السورية.
مأزق الكيان بوصلة جامعة
في قلب هذا التوازن الاستراتيجي السلبي، تبرز أزمة كيان الاحتلال عنواناً محورياً، حيث ترتب على العجز عن خوض الحروب وتحقيق الانتصارات، رسم مسار انحدار حاسم في الخط البياني لتماسك كيان الاحتلال وقدرته على صناعة السياسي، وتحوّل التراجع الى أزمة وجود، عنوانها فحص قدرة الكيان على البقاء، وتظهر المقاومة الفلسطينية المتصاعدة، والقادرة على فرض معادلات ردع متنامية في غزة والضفة الغربية، وتراجع مشروع التطبيع، وظهور محور المقاومة، والانقسام الداخلي العميق بين مكونات الكيان الثقافية والعرقية والسياسية والعقائدية، كعوامل بنيوية غير قابلة للتجاوز أو العلاج، ما يفرض على الطرفين المتقابلين في صياغة المعادلات الدولية والإقليمية إخضاع حركة كل منهما لإيقاع هذا العامل الذي يشكل أولوية برامج كل منهما، حيث واشنطن والغرب يخضعان كل خطوة في المنطقة لحساب تأثيرها على أمن الكيان، وحيث محور المقاومة بقيادة إيران يخضع كل خطوة لفحص معاكس، في ظل استحالة الحديث عن تسوية استراتيجية محورها مستقبل الكيان بين الجبهتين.
أميركا وروسيا والصين جيران
كانت أوروبا اللاعب الدولي الوحيد الذي يمكن وصفه بالجار، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران صارت ايران الإقليمية جاراً موازياً، لكن مع الحرب على سورية صارت أميركا وروسيا جارتين للبنان، ومع الاتفاق السعودي الإيراني الصيني صارت الصين جاراً أيضاً، وفي ظل حياد روسي صيني سعودي تجاه الصراع بين محور المقاومة وكيان الاحتلال، وتموضع اميركي حاسم في قلب هذه المواجهة، لا يبدو أن لبنان انتقل الى ضفة تلقي الإيجابيات الناتجة عن التراجع الذي أصاب الغرب والتقدم الذي صنعه محور الشرق، ويبدو التموضع الطائفي على الجبهتين عنصر استعصاء في صناعة تسوية داخلية.
تسويات صغيرة وحروب صغيرة
يفتح التوازن الاستراتيجي السلبي الحاكم لمعادلات العالم والإقليم، الطريق لحروب صغيرة وتسويات صغيرة، وكما قدّمت تسوية الحدود البحرية الجنوبية للبنان مثالاً عن التسويات الصغيرة لتفادي الحروب الكبرى، قد تقدم المواجهة المقبلة في سورية، سواء في شمالها الغربي او الشرقي مثالاً للحروب الصغيرة، تهرباً من التسويات الكبرى، ويقع الاستقرار اللبناني اليوم بين هاتين الفرضيتين، تسوية صغيرة أو حرب صغيرة، التسوية التي يشكل شرطها اقتناع الأميركي الذي يمسك بقدرة تعطيل الانتظام الدستوري، بأن وجود رئيس يطمئن المقاومة هو فدية تشبه القبول بترسيم الحدود البحرية بما يرضي المقاومة، تفادياً لحرب كبرى، وليس سنداً يشجع المقاومة ويمدها بعناصر قوة لخوض هذه الحرب، كما يقول القلق الاسرائيلي. والأميركي اليوم عالق بين هاتين المقاربتين، والحرب الصغيرة هي تلك التي قد تندلع في سورية بمواجهة الاحتلال الأميركي وتفتح باب تسوية موازية، أو حرب تندلع على الحدود من بوابة عزم المقاومة على تحرير الجزء الشمالي من الغجر، أو حماقة يرتكبها الاحتلال، إلا إذا نجح العقل السياسي اللبناني في إنتاج معادلة داخلية كافية لإنتاج رئيس دون تسوية دولية وإقليمية، من بوابة نتائج إيجابية تنتج عن الحوار الجاري بين حزب الله والتيار الوطني الحر وتتوسع لتشمل آخرين، في ظل تراجع آثار الانهيار الاقتصادي والمالي في ظل التأقلم الذي نجح فيه اللبنانيون بتحقيق فائض في ميزان المدفوعات يقف وراء استقرار سعر الصرف، يمكن تحويله الى نقطة انطلاق للاستقرار السياسي مع رحيل رياض سلامة حكام مصرف لبنان السابق الذي مثل الدولة العميقة المرتبطة بالمشروع الأميركي.
كيانان يعجزان عن التأقلم
من المفيد لفت النظر إلى أن الكيانين السياسيين الناشئين بقرار دولي وإقليمي قبل قرن، كيان الاحتلال ولبنان، مع فارق بنيوي أن كيان الاحتلال منشأ عبر موجات من الوافدين والمستجلبين والمستوطنين، بينما لبنان منشأ من سكان أصليين، يتشابهان في كونهما ولدا بنتيجة موازين قوى، جوهرها عجز لبنان وتفوّق كيان الاحتلال، وأن هذه المعادلة قد انتهت وحل مكانها تفوّق لبنان وعجز الكيان، ومثلما عجز النظام السياسي في كيان الاحتلال عن استيعاب الهزيمة والتراجع واحتواء تداعياتها، لاعتبارات وجودية وعقائدية واستراتيجية، عجز النظام السياسي في لبنان عن التأقلم مع عنصر القوة الذي مثلته المقاومة لاعتبارات طائفية، رغم تواضع طلبات المقاومة السياسية والطائفية، وبعكس قدرة لبنان على تجاوز هذا العجز بتسويات طائفية جديدة، يبدو الكيان عاجزاً عن وقف التدهور في ميزان القوى الذي تسبّب بمأزق الوجود، والسنوات التي تفصل الكيان عن بلوغ سن الثمانين، والقلق من حلول الخراب الثالث، تقع ضمن السنوات الستّ التي تمثل ولاية رئيس الجمهورية الجديد في لبنان، حيث تتموضع القوة الأهم لمحور المقاومة صاحب التهديد الوجودي للكيان، ما يحفز المقاومة للسعي نحو تسوية طائفية تمهد الطريق لإنتاج رئيس يطمئن المقاومة، بدلاً من حسابات دولية وإقليمية معقدة لفتح الطريق للتسوية من فوق.
الحرب الكبرى مقبلة
لا يبدو أن النظام الدولي الجديد، ومثله النظام الإقليمي الجديد، قابلان للولادة، قبل حسم مصير وجود كيان الاحتلال، ولذلك تبدو الحرب الكبرى التي يستعدّ لها محور المقاومة، عنصراً حاسماً لا غنى عنه لفتح الطريق أمام تحولات بحجم يتيح صياغة جغرافيا سياسية ومعادلات استراتيجية جديدة، لا بد منها لتبلور مشهد مكتمل يبنى على أساسه نظام دولي جديد ونظام إقليمي جديد.
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
20/11/2024
في بيتنا من يتبنّى فهم العدو للقرار 1701!
19/11/2024
محمد عفيف القامة الشامخة في الساحة الإعلامية
19/11/2024
شهادة رجل شجاع
13/11/2024
في أربعين السيّد هاشم صفي الدين
07/11/2024