معركة أولي البأس

مقالات مختارة

الصيدُ في الماء العذب
06/09/2024

الصيدُ في الماء العذب

في 25 أيّار 2024م، وجّه الإمام الخامنئيّ دام ظله رسالةً خاصّةً إلى الطلاب في الجامعات الأمريكيّة على خلفيّة تحرّكهم ضدّ الإبادة بحقّ الشعب الفلسطينيّ، مطالبين حكوماتهم بإيقافها.

وكأنّه يرابط على مفارق التاريخ، يراقب، يرمي ببصره أقصى الأرض، يصطاد في الماء العذب فيغرف من فرات الحقيقة ليدلي بدلوه في اللحظات المصيريّة والمفصليّة، فيساهم في صناعة الوعي ويقدّره، مراهناً على فعاليّة هذا الوعي في صناعة مستقبل لا مكان فيه للظلم. وممّا خاطبهم به قوله: «أكتبُ هذهِ الرّسالةَ للشّبابِ الذين حَثّتهُم ضَمائرُهُمِ الحيّةُ على الدّفاعِ عن نساءِ غزّةَ وأطفالِها المظلومين... لقد وقفتُمُ الآنَ في الجهةِ الصحيحةِ مِنَ التاريخِ. أنتُم تُشكّلونَ الآنَ جزءاً من جبهةِ المقاومةِ، وقد شَرَعتُم بِنضالٍ شريفٍ تَحتَ ضُغوطِ حكومتِكم القاسيةِ، التي تُجاهِرُ بِدفاعِها عن الكيانِ الصهيونيِّ الغاصبِ».

لتسليط الضوء على فحوى هذه الرسالة ودلالاتها وأبعادها وخلفيّاتها، كان لنا هذا الحوار مع الدكتور حسين رحّال، الأستاذ في علم اجتماع المعرفة والسياسة في الجامعة اللبنانيّة.

- هلا حدّثتنا عن ظروف توجيه سماحته خطاباً خاصّاً بالشباب الأمريكيّ عن قضيّة غزّة؟
كان لافتاً صدور هذه الرسالة عن سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله، وهي تتضمّن تحيّةً لجهد هؤلاء الشباب الجامعيّ، خصوصاً في أمريكا، في مواجهة السلطات، وهذا يعدّ نوعاً من الاعتراف بدورهم السياسيّ والنضاليّ في مواجهة السلطة الأمريكيّة الغاشمة أو ما يسمّيه سماحته بالشبكة الصهيونيّة. وهذا بدوره يدلّ على حجم مواكبته لمجريات الأحداث ومتابعته لها، ورهافة إحساسه السياسيّ، إذ إنّه يجد أن تحرّك الطلاب في أمريكا له دلالات كثيرة، منها: شعورهم بالاضطهاد وتعاطفهم مع المضطهدين، ونموّ حسّهم الثوريّ في مواجهة الماكينة الإعلاميّة الأمريكيّة والغربيّة.

الإمام الخامنئيّ دام ظله كمرجع دينيّ وسياسيّ وقائد كبير، لديه وعي وبصيرة واسعة جدّاً لما يجري حول العالم، ويدرك ديناميكيّات العمل السياسيّ والجغرافيا السياسيّة، ولذلك، فإنّ دلالات ما يحصل تعنيه، وقد أراد من تلك الرسالة أن يقول: إنّكم تقومون بعمل إنسانيّ شريف تستحقّون الشكر عليه.

