مقالات مختارة
«القوات» والسلطة: العلاقة المستحيلة!
ابراهيم الأمين- صحيفة "الأخبار"
لم يكن سمير جعجع يحتاج إلى أن تخصّه الدبلوماسية الأميركية مورغان أورتاغوس بزيارة في معراب ليؤكد لنا أنه يمثّل اليوم رأس الحربة الداخلية في مواجهة المقاومة.
لكن يبدو أن الرجل احتاج إلى اللقاء للحصول على رعاية خاصة يوظّفها في معركته المستجدّة في وجه الحكم الجديد، رغم أنه جزء من السلطة الحالية، ويتمثّل حزبه بأربعة وزراء يتولّون حقائب أساسية، من بينها وزارة الخارجية.
وبين هؤلاء الوزراء من لديه تصوّر يطابق فكرة «القوات» بالتخلّص من دولة الرعاية لمصلحة القطاع الخاص، كما أن بينهم من يحمل فكراً يطابق التصوّر التاريخي لفريق «القوات» حيال الفيدرالية وعدم بقاء لبنان موحّداً بكل قوانينه وتفصيل إدارته وحياة أبنائه.
لم يكن جعجع من المرحّبين بانتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية. فهو يعتبر أنه الأحقّ بالرئاسة، مستنداً في سرديته هذه إلى الحجم التمثيلي الكبير لحزبه بين المسيحيين، وإلى كونه جزءاً من الفريق الذي يتبنّى سردية أطراف الوصاية الأميركية - السعودية - الأوروبية على لبنان.
وفوق ذلك، فهو يعتبر أن طريقة انتخاب رئيس الجمهورية جعلته لاعباً مهمّشاً، صوته مضمون من دون ثمن خاص، بخلاف بقية الأطراف التي سارت في مشروع انتخاب عون مقابل مكاسب، وإن كان بعضها شكلياً.
تستغرب «القوات» أي تمثيل مسيحي من خارج «اليمين التقليدي»، وتراه غريباً وخطيراً، فلا عون ممثّل أصيل ولا فريق سلام يملك الشرعية الشعبية
كما لم يكن جعجع متحمّساً لتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة، مفضّلاً من يعتقد بأنه الأكثر انخراطاً في مشروعه السياسي، كفؤاد مخزومي أو أشرف ريفي أو ما يعادلهما، لكنه اضطر أيضاً إلى السير في الوجهة التي قرّرتها أطراف الوصاية الخارجية، وعندها خاض معركة حصته الوزارية، وتمكّن من الفوز ليس بأربعة مقاعد فقط، بل أيضاً بإبعاد خصومه المسيحيين عنها، كالتيار الوطني الحر وتيار المردة.
في الحالتين، لا تقف مشكلة جعجع مع عون وسلام عند هذه الشكليات، بل تتجاوزها إلى الفكرة الجوهرية التي أعاد قائد «القوات» تظهيرها في الآونة الأخيرة، وتتعلق بالوجهة السياسية العامة في البلاد. فنقطة الخلاف الأساسية بينه وبين رئيسَي الجمهورية والحكومة، ناتجة من فهمه للوضع الحالي على أنه انقلاب كامل على الواقع الذي كان سائداً في لبنان قبل الحرب الإسرائيلية. بمعنى أدق، لا يرى جعجع أن على السلطة الجديدة أن تبدي أي مراعاة لحزب الله أو حتى للرئيس نبيه بري، بل عليها استكمال عملية الإجهاز على الحزب من خلال إدارة مشروع نزع سلاحه من جهة، وفرط تركيبته المؤسساتية المدنية والاجتماعية من جهة أخرى، ودفع جمهوره إلى الابتعاد عنه. ولذلك، فإن التسوية التي أسفرت عن انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، والتي قامت أساساً بين عون وسلام من جهة وبري وحزب الله من جهة ثانية، تتناقض تماماً مع تصوّره للعمل في المرحلة المقبلة. لكنّ جعجع الذي حاول مقاومة هذه التسوية في حينه، اصطدم بخطر بقائه هو نفسه خارج السلطة، وهو أمر لا يتحمّله قائد «القوات» بعد غياب وقت طويل عنها.
المفارقة الكبيرة الواضحة اليوم أن جعجع يتصرف كطرف محلي مستعدّ للانخراط في معركة تدمير حزب الله، تماماً كما كانت عليه «القوات اللبنانية» عام 1982، ومن دون أي فوارق تقريباً.
يومها قال بشير الجميل للإسرائيليين إن عليهم الوصول إلى بيروت واليرزة لإحداث تغيير داخلي (راجع مذكّرات إيلي حبيقة وأوراق مجموعة ضباط الـ 504 في استخبارات العدو).
واليوم، كان جعجع يرفض وقف إطلاق النار، ويعتبر أنه يمكن القيام بالمزيد للتخلص من حزب الله نهائياً.
وكما في تلك الفترة، لم يعرض جعجع خدماته الميدانية، بل اعتقد بأن المهمة يجب أن تكون على عاتق إسرائيل وأميركا وحدهما. ومع التطورات التي حصلت منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار قبل أكثر من أربعة أشهر، لا يزال قائد «القوات» يعتقد بأنه يمكن القيام بالمزيد من العمل العسكري، انطلاقاً من تزايد قناعته بأن القوى العسكرية والأمنية اللبنانية ليست جاهزة للقيام بالمهمة، أو غير قادرة على ذلك.
