معركة أولي البأس

عيد المقاومة والتحرير

بين ذاكرة أيار 2000 وانتظار النصر القادم
25/05/2024

بين ذاكرة أيار 2000 وانتظار النصر القادم

تغزو منصات التواصل مشاهد تحرير الجنوب في أيار/مايو عام 2000. عامٌ بعد عام، تتفوّق ذاكرة هذا العيد على كلّ محاولات طيّها، وتنجح في صياغة ذاك الفرح عبر قصص الجنوبيين يوم عادوا على جناح اللهفة إلى أرضهم المحرّرة، وقصص الصامدين وهم يشهدون كيف جرّ عدوّهم أذيال خيبته في الظلام وانسحب، تاركًا مخلّفاته من اللحديين مرمية على قارعة انتظار اذنه للإلتحاق به والهروب إلى فلسطين المحتلة. بعد 24 عامًا، ما زالت أيام التحرير التي ابتدأت في الثالث والعشرين أيار وتمّت في الخامس والعشرين منه فرحة طازجة، تراها في عيون المحدّثين عن كيف تلقّوا الخبر، وكيف هُرعوا إلى اللقاء.. وأيّ لقاء!

تحكي الصور لهفة الخطوات والقوافل إلى الشريط المحرّر.. صور يُسمع منها صوت الفرح باللهجة الجنوبية.. بلهجة القرى المشتاقة إلى الأحبّة.. وتُرى فيها التماعات الحمد في العيون، وبريق الفخر الممتزج بالامتنان للمقاومة. أما المشاهد المسجّلة صوتًا وصورة، فتختصر كلّ ذاكرة الاحتلال والتحرير معًا، تستحضر الدموع الناطقة بالعزّ، وتعيد إلى الحناجر حاجتها إلى الصراخ عزًّا وانتماءً: هنا معتقل الخيام وأولى مشاهد تحرير الأسرى من داخله.. هنا صوت الشهيد راني بزّي في بنت جبيل يهتف بالجموع المستقبلة إياه ورفاقه من المحرّرين من المعتقل.. هنا تكبيرات حاجّ عامليّ النّبرة، يكبّر ويحمد ثمّ ينحني ويقبّل التراب.. هنا سيّدة من ألق الجنوب تنثر الورد والأرزّ على قافلة العائدين وتصرخ "الحمد لله اللي تحرّرني" وتصبح صرختها أنشودة العيد..

24 سنة مرّت، وما كفّ الصهاينة عن محاولة طمس جميع وجوه هذه الفرحة، هذا العزّ.. وكلّفوا في سبيل ذلك كلّ أدواتهم المحليّة والعربية لتبث ما أمكنها من تضليل وتقليل وتشكيك وتعتيم، عسى تُخرج التحرير ومشاهده من ذاكرة العالم:

من أدواتها الناطقة من حدّث، طوال أربع وعشرين عامًا ولم يكلّ، عن كذبة تقول إن "إسرائيل" انسحبت تنفيذًا للقرار 425، فيضرب في ذلك عصفورين بحجر الوهم: تلميع صورة الصهاينة عبر القول بأنّهم يمتثلون للقرارات الدولية، وتعمية الجمهور عن حقيقة شاهدها بعينه وهي أن التحرير هو ثمرة جهاد المقاومة ودم رجالها وجراحهم وعرقهم..

ومنهم من اعتمد تكتيكًا مغايرًا في محاولة تحقيق الهدف نفسه، فكرّر طوال هذي السنين هذيانًا يقول إن ما جرى في أيار ليس تحريرًا وإنّما انسحابًا تمّ باتفاق "سرّي" بين المقاومة والصهاينة. وتأتي نوبة الهذيان هذه عادة في سياق المزايدة على المقاومة نفسها في العداء للصهاينة. هؤلاء اثنان: إمّا كاذب مدرك لكونه كاذبًا، وإما مهزوم يعجز عن تصديق إمكانية أن تُهزم "إسرائيل". والاثنان يقدمان الخدمة نفسها للصهاينة: محاولة إخفاء ملامح هزيمتهم واندحارهم.

وثمّة أدوات ذهبت أبعد من ذلك كي تُخرج إنجاز التحرير من سياق الصراع: جاهرت بتصهينها علانية وعاتبت "إسرائيل" على انكفائها وتمنّت لو تعود وتحتلّ ليس فقط الجنوب بل لبنان كلّه، وهي فئة متتبّعي صور "الديمقراطية" و"رغد العيش" و"التطوّر الاقتصادي" في كيان الاحتلال ومقارنتها بصور من الأزمات السياسية والمعيشية والاقتصادية في لبنان، لدسّ استنتاج يقول إن "الاحتلال فرصة لتطوير البلد". هذا البؤس الضارب عرض الحائط بالمنطق وبالوقائع وبالشرف، لا يستحي من التعبير عن نفسه، رغم انفضاح مسألتين أساسيتين تعريان بنيانه الفكريّ كلّه: الأولى أن كلّ أوهامه حول "إسرائيل" كدولة متطوّرة ومتفوّقة سقطت بالنقاط وبالضربة القاضية، وعلى مرأى العالم، والثانية أنّ كلّ ما نحن فيه من أزمات مرتبط مباشرة بالغرب الذي صنع "إسرائيل" وغسل الأدمغة بصور تغذّي دونية المهزومين وصعاليك السياسة والاعلام والعمل العام.

اليوم يبلغ تحرير الجنوب عامه الرابع والعشرين. والقرى التي تحرّرت في أيار 2000 تواجه كما كلّ الجنوب الآن همجية الاحتلال وتلقّنه الهزائم المتتالية والمتراكمة.. يظنّ العدوّ أن بالقصف يسلبها فرحة تذكّر هزيمته الكبيرة المحتفى بها في كلّ البيوت اليوم، وينسى أنّه وهو في أوّج صورة "الجيش الذي لا يُهزم"، مرّغ الجنوب بأنف عنجهيّته التراب. فكيف الآن وقد صار اسمه في العالم "جيش قتلة الأطفال والمدنيين"، الذي أخلى شمال فلسطين من المستوطنين خوفًا ورعبًا؟

في مثل هذا اليوم، طردت المقاومة الإسلامية في لبنان جيش الاحتلال من الجنوب، وكان جيشًا متفوًقًا مدجّجًا لا بالسلاح المتطوّر فقط وإنّما بالدعاية الغربية التي تصوّره كجمع لا يحتاج بذل الجهد كي يفوز بمعركة.. واليوم، ونحن على بعد خطوات من نصر جديد، ومن قوافل جديدة تعود إلى الجنوب الذي نصر غزّة وانتصر، لا نرفع مكبّرات صوت الاحتفال حدادًا على شهداء الخدمة في الجمهورية الإسلامية في إيران، ولكنّنا على يقين بأن قريبًا سيكون احتفالنا مزدوجًا: ذكرى عيد التحرير وفرحة النصر القادم.

 

إقرأ المزيد في: عيد المقاومة والتحرير