عيد المقاومة والتحرير
نزوح الموقنين
علي حمادي
هناك فرقٌ كبير بين سؤال هل سنعود يومًا، وسؤال متى سنعود؟ وبين الجملة الخبرية: سنعود قريبًا، غدًا أو بعد غد. يأتي الظرف "غدًا" بالنسبة إلى العامليين ليدلّل على القرب الكبير، إنه بُعيد نصرٍ واضح وضوح الشمس في رائعة جبل عامل.
يعدّ النزوح القسري أهم وأكبر آثار الحرب. شعوبٌ كثيرة نزحت من بلدانها ومدنها، بعضها رجع وبعضها ما يزال مهجّرًا حتّى اليوم، وكثيرون ماتوا في غربتهم وهم يحنّون إلى تراب يرجون لو يدفنون في مثواه العزيز.
عرّف لسان العرب النزوح ومصدرها نزح بـ: نزح الشيء ينزح نزحًا ونزوحًا، ونُزِح بفلان إذا أبعد عن دياره غيبة بعيدة. أما اصطلاحًا فهو انتقال الفرد داخل حدود بلده قسرًا بسبب ظروف تهدّد حياته مثل الحرب والكوارث وغيرها. ويشكّل هذا النزوح شكلًا من أشكال التغيير الاجتماعي وربما النفسي والفكري والسلوكي عند ملايين البشر الذين عانوا النزوح القسري.
نزح العامليون مراتٍ عديدة في تاريخهم المليء بالتحديات، وكانوا مهاجرين داخل أوطانهم وخارجها. لقد هُجّر أجدادهم من قبل داخل أوطانهم مع حملات واستعمار وسلطات مستبدة نكّلت بهم وأبقتهم تحت أعينها متوجسةً من روح ثورية تاريخية قادرة على الاشتعال في أي لحظة.
لحظة التحرير التي خلّدها الزمان في مثل هذه الأيام من العام 2000، كانت شاهدًا كبيرًا على تأهّب العامليين وثقتهم العميقة بخياراتهم. هم لم ينتظروا خروج آخر دبابة وجنديّ من لبنان.. وصلوا إلى حدود فلسطين قبل أن يرحل المهزوم وقبل أن ينكشف غبار المواقع المندكة ببأس المقاومين.. استقرّوا في مقامٍ آمنٍ بقلوب مطمئنة، قبل أن يهدأ هدير محركات سياراتهم، كأنهم لم يغادروا الأرض لأكثر من خمس وعشرين سنة.. لم ينسوا أبسط التفاصيل. النزوح لم يبعدهم سوى بالأجساد.
آخر نزوحٍ لهم كان في حرب تموز 2006 التي بدأت بإنجاز، وانتهت بإعجاز.. السيارات العائدة قبل أن يهدأ غبار البارود، وكأنها تتأهّب لثلاثةٍ وثلاثين يومًا تنتظر ساعة النصر. كانوا واثقين بالعودة، واليوم هم واثقون.
عندما تحدّث إمام المقاومة السيد موسى الصدر عن شتلة التبغ، كان يشير إلى أصالة الإنتماء للأرض والعلاقة مع ترابها. هذا العاملي ليس عابرًا على سبيل النوى، ولا يعرف أو يقبل أرضًا بديلةً عن نبض الغفاري وثورة الشيخ ناصيف مهما رحبت. ولهذا كانت هذه البقعة المباركة حول المسجد الأقصى "أمانةً يجب أن تحفظ بأمرٍ من الله والوطن".
نشهد اليوم نزوحًا جنوبيًا جديدًا بعد أن توسع حزام النار في تلال جبل عامل المشرفة على جليل فلسطين. قرى عديدة أخليت تمامًا أو دمّرت تدميرًا كبيرًا، عيتا الشعب وكفر كلا وميس الجبل وغيرها. مَن استطاع أن يجد مأوى قريبًا لم يبتعد كثيرًا. انكفأ قرية أو قريتين أو إلى الشريط الساحلي في الحدّ الأقصى، ومن لم يجد ابتعد أكثر حتّى حين، ومن كان يملك جواز سفر أهمله في حقيبته، فالسفر اليوم فقط.. على طريق القدس.
عقليةٌ مختلفة إذًا تكونت مع مرور الزمن. يقينٌ بلغ سدرة الثقة بالسيف والوعد، حتّى لو كشف الغطاء ما ازدادوا يقينًا.
اليوم نزحوا مجددًا. أُخرجوا من ديارهم لأنهم قالوا ربنا الله وعقيدتنا مقاومة. ولكن الثابت في الزمان والمكان أن النازح من الجنوب يبدل جغرافيته بشكل مؤقت، وهيهات تتبدل هويته أو فكره أو سلوكه. كلّ ما في الأمر أن يقينه يزداد بحتمية الرجوع، وقد أضاف إلى يقينه يقينًا جديدًا اليوم، بعد طوفان الدم على هذا الطريق، يقينٌ بأنه سيتوضأ من طهارة الليطاني، ويعبر صراط الجليل.. ليصلّي.. في القدس.
إقرأ المزيد في: عيد المقاومة والتحرير
30/05/2024
25 أيار/ مايو.. لحظة التقدّم نحو الطوفان
27/05/2024