- «أنتم جبهة المقاومة اليوم»، هكذا وصفهم سماحته، فما هي أبعاد الرسالة على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ في أمريكا؟
هذه الرسالة تمتلك مجموعة من الأبعاد المهمّة، منها أنّ الإمام الخامنئيّ دام ظله يدرك أنّ هؤلاء الثلّة من الشبّان والأساتذة الجامعيّين استطاعوا اختراق سحب الوهم والحرب الناعمة والخادعة التي تشنّها الماكينة الإعلاميّة والسياسيّة الغربيّة، فتمكنّوا من رؤية مجريات الأمور الحقيقيّة في فلسطين، ما يعني أنّ ثمّة بوادر تكوّن شريحة من المجتمع في العالم، وفي أمريكا تحديداً، لم تستطع الأداة السياسيّة والإعلاميّة والاستخباريّة الضخمة تعليب عقولها. من هنا، فإنّ سماحته يقدّر هذا الوعي عند هؤلاء، فيلتفت إليهم، ويخاطبهم على قدر وعيهم، ويُظهر لهم أنّهم جزء من معركة كبرى هي معركة الإنسانيّة ضدّ الظلم، ويقول لهم إنّهم جزء من هذه المعركة الإنسانيّة المعادية للصهيونيّة التي تقف فيها صفوف المضطهدين في أمريكا من الشرائح المهمّشة والمستضعفة مع المضطهدين في فلسطين في جبهة واحدة سمّاها سماحته جبهة المقاومة.

- ثمّة مفردات تكرّرت في رسالته دام ظله مثل «الإنسانيّة» و«مواجهة الظلم». كيف تقرؤون تقديم هذه القيم في مواجهة سلطة يصفها سماحته بأنّها تخدع شعبها؟
إنّ هذه الأداة التي أطلق عليها السيّد الخامنئيّ دام ظله الأداة الرأسماليّة الليبراليّة المتوحّشة، هي التي تخدع شعبها. لذلك، يدعو سماحته إلى مكافحة النظام الظالم إسلاميّاً، وهذا ما يضيف قيمة إسلاميّة غابت عن خطاب الفكر الإسلاميّ التقليديّ، والحركات الإسلاميّة. إنّه يقول: إنّنا نقف إلى جانبكم في مواجهة السلطة الأمريكيّة الغاشمة من منطلق القرآن الكريم الذي يدعونا كمسلمين للوقوف إلى جانبكم، لأنّ هذا الإسلام الذي نؤمن به يطلب منّا التعاطي بأولويّة مع قضيّة نصرة المظلوم بغضّ النظر عن انتمائه الدينيّ والفكريّ والسياسيّ. هنا، نتجاوز الفكر الإسلاميّ التقليديّ الذي يغلق الأبواب أمام الانفتاح على الآخرين إلى فقه إسلاميّ إنسانيّ يقول لهم: إنّنا جزء من معركة المظلومين ضدّ الظالمين في العالم. لقد قدّم الفكر التكفيريّ الإسلام في العالم على أنّه دين لا يلتقي مع غير المسلم ويقتل المسلمين، فإذا بالإمام دام ظله يستفيد من هذه الفرصة ليقدّم لنا الإسلام الأصيل بمنطلقاته المحمّديّة، ليزيل أيضاً حجاباً آخر غير حجاب الرأسماليّة الخادع، هو حجاب التكفير الذي منع الناس من رؤية الإسلام الحقيقيّ الذي ينصر المظلومين.

- هل تُعلن هذه الرسالة أنّنا بدأنا عصر كشف الحقيقة للشعوب المخدوعة؟ وكيف؟
نعم، وبشكل مؤكّد. إنّ وجود المظاهرات والرأي العام العالميّ المؤيّد للقضيّة الفلسطينيّة، رغم أنّ النخبة الأمريكيّة والأوروبيّة مسيطر عليها، يُظهر لنا أنّ الشعوب في العالم باتت تدرك أنّ هذه الشبكة أو المنظومة على خطأ، وأنّ هذا الإطباق الإعلاميّ الذي تسيطر فيه هذه المنظومة ومعها الشبكة الصهيونيّة على وسائل الإعلام الرسميّة المباشرة هو شديد الوطأة، ولكنّ وجود فسحة صغيرة على شبكات التواصل أو من خلال التواصل المباشر بين البشر يخرق هذا الجدار، مع إضافة القناعة المترسّخة عند جيل كبير من الشعب في أمريكا وأوروبا أنّ المنظومة الرسميّة الحاكمة تكذب عليهم. هذه المعاناة التي يعيشها الناس في النظام الرأسماليّ الليبراليّ المتوحّش، جعلت نسبة كبيرة منهم تعي أنّ ما يقوله الإعلام «القويّ» هو عكس الحقيقة، التي باتت تتكشّف أمامهم خارج الأطر الرسميّة. هذا الوعي هو ما يعوّل عليه السيّد الخامنئيّ دام ظله ليكون مدخلاً لثورة ما أو لتغيير ما في هذه الأنظمة.