أما الجديد الذي استفزّ جعجع، فيتعلق بأمور لها علاقة، إلى جانب معركة نزع سلاح المقاومة، بالتطورات الداخلية أيضاً، ومنها:
أولاً، سمع جعجع من الأميركيين والسعوديين أن التفاهم بين عون وسلام من جهة وبري وجنبلاط والآخرين من جهة أخرى، يقوم على اعتبار مهمة نزع السلاح ليست ذات أولوية الآن، وغير ممكنة في ظل الظروف التي يعيشها لبنان. وبالتالي، أبلغت هذه القوى مجتمعة إلى الأطراف الخارجية، بأن محاولة ربط مستقبل لبنان بنزع السلاح ستؤدي إلى أزمة كبيرة تطيح بلبنان.
وهذا ما تُرجم في إبلاغ أورتاغوس، في زيارتها الأخيرة، بأن مسارَي التفاوض المباشر مع إسرائيل والشروع في عملية نزع سلاح المقاومة شمال نهر الليطاني ليسا على جدول أعمال أركان الحكم في لبنان.
ثانياً، شعور قائد «القوات» بأن إلى جانب رئيس الحكومة فريقاً سياسياً وتقنياً واختصاصياً أقرب إلى «المجتمع المدني»، وهو ما يكرهه جعجع لاعتبارات تخصّه هو لا لبنان. ويضاف إلى ذلك أن الوزراء المسيحيين في الحكومة لا يبحثون عن شرعية شعبية بالمعنى التقليدي الذي ينشده آخرون، ويأتون من تجارب سياسية كبيرة داخلية وإقليمية ودولية، ولديهم شبكة علاقاتهم الخارجية النوعية أيضاً، وهو ما يجعلهم محل نفور من قبل السياسيين المحليين، ومنهم «القوات».
أضف إلى ذلك أنهم يأتون من بيئات اجتماعية وثقافية وسياسية لا تعجبها أفكار «القوات» ولا أفكار اليمين التقليدي في لبنان.
ثالثاً، تعتقد «القوات» بأنها في موقع سياسي داخلي وإقليمي وخارجي يسمح لها بفرض شروط على الآخرين، إذ ليس بسيطاً أن يفاخر قادة «القوات» بأنهم الجهة الوحيدة في لبنان المستعدّة لخوض معركة مفتوحة مع حزب الله، أو القوى الحليفة له، والوحيدة القادرة على التصرف بمعزل عن القيود التي يمكن ملاحظتها لدى قوى أخرى في الحكومة، مثل الكتائب أو حتى الحزب الاشتراكي.
وهي تستطيع أن تطلب من الوزراء الممثلين لها الجهر بمواقف ولو كانت غير مطابقة تماماً للخط العام للحكومة، وتعتبر «القوات» أن كل ذلك يمنع عون وسلام من التعامل معها كبقية القوى في الحكومة.
رابعاً، أقامت «القوات» أخيراً تحالفات سياسية وإعلامية، برعاية طرفَي الوصاية الأميركية - السعودية، تشمل تقاطعات على مصالح لها بعدها السياسي أو حتى المصلحي أو الانتخابي، ما يجعل فريق «القوات» السياسي متنفّذاً في عدد من وسائل الإعلام، وفي هذه النقطة، يظهر أثر الموقف «القواتي» من أداء الفريقين المحيطين بعون وسلام، خصوصاً أن مشكلة معراب هنا مزدوجة.
فهي، من جهة، تنظر بريبة إلى كل المحيطين برئيس الجمهورية، كونهم من الخصوم التقليديين لها أو من السياسيين والناشطين الذين كانوا دائماً أقرب إلى خصومها في الساحة المسيحية أو على مستوى لبنان.
وفي الوقت نفسه تجد نفسها أمام حائط صدّ في رئاسة الحكومة، ليس لأن هناك قراراً بعدم التعاون، بل لكون «العلاقة تبدو مصطنعة»، وتكرر «القوات» لازمة أن رئيس الحكومة يحيط نفسه بأشخاص من «اليسار البائد» أو بناشطي «المجتمع المدني الذين لا حيثية تمثيلية لهم».
عملياً، لم يكن مستغرباً ظهور التمايز بين «القوات» وأركان الحكم الجديد. وهو تباين يعكس خلافاً جدياً في مقاربة العلاقات مع بقية اللبنانيين، كما يعكس استمرار «القوات» أسيرة أفكارها السابقة، والتي تبقي عليها ليس لعدم القدرة على التجديد فحسب، بل لكونها لا تجد نفسها قادرة على القيام بأي دور، ما لم تكن الطرف الذي سعرض خدماته للخارج طوال الوقت!
سلام «يحتوي» جعجع
علمت «الأخبار» أن لقاء عُقد بين رئيس الحكومة نواف سلام وقائد «القوات» سمير جعجع السبت الماضي، بعيداً من الإعلام، بعدَ كلام سمعه سلام خلال زيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية بضرورة احتواء جعجع والتركيز على فكرة جمع خصوم حزب الله ضدّه وعدم الالتهاء بمشاكل في ما بينهم. وقد أبدى جعجع ملاحظات على العمل الحكومي، كما ناقش الطرفان ملف بلدية بيروت والانتخابات البلدية عموماً. ومن المُفترض أن يطل جعجع الخميس المقبل على شاشة «أم تي في» في برنامج «صار الوقت» للحديث عن عدة ملفات وتوضيح موقف «القوات» منها.
جعجع وعون والقيادة المسيحية
