معركة أولي البأس

مقالات مختارة

إسرائيل أمام معضلة الردع: فلْنجرّب «ما دون الحرب»!
03/10/2023

إسرائيل أمام معضلة الردع: فلْنجرّب «ما دون الحرب»!

علي حيدر- صحيفة "الأخبار" 

تحوّل تآكل الردع الإسرائيلي إلى تحدٍّ جوهري يستحوذ على اهتمام الجهات الأمنية والسياسية في كيان العدو، ويستحثّها لمحاولة اجتراح حلول تكبح هذا المسار الانحداري، وتعيد التوازن إلى صورة إسرائيل «الردعية». وفي أحدث تجلّيات تلك المساعي، أتت مواقف وزير الأمن، يوآف غالانت، في مواجهة المقاومة في قطاع غزة، والتي قال فيها «(إنّنا) لا نريد التصعيد ولا نطمح إلى الحرب، ولكن إذا طُلب منّا ذلك فلن نتردّد في استخدام القوة»، بعدما هدّد هو نفسه أيضاً بـ«إعادة لبنان إلى العصر الحجري» في سياق الردّ على حزب الله، مؤكداً في الوقت نفسه أن «إسرائيل ليست معنيّة بالحرب». تهديداتٌ تبدو السِمة الغالبة عليها، الحرص على عدم التلويح بشنّ عمليات هجومية ابتدائية، الأمر الذي يكشف عن مخاوف مؤسّسات التقدير والقرار من الخسائر التي ستتلقّاها إسرائيل في حال وقوع الحرب الشاملة، ومن إمكانية أن تتورّط في مستنقع يُعمّق مآزقها، وسط إقرار مبطن بأنها غير قادرة على الحسم في مثل هذه الحالة.

كذلك، تكشف تلك التهديدات، بالصيغة التي يُطلقها بها قادة العدو، محاولتهم التملّص مسبقاً من مسؤولية استهداف الجبهة الداخلية في أي مواجهة عسكرية، وتجنّب أيّ محاسبة لاحقاً من الجمهور الإسرائيلي أو إدانة من لجان تحقيق معيّنة. ولعلّ هذا ما لمّح إليه مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) السابق لشؤون الأمن القومي، مئير بن شبات (2017-2021)، الذي قال إن إسرائيل مهتمّة بتجنّب التصعيد «ما لم يكن ذلك ضرورياً»، معتبراً أن «فائدة أيّ مواجهات عسكرية محدودة في هذه الساحات لا تبرّر بالضرورة تكاليفها الأمنية والاقتصادية والسياسية»، مستنتجاً أنه ليس من مصلحة الكيان الدخول في مغامرة عسكرية في قطاع غزة أو في لبنان، في ما يُجلّي أيضاً بعضاً من معالم معادلة الردع القائمة مع المقاومة في كلتي الساحتَين. ومن موقعه السابق الذي خوّله الاطّلاع التفصيلي على اعتبارات الحكومات الإسرائيلية لدى دراسة خياراتها العملياتية، أضاف بن شبات عاملاً أساسياً إلى مسبّبات انكفاء إسرائيل عن مواجهة قوى المقاومة، وهو خطر «تحويل الاهتمام والطاقات إلى هذه الساحات على حساب الجهود المطلوبة في ما يتعلّق بإيران»، فضلاً عن أن ذلك، في أقلّ التقديرات، «لن يساعد في العلاقات الإقليمية التي تَجري بلورتها وتتراكم في هذا الوقت». لكن المشكلة التي تَبرز هنا، هي أن تلك الاعتبارات كلّها حاضرة لدى أعداء إسرائيل، وهذا ما أقرّ به بن شبات بالقول إن «هذا (الأمر) مفهوم أيضاً في إيران وغزة ولبنان»، ما يعني، بالضرورة، الحُكم بالفشل المسبق على كثير من الرسائل والاستعراضات التي يقوم بها قادة العدو من أمثال وزير الأمن الحالي ومن سبقه.

يجد العدو نفسه مدفوعاً في اتجاه محاولة التغيير في حسابات قوى المقاومة وتقديراتها

هكذا، يتعمّق مأزق العدو وتتعقّد تقديراته، حيث يجد نفسه مدفوعاً في اتّجاه محاولة التغيير في حسابات قوى المقاومة وتقديراتها، بما يؤدّي إلى إعادة التوازن إلى قدرة ردعه، من دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية، وذلك بعدما ثبت فشل الرهان على مفاعيل الحرب المالية والاقتصادية، والتي رأى بن شبات أن جدواها «كانت محدودة جداً في مقابل غزة ولبنان». ومن أجل استعادة التوازن هذا، دعا مستشار الأمن القومي السابق، إسرائيل، إلى تعزيز نشاطاتها الهجومية، مقيّداً هذه الأخيرة في الوقت نفسه بسقف منخفض، وداعياً إلى الاستعداد، بالتوازي مع تفعيلها، لإمكانية التدهور. وفي الاتجاه عينه، دعت دراسة صادرة عن «معهد القدس للإستراتيجيا والأمن» إلى «خيار أقلّ من حرب»، يعتمد على تصعيد تدريجي ومضبوط، والبدء بأهداف ذات قيمة ضئيلة، ثمّ الصعود تدريجياً، مع المحافظة على أكبر قدر من الغموض.

وإذ تكشف هذه الطروحات والمناقشات حجم الإرباك والقلق (المهني) من استمرار المسار الانحداري لقوة الردع الإسرائيلية. فهي بدعوتها إلى خطوات عملياتية منحفضة السقف والوتيرة، ومراوحتها بين تجنّب استفزاز الأعداء وإضعاف قدرة ردعهم في الوقت نفسه، تستبطن عوامل فشلها الذاتي، بالنظر إلى أن السقف المنخفض، محكومٌ أيضاً بمعادلة ردّ مقابل (خصوصاً على الساحة اللبنانية)، ما سيجعل إسرائيل مجدّداً محصورةً بين خيارَين: إمّا الانكفاء مجدّداً مع تقويض إضافي لقدرة ردعها، أو التدحرج نحو مواجهة لا يريدها أيّ من الأطراف في هذه المرحلة، بمن فيهم كيان العدو. أمّا في خصوص الرهان على غموض تلك الضربات بهدف سلب حزب الله الدافع و/ أو المشروعية للردّ، فهو غير ذي صلة أيضاً، كون الحزب يمكنه الردّ بقدر من الغموض، وربّما على نحو صريح ومتناسب أيضاً، فيما الأكيد أنه في حال تكرّرت مثل هذه الهجمات، فإن حزب الله سيرتقي بسقف الردود، بل وقد يتعامل مع أيّ اعتداء منخفض أو عالي السقف، كفرصة عملياتية لتوجيه ضربات تصبّ في مصلحة محور المقاومة في أكثر من اتجاه لبناني وفلسطيني وإقليمي، خصوصاً إذا ما أُخذ في الحسبان ما يُقال في الكيان عن أن الحزب أكثر توثباً واندفاعاً في المرحلة الحالية لتوجيه ضربات إلى العدو.

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة