معركة أولي البأس

#عصحة_السلامة

جوانب اجتماعية خطرة للفيروس.. ماذا بعد كورونا؟
17/03/2020

جوانب اجتماعية خطرة للفيروس.. ماذا بعد كورونا؟

محمد أ. الحسيني

إنه عصر فايروس الكورونا. جرثومة ليست عادية بل سلاح بيولوجي يستهدف بلداناً محدّدة وأعراقاً محدّدة من الشعوب تبعاً لنوعية جيناتهم الوراثية، وسوف يليه فايروسات مهجّنة أكثر فتكاً من بلاد أخرى غير الصين (من دول وسط أفريقيا أو الفيليبين)، لتشكّل مع الكورونا هجوماً ذا فكّين باتجاهات مداريّة متعدّدة، ينتشر بسرعة في كافة بلدان العالم وسط تخبّط الدول المتقدّمة وفشلها في إيجاد لقاح شافٍ له، لا سيّما أنه من جيل الفايروسات التي تتطوّر ذاتياً.

وهكذا من المرجّح جداً أن يقضي الطاعون الجديد على ثلثي سكان الكرة الأرضية.. إنها الحرب العالمية الثالثة دون جيوش بشرية وتجهيزات عسكرية، بدأت وستنتهي بجلوس من بقي من زعماء العالم - الذين دبّروا واستفادوا من الطاعون الجديد - على طاولة مفاوضات رسم الخرائط الجديدة للدول المنكوبة، وتوزيع النفوذ في القارات المنهكة، وتحديد قوانين المواصلات بين الممرات المائية والبحرية، وصولاً إلى تقاسم الثروات ومصادر الحياة وحقول الطاقة المنهوبة، ولا سيما في المنطقة العربية.

هذا واحد من السيناريوهات "المنطقية" التي تعتمد في بنائها على مجموعة من العناصر الواقعية المعاشة من قبل الناس، ليس في لبنان فحسب بل في كل أنحاء العالم، وبالتالي فإن أي سيناريو مماثل أو شبيه لما سبق سيجد طريقه السريع إلى التصديق ثم الانتشار بين الأفراد أولاً، ومن ثم يتحوّل إلى مادة تستند إليها المقالات الإخبارية المسيّسة والتحليلات "الاستراتيجية" الموجّهة، في ظل انتشار خطير للشائعات والأخبار الملفّقة والمغلوطة التي باتت تجد طريقها بسهولة لتكون بمتناول الناس، كبيرهم وصغيرهم، مثقفهم وجاهلهم، واعيهم وأحمقهم، خيّرهم وشرّيرهم، فاضلهم وحاقدهم، أمينهم وخائنهم.. إلخ، والكلّ ينصّب نفسه عالماً على الكلّ، باعتباره صاحب السبق وكاتب سيناريو الخوف الإبداعي.

ومهما اختلطت المعلومات وتعدّدت السيناريوهات يبقى العنصر البشري المحور الجوهري لحركة كل العناصر، وفيه وبه الفصل، ومن هنا فإن هذا المقال لا يتعرّض للحديث عن فايروس كورونا بمواصفاته وعوارضه، وسبل الوقاية والعلاج منه وغير ذلك من بحث مختصّ، فهو في التصنيف الطبي كما غيره من الفايروسات التي سبقته في الظهور عبر التاريخ وتسبّبت بموت مئات الملايين في أنحاء الأرض، إلا أنه في التصنيف الاجتماعي واحدٌ من أخطر الظواهر - إن لم يكن أخطرها - التي واجهها العالم حتى اليوم، نظراً لتأثيراته النفسية والسلوكية منذ أن تم الإعلان عن اكتشاف الفايروس في كانون الأول من العام الماضي، وهي تأثيرات مقتصرة أولاً وأساساً على سلوك الفرد بحد ذاته بمنأى عن انتمائه للجماعة والبيئة والثقافة واللغة والدين والعرق.

ما هي جوانب الخطورة في هذه التأثيرات الاجتماعية؟! وهل ستؤثر هذه المخاطر على الإطار البنيوي لتركيبة الإنسان؟! وهل تستمر معه حتى بعد اختفاء الفايروس؟!

 قبل الجواب على هذه الأسئلة لا بد من استعراض شكل هذه التأثيرات وانعكاسها على تصرفات الناس وسلوكهم بشكل عام أولاً وفي المجتمع اللبناني ثانياً. فإن الفايروس الذي يضرب العالم في الوقت الراهن قد تسبّب بشكل مباشر أو غير مباشر بنشوء ما يسمّى الوسواس القهري، وهو يتمظهر، بحسب علماء النفس والاجتماع، بنمط من الهواجس تدفع المرء إلى القيام بسلوكيات متكرّرة قهرية، تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى سلوكيات يومية روتينية فتصبح ملازمة لصفاته الذاتية، وغالبًا ما يتركّز اضطراب الوسواس القهري حول مواضيع معيّنة كالخوف من التلوّث بالجراثيم، وهذا ما هو حاصل اليوم مع شيوع فايروس الكورونا، فكل الناس تندفع من باب الوقاية إلى غسل اليدين والهوس بالنظافة والتعقيم للأجسام والثياب والأغراض والمنازل والأحذية.. إلخ، والابتعاد عن الاحتكاك بالناس والهروب من التجمّعات والأماكن المكتظّة والالتزام بأماكن محدّدة لأوقات طويلة نسبياً في حالة أشبه بالانعزال.

قد يكون هذا النمط من السلوكيات مطلوب في حالة الاضطرار حفاظاً على السلامة الفردية، ولكن أن يتحوّل إلى حالة فردانية تدفع إلى رفض الآخر فهنا تكمن المشكلة. فإن هذه النزعة في وقت ما قد تتحوّل إلى حالة مستدامة تؤسس لثقافة عنصرية انعزالية لا تقف عند حدود البلد او المناطق أو القرى، وتصل إلى الحيّ والشارع والمنازل في المبنى الواحد، وحتى داخل العائلة والأسرة الواحدة، وكل ذلك نابع من الخوف على النفس والقلق من انتقال العدوى ومواجهة خطر الموت، وقد تصل إلى نشوء أفكار ونزعات عدوانية تجاه الآخر، وصولاً إلى حدوث صراع وتقاتل تهافتاً للحصول على العلاج الناجع وأدوات الوقاية وغيرها من مستلزمات درء الخطر وحفظ النفس.

ولبنان ليس حالة شاذّة في هذا السياق، فهذا الفايروس القاتل لا يعرف جنساً أو عرقاً أو طائفة أو ديناً، ويتجاوز الحدود الجغرافية والهويات السياسية والحزبية، ولا يقف عند الثقافات والمستويات العلمية والطبقات الاجتماعية، لأنه يستهدف الإنسان كمخلوق عضوي وحيوي، إلا أنه أظهر جانباً أسود دفيناً عند البعض، وكشف فيهم عوارض مرضية نفسية أخطر من العوارض الجسدية المادية، ليقدّم صورة سلبية عن تحوّل هذا الوسواس إلى هاجس أيديولوجي مقيت لا يعرف عنواناً لإنسانية أو حسّ بشري. وهكذا لدى بعض الجهات والدول العربية والغربية، التي تقتات أساساً على بث نوازع الشر والكراهية بين البشر، ولكنه في المقابل أظهر سقوطاً لنظريات كبرى أبرزها عولمة النمط التي سعى الغرب على مدى عشرات السنين لفرضها على العالم، وكرّس النزعة الفردانية بارتداد كل امرئ إلى نفسه فيما يشبه يوم الحشر، وأصبحت العولمة ذات نمط عكسي بغير ما هو مخطّط لها، وحتى في داخل دول أوروبا وأمريكا نفسها.

ولكن في مقابل هذه الحالة المستجدّة يمكن ملاحظة بروز ثقافة التكافل الجماعي والتكتّل الاجتماعي في مسار وحدوي للمواجهة، وتشكّل الصين وإيران نموذجين حضاريين في هذا السياق، من حيث استثمار العناصر التربوية لدى أفراد الشعب، وتفعيل الخلفية الثقافية التي نشأ عليها المواطنون في انتمائهم والتصاقهم بالهوية القومية في هذين البلدين بما انعكس تضافراً شاملاً شارك فيه الشعب إلى جانب الدولة يداً بيد. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نسجّل أيضاً الحكمة العالية والوعي الاستثنائي لقيادة حزب الله وللأمين العام لحزب الله سماحة السيد نصر الله في الدعوة لاستيعاب هذه الأزمة الناشئة من انتشار الفايروس وترجمة ثقافة التكافل والتكتّل وتجييرها لخدمة الناس، فضلاً عن التعامل الهادئ والفاعل لوزارة الصحة اللبنانية والقيّمين عليها، وهو ما يجعل لبنان في مقدّمة الدول التي تنجح في مكافحة هذا الفايروس بشكل فعّال والحد من آثاره المميتة صحياً ونفسياً واجتماعياً، وتحويل اليأس والخوف والانعزال والشعور بالانهزام والعدوانية ورفض الآخر إلى حركة تضامنية - تعاونية يشارك فيها الكلّ من أجل الكلّ.

إقرأ المزيد في: #عصحة_السلامة