عيد المقاومة والتحرير
والألحان تُقاتل..
لطيفة الحسيني
في البالِ أُنشودة. ترانيمُ كثيرة لا نسهو عنها. ذكرياتها لا تُجافينا. قديمٌ راسخ، متجذّرٌ كأصالة معانيه. من الـ 2000 الى اليوم، تصدح أنغام التحرير، تُردَّدُ بثبات. منذ "انسحب المهزوم" وأتى "الظفر"، حتى أضحت أرض لبنان "عنوان التحدي" و"وطن النور"، غدا الفنّ المقاوم سلاحًا وازنًا يُحمّس ويُحفّز على الالتصاق بالحقّ فـ"المجد يهوى أغنيات الكبرياء".
ميادينُ الكفاح تفيض. كلّها تصبُّ في معركة دحر العدو نفسيًا وعسكريًا، لتصنعَ نصرًا أمميًا لم يعهدهُ العرب. محطّة الـ25 من أيار 2000 ليست عابرة في التاريخ الحديث. كُسر العدوّ، ذُلَّ وطُرد مخزيًا. حُفظت الهزيمة جيّدًا. ألحانٌ عدّة صانت هذا الاستثناء، فخُلّدت في الذاكرة. استعادة هذه الأيام الذهبية رحلةٌ ممتعة. يكفي الاستماع الى مقدّمات أناشيد التحرير لتُطرَب "على عجل".
عند البحث عن سرّ ما تختزنه تلك الأنغام لتحيا كلّ هذه الأعوام، يُجمع كلّ من اجتهد في "حقلها" أن كلّ شيء كان مختلفًا: عمليات المقاومة المؤثّرة وروحية إنجاز القصائد وموسيقى القتال والنزال.
سريعًا، انغرست الأناشيد الثورية والعسكرية الاسلامية التي انطلقت مع بدايات حزب الله في لبنان، في صُلب الحرب مع العدو. آلةٌ قادرةٌ على تعبئة نفوس المجاهدين في شتّى ساحاتِ النزال. العنوان والهدف واضحان: إزالة "اسرائيل" من الوجود، وتحته تتنوّع الأساليب.
الثمانينيات باكورة الموسيقى الحماسية واللطميات الحسينية. سماحة السيد حسن نصر الله حينها كان مسؤول منطقة، خرج في مسيرة عاشورائية في بئر العبد يحمل مكبّرًا رافعًا صوته ملء الأرض للهيهات بوجه الغطرسة. صورةٌ تناثَرَ صداها وتكاثرت. العجلةُ انطلقت وكرّت "السُبحة". نشيدُ حزب الله الرسمي أبصر النور برعايةٍ مباشرة من الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي. أضحى ترتيلةَ ولاءٍ ونصر. "امضِ ودمّر عروش الطغاة" التحقَ بالإصدارات لـ"يُحارب كلّ الغزاة". "معدن الدماء" يحكي لغتَه، و"القائد الأشمّ" يروي نهجًا ثائرًا، شعبه لم يزل. أمّا "جيوش الحقّ" فسارت باتجاه "القدس الأسير"، لتُحطّم "قلاع اليهود وتفكّ القيود"، الى أن "تمّ دحر الصهيونية" من الجنوب بـ"مقاومة إسلامية رفعت ألوية الحرية"، وانتصر "لبنان بالشهداء".
خَبِر المقاومون وأهلُ الأرض انسحابًا اسرائيليًا مجبولًا بالذلّ والمهانة. هرول الصهاينة الى حيث أتوا. لمسوا العار أمام العالم أجمع. التاريخ يقصّ الملاحم. لحظاتُ الاندحار تتوالى. فرقة الإسراء الإنشادية تواكبها. مشهدُ اقتحام أهالي القنطرة ودير سريان بوابة الغندورية في 21 أيار 2000 دفعها على وجه السرعة لاستنفار طاقمها وفريقها من كتّابٍ وملحّنين ومنشدين، وإعداد عملٍ يليق بالمناسبة العظيمة، فكان "مبروك وطن الحرية"، وفق ما يقول الحاج زكريا قصير، أحد الإداريين الرئيسيين في الفرقة لـ"العهد".
تلك الأيام المحفورة في الذاكرة يستعيدها قصير بلهفةٍ حاضرة. يشير الى أن "مبروك وطن الحرية" طُبخ بعد ساعات قليلة جدًا من الحدث، فنظّم كلماته الشاعر علي عباس ولحّنه حسن غملوش. ليلًا أُلّف وصباحًا بُثّ على قناة المنار لمرافقة ما كتبه التاريخ.
حلّ الـ25 من أيار 2000. لا يُتمَ بالأعمال الفنية وخاصة في هذه اللحظة. "حمدًا لله أتى الظفر" الى العلن. الشاعر الشيخ طارق ادريس والأستاذ أسامة همداني استوحياه من مشهدٍ عزيزٍ على كلّ الوطنيين تظهر فيه امرأة تقول باللهجة الجنوبية: "الحمد لله اللي تحرّرني". "فلاش" حُفظ وخلّد في أذهان من عاش التحرير بتفاصيله. ولأنه كذلك، نال الجائزة الفضية في مهرجان القاهرة السينمائي في تلك المرحلة، كما يروي قصير.
لم تكتفِ فرقة الإسراء بعمليْن لمحاكاة الانتصار. بعد اندحار الاحتلال بأسبوعٍ واحد فقط، أُنجز الإصدار كاملًا وكان مؤلَّفًا من 11 نشيدًا تسرد تحرير عام 2000 ببطولاته وملاحمه وبأسه ودماء الشهداء وتضحياتهم التي صنعته.
ولأنّ أهمية الأناشيد كبيرة بالنسبة للمقاومة، احتضنت قيادتها العسكرية كلّ عمل فني يُمجّد جسارتها ونخوتها بوجه المحتلّ. أهل الاختصاص يستذكرون جيّدًا كيف كان القائد الشهيد الحاج عماد مغنية المعنيّ الأوّل بألحان الجهاد وقصائده. ومعروف للجميع كيف سجّل ثلاثة أناشيد مع "فرقة الولاية".
هنا يؤكد قصير أن الحاج عماد كان يحتضن كلّ الفرق الفنية، وكانت له آراؤه في الأعمال التي تُقدّم في سياق المواجهة مع العدو، كما أنه كان يوفد وسيطًا لتنظيم الإصدارات، يُراجع ويُعطي ملاحظاته في بعض الأناشيد والأعمال. يتدخّل أحيانًا بالكلمات. يقف عند بعضها ويستبق أيّ تأويل لها، وينصح باستبدالها.
بحسب قصير، الوسيط كان يزور فرقة الإسراء من فترة الى أخرى في مراكزها. ينقل إليها توجيهات القيادة العسكرية وعلى ماذا يجب أن تركّز، الشهداء تارةً وفلسطين تارةً أخرى. ويلفت الى "أننا كنّا على تنسيق لترتيب موضوع الإصدارات وإعداد الأناشيد التحفيزية والحماسية ولا سيّما عندما كانت تهدأ الجبهة".
لفرقة الإسراء شهيدٌ. محمد كمون كان عازف إيقاع، ارتقى قبل التحرير وهو يقاتل في صفوف المقاومة.
لم تهدأ آلات "الإسراء" الموسيقية منذ عام 1988، حين انطلاقها. إصداراتٌ تلو أخرى تبني على خطاب الأمين العام لحزب الله وبيانات المقاومة الرسمية لإطلاق أعمالها. تكاملٌ تامٌّ أوصل أناشيدها الى كلّ بقعة تُناصر قضية التحرّر وطرد المحتلّ، حتى بيع 25 ألف نسخة لإصدارها الخاص فقط باندحار العدو من الجنوب اللبناني.
إقرأ المزيد في: عيد المقاومة والتحرير
30/05/2024
25 أيار/ مايو.. لحظة التقدّم نحو الطوفان
27/05/2024