عيد المقاومة والتحرير
بين أيار 2000 و"طوفان الأقصى".. أي تغيير استراتيجي فرضته المقاومة؟
انسحاب "إسرائيل" من لبنان في العام 2000، كان اندحارًا مذلًا تحت ضربات المقاومة الإسلامية وعملياتها في لبنان، وليس تطبيقًا لقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 425 ولقرارات الشرعية الدولية. فكان الخامس والعشرون من أيّار من كل عام تاريخًا مجيدًا وذكرى وطنية عزيزة يحتفل بها لبنان.
نعم؛ كان التحرير حدثًا غير واقعي وغير عادي، أولًا، لأنه خالف آنذاك مسار الهيمنة الأميركية - الصهيونية التي كانت حينها، وما تزال اليوم وبقوّة مسيطرة على توازن العلاقات الدولية وعلى مفهوم القانون الدولي، وتعاطي مؤسسات المجتمع الدولي مع الإبادة الجماعية والمجازر غير المسبوقة في التاريخ، والتي تمارسها "إسرائيل" في فلسطين المحتلة وفي غزّة تحديدًا وفي الضفّة الغربية. وهذا أكبر دليل على استمرار هذه الهيمنة اليوم. وثانيًا، من ناحية تزعزع مفهوم سيطرة القوّة العسكرية وحتمية انتصار صاحب الجيش الأقوى، وبداية تحوّل في مستوى هيمنة "إسرائيل" العسكرية، والتي كانت تفرضها بقدرات وبإمكانات ضخمة، أسهمت وما تزال أغلب دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميريكة في بنائها وصونها ورعايتها.
هذا التحول في مستوى هيمنة "إسرائيل" العسكرية، يمكن استنتاجه من عدة مفاصل أساسية في المواجهة ضدّها، والتي أُرغِمت خلالها على التخلي عن أغلب بنود عقيدتها العسكرية التي بنتها استنادًا إلى كل الحروب العدوانية التي خاضتها ضدّ شعوب ودول المنطقة، والتي كانت تنتصر في أغلبها، وذلك بهدف حماية وتثبيت احتلالها، وذلك على الشكل الآتي:
طبعًا الأساس في هذا المسار المتحول نزولًا لهيمنة "إسرائيل" العسكرية نشأ ما قبل التحرير، بعد أن نجحت وحدات المقاومة في تلقين العدوّ دروسًا في العمليات الخاصة القتالية من الند للند أو العمليات الاستشهادية. وبدأت تكر سبحة خسارته جنودًا وضباطًا وآليات ومواقع ومنشآت في الميدان، داخل المناطق المحتلة أو على خطوط المواجهة، وبدا في نهاية المطاف مستسلمًا لمناورة التفجيرات والعبوات الناسفة والصواريخ المضادة للدروع وللتحصينات، ليُرغَم في الخامس والعشرين من أيار العام 2000 على الانسحاب المذل، تاركًا ورائه حفنة كبيرة من العملاء الذين احتُضِنوا ضمن معادلة وطنية تجاوزت عن ارتكابات أغلبهم، بعد أن عُدّت تلك الارتكابات وكأنّهم أرغموا عليها بسبب ظروف الاحتلال، مع بعض الاستثناءات للمرتكبين الجنائيين، والذين خضعوا لأحكام قضاء الدولة اللبنانية.
المحطة الثانية في مسار تدحرج الهيمنة العسكرية للعدو كانت في حرب تموز في العام 2006، وكانت أول حرب ضدّ العرب، تخسر فيها "إسرائيل" وجيشها القوي. وأنتجت تلك الحرب مفاهيم ومعادلات جديدة، هزّت أهم بنود عقيدة العدو، وكانت مجازر الميركافا الفرصة العملانية والميدانية التي فقد خلالها سلاح مدرعات العدوّ دوره التاريخي كسلاح الصدم في معاركه. وبفضل تطوّر قدرات المقاومة في المضاد للدروع، وخاصة الكورنيت المعدل الذي فاجأ دبابات العدوّ على مسافات غير منتظرة تجاوزت 4 كلم، بدأت تنمو معادلة الردع المباشر في الميدان، وتبتعد شيئًا فشيئًا محاولات العدو لتنفيذ اجتياحات للبنان.
ومع تداعيات دروس ونتائج حرب تموز 2006 على العدو، وتطوّر الردع أيضًا الذي فرضته المقاومة، لتتوسع مظلة الحماية للبنان وتتثبت معادلات القوّة، بعد دخول حزب الله في مسار تطوير القدرات والإمكانات، متّخذًا من الميدان السوري نواة دعم ومساندة، بدأ العدوّ يفكر برعاية أميركية باستهداف حلقة الارتباط الرئيسة التي تحضن جغرافيتها الملاذ الآمن والمناسب لنقل القدرات الإيرانية للمقاومة... فكانت أهداف الحرب على سورية عبر الإرهاب، إفقاد المقاومة ساحة الربط والتلقي لقدراتها.
ومع انخراط حزب الله في هذه الحرب ضدّ الإرهاب استباقيًا، كانت الساحة السورية وجغرافيا الجرود الشرقية اللبنانية، فرصة أخرى لتطوير قدرات المقاومة في التكتيك والأعمال القتالية، وليتطور عبرها وخلالها مفهوم الردع بإضافة سلاح جديد لافت ومبتكر إلى معادلة الردع هذه. وهو سلاح الخبرة القتالية، وليكون اليوم هذا السلاح، بالإضافة إلى مروحة الأسلحة النوعية اللافتة، مدماكًا آخر من مداميك مواجهة العدوّ في طوفان الأقصى دعمًا لغزّة وللشعب الفلسطيني.
ومع "طوفان الأقصى" اليوم، حيث أدخل حزب الله أسلحة استثنائية بإمكاناتها الهجومية وبحصانتها المرتفعة ضدّ منظومات الدفاع العدوة المختلفة، في البر وفي الجو، يمكن الحديث عن نقلة نوعية في مستوى الاشتباك الذي تخوضه المقاومة في معركة الدعم والإسناد لغزّة؛ فجاءت أولًا أغلب الصواريخ التكتيكية المدمرة، مثل بركان وفلق، أو الصواريخ الموجهة، ضدّ التحصينات وضد الأفراد، ومنها الموجهة بكاميرا ذاتية "الماس" لتفرض رعبًا متواصلًا على خط المواجهة بين العدوّ وبين لبنان، ومستوى التدمير الذي أصاب أغلب ثكنات وقواعد العدوّ الحدودية أو المتقدمة عشرات الكيلومترات في عمق الجليل، المرئية أو المخفية، شكل ما يشبه الصدمة لوحدات الاحتلال ولمستوطنيه الذين أجبروا على الهروب جنوبًا، بعد أن رأوا أن الكيان خسر شماله إلى الأبد.
أخيرًا، كان لقدرات المسيّرات السريعة الانقضاضية التي أدخلتها المقاومة في ميدان المواجهة بقوة وبعدد كبير، الدور الأكثر فعالية في فرض ما يشبه التوازن على صعيد القوّة الجوية، وليصبح تفوق العدوّ التاريخي في الجو من الماضي، بعد أن وجد نفسه معنيًا بإحداث تغييرٍ جذري في عقيدته العسكرية التي بنى كلّ اعتداءاته على أساسها.
إقرأ المزيد في: عيد المقاومة والتحرير
30/05/2024
25 أيار/ مايو.. لحظة التقدّم نحو الطوفان
27/05/2024