مع كل عهد جديد، تواجه «القوات اللبنانية» مشكلة على صعيد النظرة إلى القيادة السياسية للمسيحيين في لبنان. وإذا تجاوزنا الحقبة التي كانت سوريا فيها صاحبة القرار في لبنان، فإن ما حصل منذ عام 2008، لدى اختيار العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، ورغم أنه لم يكن يوماً يعكس تمثيلاً يتجاوز دائرة الموظف الآتي إلى جنة الحكم، إلا أن «القوات» لم تشعر بأنها تملك الحظوة التي ميّزت آخرين. وبعدها اضطرت إلى السير في انتخاب الرئيس ميشال عون.
وإذا كانت معركتها مع عون الأول مفهومة وطبيعية ومتوقّعة، إلا أن الأمر أخذ مساراً مختلفاً بعد خروجه من بعبدا، وصارت أكثر اهتماماً، ليس بإيصال مرشح بعينه، بقدر ما كان منع مرشح الطرف الآخر من الوصول إلى القصر. وهو أمر ما كان ليحصل لولا الحرب الإسرائيلية على لبنان، ولولا نقص النضج السياسي لقادة التحالف الذي كان يريد رئيساً لا ترضى عنه «القوات». ومرة جديدة، جاء اختيار عون الثاني لرئاسة الجمهورية ليضع معراب أمام خيار الأمر الواقع.
المشكلة لا تقف عند عتبة القصر الجمهوري، إذ إن «القوات» التي تهتم بإضعاف خصومها المسيحيين في هذه الفترة، تراهن على تراجع قدرات التيار الوطني الحر، وانحسار نفوذ تيار المردة، وحراجة موقع حزب الكتائب، كما تعتقد بأن النواب المستقلّين يحتاجون إلى تحالف معها للبقاء في مواقعهم. ومع ذلك، ترصد «القوات» واقع الشارع، حيث لا يزال عون الثاني يستفيد من الزخم الذي رافق وصوله إلى القصر، وهو يُعد اليوم من أكثر الشخصيات المسيحية شعبية، وتتعامل معه مجموعات المتنفّذين، سواء في الكنيسة أو تجمعات رجال الأعمال أو الأطر البلدية والأهلية، باعتباره المرجعية المناسبة. وحتى من هربوا من التيار الوطني الحر، يرون في ساكن القصر ملاذاً آمناً في هذه المرحلة.
صحيح أن رئيس الجمهورية ليس آتياً من تركيبة تسمح له ادّعاء الانخراط في الحياة السياسية عبر إطار سياسي أو شعبي أو حزبي، لكن، في بلد كلبنان، فإن رئيس الجمهورية، ومع الدعم غير العادي الذي يتلقاه من «تحالف الضرورة» مع القوى الإسلامية في البلاد، وما يحصل عليه من رعاية خاصة من طرفَي الوصاية الأميركية – السعودية، قد يكون بمقدوره التقدم خطوات في هذا المجال، سيما أن حوله من يقول إنه لا يزال صغيراً في السن، ويمكنه مواصلة العمل السياسي بعد خروجه من القصر، ويملك فرصة كالتي توفّرت سابقاً للرئيس ميشال عون.
في هذه النقطة يظهر قلق «القوات»، لأنها تجد نفسها في مواجهة لاعب لم تكن تعتقد بأنه سينزل إلى ميدان المنافسة، وهي تخشى أن يعمد عون الثاني إلى فتح مظلته ليجمع تحتها قوى وتيارات قادرة على أن تتشكل على هيئة قوة كبيرة في الشارع المسيحي. وهو ما يدفع جعجع لإعادة الاعتبار إلى ما يعتبره «القضايا التي تخص المسيحيين» في لبنان. وفي هذا السياق، يعتبر أن العزف على وتر المعركة في مواجهة حزب الله، مفيد له، كما أنه يريد من رئيس الجمهورية أن يتعامل معه كشريك أساسي وليس كطرف تتم مراضاته في سياق التسويات الداخلية والإقليمية.
لذلك، سنجد «القوات» معنية أكثر من أي وقت بتحصيل مكاسب كبيرة، سواء في الانتخابات البلدية المقبلة، حيث تريد عقد تسويات تظهرها طرفاً مقبولاً من الجميع، أو في الانتخابات النيابية، حيث تريد عقد تحالفات تظهرها في موقع القاطرة التي يمكن لمن يلتحق بها الوصول إلى المجلس النيابي. والغريب أنها تنظر بقلق إلى دور رئيس الجمهورية، بينما يردّد كوادرها بأنهم «حسموا المعركة سلفاً مع كل القوى المسيحية الأخرى»!
القوات اللبنانيةسمير جعجعجوزاف عوننواف سلام
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
12/04/2025
الـ AUB تستضيف شركات ممولة للاحتـلال
09/04/2025
«القوات» والسلطة: العلاقة المستحيلة!
التغطية الإخبارية
سرايا القدس : قصفنا قوات العدو الصهيوني المتوغلين شرق محور "نتساريم" برشقة صاروخية
اليمن| بيان مهم للقوات المسلحة خلال الساعات القادمة
فلسطين المحتلة| 3 شهداء في قصف "إسرائيلي" على حي الشجاعية شرقي مدينة غزة
فلسطين المحتلة| أبو عبيدة: فلسطين وشعبها لن ينسوا هذه الوقفة المشرفة إلى جانبهم
فلسطين المحتلة| أبو عبيدة: لا زال إخوان الصدق في اليمن يصرّون على شلّ قلب الكيان الصهيوني وقوفًا إلى جانب غزة التي تتعرض لحرب إبادة شعواء
مقالات مرتبطة

