الرد القاسم
انتهت المسرحية: هؤلاء قتلى عين الأسد
ايهاب زكي
في لقاءٍ بمحض الصدفة مع مسؤولٍ عربيٍ سابق، استهل حديثه باستنكار حال أمة الفرص الضائعة -كما سمّاها-، فكم أضاع العرب من فرصٍ لصناعة الاستقرار منذ العام 1948 والتفرغ للتنمية، وهذا ما تسبب بفراغٍ ملأته قوى إقليمية معادية، ولها مشاريع متناقضة مع المصالح العليا للأمة، ثم عرَّج على خطورة المشروع الإيراني وأهدافه بعيدة المدى، والذي يرتكز على قواعدَ قومية ويتمدد عبر جسور مذهبية، وخلُص إلى نتيجةٍ اعتبرها ممنطقةً تلقائياً، وهي ضرورة السلام والتطبيع مع "إسرائيل"، فقلت له بالمناسبة لا يوجد هنا كاميرات تلفزيونية، وقد اعتبرها دعابة سمجة، لكنه كان دمثاً لدرجة تقبلها حد أنّه عرف مغزاها، وهو أنّه يقول كلاماً غير مقنعٍ حتى لنفسه، ولكنه اعتاد على التفكير بهذه الطريقة، واعتادت لغته الحديث بهذا المنطق، وهذا المنطق ينطبق عليه المثل العربي القديم "أحَشَفَاً وسوء كَيلة"، فلا يكتفي بشيطنة إيران والانبطاح أمام المشاريع الصهيونية، بل يذهب حد ملائكية "إسرائيل"، وأكثر من يجعل هذا العار منطقاً هو إعلام النفط، ويحضرني فيه قول المتنبي:
أمَيْناً وإخلافاً وغدراً وخسةً وجبناً... أشخصاً لُحت لي أم مخازياً.
فقط نستبدل أشخصاً بـ"أإعلاماً".
هناك خطأ فادح تم تكريسه عبر المستنقع النفطي للإعلام في عقولٍ ضحلة، استمرأت الوحل وعاشته وتعايشت معه، وهو منطق الدفاع عن إيران، فكل من حمل سلاحاً أو قلماً أو لساناً وتحدث في بديهيات الأشياء، أو وقف في خندق البداهة فهو يدافع عن إيران. حين أمدت إيران فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق بالسلاح لم تكن طهران محتلة، فاللبناني الذي يحمل سلاحاً إيرانياً هو يدافع عن لبنان لا عن إيران، والفلسطيني الذي يحمل سلاحاً إيرانياً هو يدافع عن فلسطين لا عن إيران، وكذلك اليمني يدافع عن اليمن من إرهاب التنظيمات وإرهاب الدول، والعراقي كذلك يدافع عن العراق من "داعش" وصُناعها، وكذلك السوري الذي استقبل الجنرال سليماني في خندق الحرب على الإرهاب، لم تكن "داعش" على أسوار طهران بل على جدران دمشق، فكل هؤلاء يدافعون عن بلدانهم وأوطانهم، والعامل المشترك بين كل هذه الساحات هي"إسرائيل" التي تسعى للتفتيت والتغلغل والاحتلال، وحتى تلك الدول التي تتخندق مع "إسرائيل" فإيران في مكانٍ ما تدافع عنها، كما قال السيد نصر الله فيما لو استكان الجميع للمشروع الصهيو-أمريكي عبر "داعش"، حيث كان سينقلب السحر على الساحر.
ظل آل سعود حتى اللحظة الأخيرة يدافعون عن نظام الشاه إعلامياً وسياسياً، ولو توقف التاريخ واستمر نظام الشاه حتى يومنا هذا، لوجدنا آل سعود أول المدافعين عن إيران، ولكان إعلامهم يعادي من يعاديهم اليوم ذاتهم، ولكن ليس بصفتهم "أذرع" إيران كما يسميهم، بل بصفتهم أعداء إيران، فحقيقة الصراع أصبحت واضحة وليس من قبيل المصادفة التاريخية أنّ آل سعود كانوا وما زالوا وسيظلون أعداءً لكل من قاوم الهيمنة الأمريكية وتصدى للمشروع الصهيوني، وما التسخيف الذي يمارسه النفط تجاه الصفعة الإيرانية على الوجه الأمريكي في عين الأسد، إلّا جزءًا من مشروع التوهين الذي يرسِّخ في العقل الجمعي فكرة العجز وبالتالي الاستسلام للقدر الأمريكي والتعايش مع أبدية"إسرائيل"، لأنّ العائلة الحاكمة في الحجاز تعرف أنّها منتج استعماري، وعليه فإنّ مشروع إخراج الولايات المتحدة من المنطقة هو خطر وجودي على العرش، كما تتعامل معه بالضبط "إسرائيل" باعتباره خطراً على ديمومتها، لذلك فإنّ مجابهة أسمى مشروعٍ للأمة في قرنين ماضيين على الأقل-إخراج القواعد الأمريكية-، سيضعك في خندق"إسرائيل"، بغض النظر عن كل ما تسوقه لنفسك من مبررات وذرائع.
إنّ ما حدث في قاعدة عين الأسد ليس مجرد "ميكانيكا"، صواريخ هبطت على مكانٍ فأحدثت أضراراً، إنّ ما حدث هو بمثابة الطلقة الأولى التي اخترقت صدر الإمبراطورية، والطلقة الأولى التي أدمت جبينها، فـ"القتلى" الذين سقطوا في عين الأسد كانوا أكثر إيلاماً من قتل جنود: الهيبة الأمريكية هي القتيل الأول، والقاعدة الأمريكية هي القتيل الثاني، والتكنولوجيا الأمريكية هي القتيل الثالث. والأخطر هو أنّ القدرة الأمريكية هي القتيل الرابع، والقتيل الخامس سيكون الوجود الأمريكي برمته، فهؤلاء القتلى لا يحتملون العبث، لتمنحهم أمريكا لإيران في عرضٍ مسرحي، هؤلاء هم أركان الإمبراطورية الذين يحملون عرشها، وما على واضعي الاستراتيجيات في الولايات المتحدة سوى التفكير في استراتيجيةٍ أمريكيةٍ جديدة بدون وجودها في الشرق الأوسط، لأنّ خيارات التسارع التقني والعسكري لم تعد قادرة على اللحاق بالتحولات التي حدثت في العقد الماضي، ولأنّ الشيخوخة التي تعاني منها الأدوات الأمريكية في المنطقة ليس لها من حلول، سوى البدء بالتفكير بجنازاتٍ لائقة، وباستثناء الكيان الصهيوني، فإنّ الفرصة لا زالت سانحة لمن يريد تجديد شبابه وحصوله على أجر المشي في الجنازة أنظمة وعروشًا، قبل أن يكون هو ذاته الجنازة.
إقرأ المزيد في: الرد القاسم
23/01/2020