#صيف_الانتصارات
إخوة.. والشهادة "بتلبقلن"
ايمان مصطفى
إنه تموز عام 2006. رائحة البارود في المنطقة. تحديدًا في بلدة عيناثا الجنوبية. انتهت الجولة الأولى من المعركة، عاد محمد ورفاقه يضحكون. كان المطلوب منهم أن يكونوا على جهوزية لعرقلة تقدم العدو الصهيوني. جلّ ما يحمله هؤلاء الشباب بضع قنابل ورشاش وبضعة مماشط.
المعركة وفقًا لتحليل القادة الميدانيين في المقاومة تحتاج إلى روحية هؤلاء المجاهدين.. العدو مجرم، أمّا هم فلا يأبهون لشيء.. همهم الوحيد أن لا يجوس العدو في الديار.
في الجولة الثانية، أصيب محمد لكنه تابع وزحف إلى مكان آمن. كلما أطل واحد من الأعداء عاجله برصاصة. هناك عند عتبة المسجد في مربع التحرير، قناص تربّص بمحمد فأرداه، ظل يحتضر داعيًا متوسلًا حتى أسلم الروح فجرًا.
مع مرور الأعوام، تتسارع الأحداث على صعيد المنطقة. إنه آب 2014. وتحديدًا منطقة فليطة السورية. مهدي ورفاقه صامدن في موقعهم. تعرض مهدي لإطلاق رشقات من رشاش عيار 23 فأصيب ببعض الشظايا، لكنه صمد.
أيام مضت في الموقع. مهدي يضحك ضحكة علا صوتها. نظر اليه الشباب بتعجّب فأخفاها بيده. لم يدم ذلك الجو المرح طويلًا. تحوّلت النقطة إلى نارٍ وبارود. قال أحدهم "بسرعة انتشروا هجموا من هونيك".
من دشمته قبض مهدي على سلاحه. تفنن باصطياد الأعداء. حين قتل عددًا منهم صوّب رصاصاته إلى جسد أحدهم القريب منه مسافة 15 مترًا، أصاب هدفه بدقة. التفت مهدي لصديقه غير مكترث لكثرتهم ولا لهمجيتهم صارخًا: "الله أكبر قتلتو وصبتو".
صرخ مهدي بأعلى صوته: "يا زهراء". ما إن أدار رأسه استقرّت تلك الرّصاصة في جبهته ونال الشهادة.
إنهما شهيد الوعد الصادق محمد منيف عطوي وشقيقه شهيد الدفاع المقدس مهدي منيف عطوي من بلدة شقرا الجنوبية. يروي لنا أخوهما عباس عطوي بعضًا من فصول الحكايا:
لحظات الوداع
التحق محمد بدورة عسكرية قبيل حرب تموز2006 بأشهر فقط، لم يتواصل - بطبيعة الحال - معنا أبدًا، هناك تعرف على "حيدر" والذي كلّما ذهب للخدمة حمل في جعتبه "الكبب" المقلية و"مراطبين" الزعتر والكشك والمكدوس لمحمد. والدتي لم تكلّم محمد قط! لكنها وثقت بحيدر الذي أكد لها أن المونة لمحمد وهو يأتي لاحضارها بناءً لطلبه.
عاد محمد من الدورة العسكرية ومكث بيننا أيامًا عدّة، مرت مرور السحاب بنظرنا، قضينا خلالها أجمل اللحظات، لم تخلو من الضحكات وآخرها كان على النهر. أذكر أن محمد حز البطيخة وأفرغها من الداخل وصنع منها خوذة، فقلت له أنها خوذة الصهاينة الأصلية، تعالت ضحكته كثيرًا، وكأنها أنبأتنا بالرحيل.
ذهب في اليوم التالي الى خدمته صباحًا وعاد ظهرًا دون حقيبته، فقلت له ممازحًا "شو زعبوك"، ليجيب ضاحكًا: "لا هناك تنظيم بديل سوف أذهب بعد يومين"، كأن الله أهدانا يومين اضافيين لنودع محمد.
في الليلة الأخيرة قبل ذهابه الى الخدمة عاد محمد الى المنزل في وقت متأخر أيقظ والدتي وهمس لها: "موضوع العمار والزواج انسيه"، أجابته مستغربة: "فيقتني لتقلي هيدا الشي يعني!"، ضحك وببرائته قال لها: "حاسس اني رح استشهد واذا صار هالحكي ابكي بس مش كتير"، ردت عليه مستنكرة "بلا هالحكي" واستغرقت في نومها.
في الصباح قام محمد على غير عادته مسرعًا، وهمّ بالخروج دون وداع، استهجنت والدتي من تصرفه "ما إلك بالعادة ما تودعني"، فقال لها "مستعجل". ومن منا كان يعلم أن الشهادة نادته فأجابها بسرعة! ما هي إلا ساعات قليلة مضت حتى أتى خبر عملية أسر الجنود الصهاينة، مضت ايام من الحرب ولم نعرف عن محمد شيئًا، سوى اتصال واحد منه طمأننا خلاله عن حاله. لم نكن نعلم أنه سيكون الاتصال الأخير.
"حيدر" الذي لم يغب عنا حتى بعد استشهاد محمد بات فردًا من العائلة، كنا نشتم رائحة محمد فيه. هو ايضًا سار على طريق الشهادة فنالها بعد صبر طويل. فتأثر به أخي الصغير "آخر العنقود" مهدي كثيرًا.
كلما أراد مهدي ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بصفوف المجاهدين والدورات العسكرية كنا له في المنزل بالمرصاد. مهدي أصر على الالتحاق تاركًا دراسته وكل ألقابه التي نالها في كرة القدم والمارتونات وأنشطته الكشفية والتحق بدورة عسكرية غاب فيها تسعة اشهر تخللها اجازات عدّة. آخرها كان في آخر أيام شهر رمضان. قضى مهدي معنا أيام عيد الفطر، وعاد الى "دورته العسكرية" أو كما ظننا نحن.. لنعلم لاحقًا أن مهدي كان في سوريا وتحديدًا في فليطة.
عندما علمت بهذا من أحد الأخوة المجاهدين أيقنت أن مهدي لن يعود الا شهيدًا أو أقلها جريحًا. عدت الى المنزل سألت والدتي عن مهدي، أجابت انه في دورة عسكرية في احد قرى البقاع، رددت في نفسي "الحمد الله ما معا خبر".
يومها أوصيت أخوتي بكتمان الخبر عن أمي حتى لا تقلق، وتواصلت مع مهدي. أيام مرّت ومهدي بخير يطمئنني عن أحواله. ذات ليلة سألته عن حاله، أجابني: "هياني بفليطه عم ريح حالي يومين وراجع طالع عالموقع"، استغربت: "ترتاح من شو" أنذرني قلبي بسوء. كان مهدي قد أصيب بشظايا وأخفى الأمر عني.
أذكر جيدًا ذلك اليوم، بينما كنا نتناول أنا وصديق لي أطراف الحديث تفاجأنا باتصال من أحد الأخوة أخبرنا فيه عن سقوط شهيدين لحزب الله في فليطة، ليتبين لاحقًا أن مهدي واحد منهما. نال ابن الـ 17 ربيعًا وسام الجرحى والشهداء في آن. كان صغيرنا، لكنه بشهادته أصبح كبيرنا.
عن محمد
يقول عباس عطوي: "محمد تحلى بالأخلاق الحميدة، ناهيك عن امتلاكه روح المسؤولية العالية". تحمل محمد مع أهلي الأعباء الاقتصادية وتكفّل بمصاريف دراسة أخي الصغير مهدي. سخّر كل وقته للعمل، لم يفكر يومًا كيف يصرف على نفسه. راتبه يصل من جيبه الى يد أمي مع بداية كل شهر.
بار بوالديه، رحيم على الضعفاء، لم يترك قريبًا الا وصله وزاره. لم ينقطع قط عن منزل جدتي، يرعاها ويؤنسها ويهتم بكل أمورها. تعلقت به تعلقًا عظيمًا. كما تعلّق به كل من عرفه.
محمد ودود، محب، ذو لسان دافئ ونفس كريمة. صفات لا تليق الا به وبأمثاله. لم يخرج محمد يومًا من المنزل من غير وضوء. أغلب صلاته كانت في المسجد. يقرأ القرآن بتمعن ولا يترك الدعاء أبدًا. حتى أنه قضى ليلته الأخيرة عند عتبة المسجد الذي يحبه بالدعاء والتوسل.
برنامجه اليومي منظم، بين العبادة والنوم والرياضة وصلة الرحم وحتى الترفيه عن النفس. مميز بكل ما فيه.
عن مهدي
وعن مدلل العائلة يخبرنا عباس: "مهدي الصغير والراشد في آن في العائلة". على رغم صغر سنه الا أنه أدرك الأمور. "الخدوم" في المنزل وصاحب المرؤة.
"أيمتى بدك تضبيلي الشنتة"، يسأل والدتي كلما التحق أحد أخوتي للجبهة. اندفع للالتحاق بها منذ نعومة أظافره. انضم اخي الى كشافة الامام "المهدي (عج) وكان فاعلًا في النشاطات الثقافية والدينية. عمل جاهدًا على نشر الوعي بين رفاقه في الصف والحي، حتى اهتدت بعض فتيات جيله على يديه وارتدين الحجاب.
أذكر أن مهدي كان كتومًا، يجلس بيننا من غير كلام، يستمع الى كل كلمة ويستخلص منها العبر. مهدي أحب الإستماع الى اللطميات الحسينية كثيرًا خصوصًا أن قلبه تعلّق بإمامه الحسين (ع)، فكان دائمًا أول المبادرين لاحياء الشعائر الحسينية من اللطميات والمجالس.
يختم عباس حديثه قائلًا: "شو ما نعمل لنوفيهم حقن ونحكي عنن رح نضل مقصرين والله.. الشهادة بتلبقلن".
#صيف_الانتصارات
الانتصار الإلهيحرب تموز 2006#صيف_الانتصارات
إقرأ المزيد في: #صيف_الانتصارات
27/08/2021