"نداء الفتنة".. إعلام موجّه لخدمة الأعداء

لماذا تسعى القوات للعبث بالاستقرار وإسقاط الدولة؟

لعبٌ على حافة الهاوية

عن متلازمة "مش هينة تكون قوّات": الأعراض والمؤشّرات

جعجع وحلم الرئاسة الضائع

"صار الوقت" تملق وتلميع بلغ حد القداسة وانتهى بسؤال محرج

جعجع يتعرّف إلى وزرائه!

مشتركات "الرفيقين جيم - جيم".. من يدفع الفاتورة الكبيرة؟

فريق عوكر ووهم استثمار الحدث السوريّ في الطريق إلى بعبدا...

جعجع محبط وليزا متوتّرة: لماذا لا ينتفض السنّة ضد حزب الله؟

الرئيس عون في ذكرى "13 نيسان": لتكن وحدتنا هي سلاحنا وسلاحنا هو جيشنا

الرئيس عون: لملاقاة الإيجابية التي يبديها حزب الله بالإيجابية

عون يبحث مع بري زيارة أورتاغوس.. ويؤكّد لوفد أميركي التزام لبنان بالـ 1701 وخرق "إسرائيل" لوقف النار

أورتاغوس تصل لبنان.. وعلى الطاولة ملفات الجنوب والحدود اللبنانية - السورية والإصلاحات

مصادر مطلعة على لقاء بعبدا لـ "العهد": الأجواء إيجابية ولبنان أكّد ضرورة إلزام "إسرائيل" بتطبيق القرار 1701

سلام: يهمنا استعادة ثقة اللبناني والإسهام في عملية الإصلاح

تنديد رسمي وشعبي واسع بالعدوان الصهيوني على الضاحية الجنوبية لبيروت: إنذار خطير وعدوان كبير

إدانات محلية لاستهداف الضاحية الجنوبية: لبنان قوي بتضامنه السيادي