- يقول سماحته: «أوصيكم بالتعرّف إلى القرآن». ما هي أبعاد توصية الإمام الخامنئيّ دام ظله هؤلاء الشباب بالتعرّف إلى القرآن؟
يريد سماحته، أوّلاً، الاستفادة من هذه الدعوة لإعادة رسم الصورة الحقيقيّة للقرآن في العالم، والتي قام الآخرون، والتكفيريّون تحديداً، بتشويهها. وثانياً، اغتنام هذه الفرصة ليكون هناك تواصل بين المستضعفين من المسلمين وغير المسلمين. لقد أراد سماحته أن يوقد في أذهانهم شعلة بسيطة، أنّ صمود أهل غزة القرآنيّ سيجعل كثيرين من الناس يتساءلون: ما هي خلفيّة الصمود والصبر عند هؤلاء؟ إنّه يدعو الشباب الأمريكيّ للجوء إلى القرآن وقراءته بعيون منفتحة لا بعيون وهابيّة أو استشراقيّة أو تكفيريّة.

يؤمن الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ جميع المستضعفين في العالم هم حلفاء طبيعيّون في مواجهة المستكبرين. الرسالة نفسها هي اعتراف باحترام جهد هؤلاء، وكأنّه يقول لهم: فلننفتح على بعضنا بعضاً، وافهموا قرآننا كما هو وليس كما صوّرته لكم الآلة الاستشراقيّة أو التكفيريّة، لأنّهما وجهان لعملة واحدة.

- إذا أردنا استشراف آثار هذه الرسالة، إلى أيّ مدى يمكن أن نلمح تغييراً ثقافيّاً في المجتمع الأمريكيّ؟
إنّ مجرّد نزول هؤلاء الآلاف من الطلاب إلى الشارع وقيامهم باحتجاجات مع أساتذة جامعاتهم، هذا يعني أنّ ثمّة تغييراً ثقافيّاً كبيراً في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وإدراكاً داخليّاً لدى تلك الشريحة بأنّ النظام الذي يحكمهم في الولايات المتحدة ظالم ويعزّز الفوارق الاجتماعيّة، وهذا الوعي يجعلهم يتعاطفون مع كلّ الثوريّين في الخارج. من هنا، يغتنم الإمام الخامنئيّ دام ظله هذه الفرصة بهذا الإحساس العميق بالمسؤوليّة، خصوصاً أنّ سماحته من القلّة الذين يدركون حساسيّة المجتمعات الغربيّة بسبب اطّلاعه الواسع على أحوالها وثقافتها.

إنّ تعاطف هؤلاء الطلاب مع القضيّة الفلسطينيّة هو جزء من تعاطفهم مع أنفسهم كمضطهدين، ومن وعيهم الثقافيّ بأنّ السياسات الأمريكيّة في الخارج تولّد الظلم والاضطهاد والفوارق والإبادة الجماعيّة. وهذا ما حاول الإمام الخامنئيّ دام ظله تسليط الضوء عليه ليؤكّد لهم أنّ السياسات التي تقوم بها الطغمة الحاكمة الظالمة بحقّكهم هي المسؤولة عن الإبادة في فلسطين، وهدفه من وراء ذلك خلق حالة من التعاطف تجاه هذا الشعب المظلوم؛ فهي معركة مشتركة في مواجهة عدوّ مشترك.

هذه الرؤية الواضحة والثاقبة لسماحة الإمام الخامنئي دام ظله جعلته يرسل هذه الرسالة البالغة الأهميّة في اللحظة المناسبة إلى هؤلاء الطلاب المميّزين في الولايات المتحدة الأمريكيّة ليصبح الوعي عندهم أكثر صلابة وقوّة.

في الختام، نشكركم على هذا الحوار القيّم، على أمل اللقاء في مناسبات أخرى.

مقابلة مع الدكتور حسين رحّال
حوار: الشيخ موسى منصور - مجلة بقية الله

الإمام الخامنئيرسائل الإمام إلى شباب الغرب

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة