معركة أولي البأس

خطاب القائد

النص الكامل لكلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء مشاركين في مؤتمر الوحدة الإسلاميّة
17/10/2022

النص الكامل لكلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء مشاركين في مؤتمر الوحدة الإسلاميّة

القى آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي يوم الجمعة 14/10/2022 كلمة خلال لقاء مع مسؤولي البلاد والضيوف المشاركين في مؤتمر الوحدة الإسلاميّة بمناسبة حلول ذكرى مولد رسول الله (ص) وحفيده الإمام الصادق (ع).

وأكد الإمام الخامنئي أنّ الرسول الأكرم (ص) يملك شخصيّة استثنائيّة في عالم الوجود كلّه ولا بدّ من جعله أسوة واستلهام الدروس منه، مشيرًا إلى أنّ "النهاية لمعاناة الأمّة الإسلاميّة تكون بشكل أساسيّ مع تطبيق الوحدة بشكل عمليّ، وأنّ الوحدة تعني حماية مصالح الأمّة الإسلاميّة وعمل المسلمين معًا ضدّ مخطّطات الاستكبار".

وفيما يلي النص الكامل لكلمة سماحته:

بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أرحّب بالحضور الكرام، والمسؤولين الموقرين في البلاد، وضيوف "أسبوع الوحدة" الأعزاء، وأبارك الولادة المكرّمة والمعظّمة لرسول الله الأعظم (ص) والإمام الصادق (ع) لكم جميعًا: الأعزّاء الحاضرين هنا والشعب الإيراني كافّة والأمّة الإسلاميّة جمعاء في شرقي العالم وغربيه، ونأمل - إن شاء الله - أن تشمل بركات عنايته (ص) والعناية الإلهيّة ببركة ذلك العظيم الأمّةَ الإسلاميّة العظيمة، وتؤدّي إلى تقدّمها، إن شاء الله.

طبعًا، هناك نقطة ذروة في الشخصية الاستثنائية للنبي الأكرم والرسول الأعظم (ص)، هي البعثة. نقطة البعثة. طبعاً، شخصيّة الرّسول الأكرم (ص) شخصيّة استثنائية في عالم الوجود كلّه. نقطة الذّروة لهذه الشخصيّة هي الارتباط للقلب المطهّر لذاك العظيم بمعدن العظمة والعزّة والحكمة الإلهيّة، أي نقطة البعثة. لكن آناء حياة النبي (ص) كلها، حتّى بعد البعثة، متأثّرة بقضيّة البعثة ومتناسبة معها. أي ليس الأمر على هذا النحو: أن نفترض أنّ نبيّ الإسلام المكرّم (ص) كان لديه قبل البعثة حياة إنسان عادي. كلا؛ حركات ذلك العظيم، والبركات الإلهيّة لذلك العظيم، والألطاف التي جرت في عالم الطبيعة ارتباطًا بوجود ذلك العظيم... هذه كلّها استثنائيّة وتتناسب مع ذروة شخصيّة ذاك العظيم، أي قضيّة البعثة. تُمكن مشاهدة الدلالات على عظمة الحق - تعالى - في مراحل الحياة كافّة لذلك العظيم، حتى عند الولادة. نحن اتخذنا هذا اليوم عيدًا واحتفلنا به من أجل ولادة الرّسول (ص). حتّى في يوم الولادة لذلك العظيم يشاهد المرء دلالاتٍ وآثارًا للبركات الإلهيّة، ومنشؤها الأساسيّ هو نقطة الذّروة لها، أي البعثة. يرى المرء آثار التوحيد ودلالاته العمليّة في يوم الولادة أيضًا، بدءًا من داخل الكعبة حيث تُحطّم الأصنام وصولاً إلى مواجهة الأصنام الطاغوتية، أي كبار الطواغيت البشرية في ذلك اليوم، كما تجفّ البحيرة المقدّسة الفلانيّة، ويُطفأ معبد النار الفلاني الذي يرونه مقدّسًا، وينهار إيوان كسرى وتنهار شُرفاته... هذه الأحداث [التي وقعت]. لذلك، يوم الولادة ليس عاديًّا؛ هو يومٌ مهمٌّ وعظيمٌ جدّاً. نحن نتخذ هذا اليوم عيدًا لهذه المناسبة.

النقطة الأساسيّة أنّ اتخاذ العيد ليس من أجل الاحتفال وتخليد الذكرى فقط وأمثال هذه الأمور، إنما من أجل استلهام الدّروس وجعل النبي الأكرم (ص) قدوة. نحن بحاجة إلى هذا الأمر، والبشرية بحاجة إلى هذا الأمر اليوم، والأمة الإسلامية بحاجة إلى هذا الأمر اليوم. علينا أن ننهل الدروس. لذلك إن إحياء الذكرى لولادة الرسول الأعظم (ص) لكي نعمل بمضمون هذه الآية الشريفة التي تقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب، 21). النبي الأكرم (ص) أسوة حسنة. القرآن يقول هذا بصراحة. ماذا يعني أسوة؟ أي هو قدوة، ويجب أن نتّبع هذه القدوة. لقد استقر في قمةٍ، وعلينا التقدم والسير من هذا الحضيض نحو تلك القمة. يجب أن يتحرك الإنسان نحو تلك القمة بقدر ما يستطيع. هذا ما تعنيه «أسوة».

حسناً، الآن عندما نريد أن نقتدي بهذه القدوة والأسوة، إن الدروس الموجودة ليست مجرد درس أو اثنين، فهناك مئات الدروس. هناك مئات الدروس الأساسية والمهمة في الحياة الشخصيّة للنبيّ (ص)، وفي حياته العائليّة وحكومته وشخصيّته الاجتماعيّة مع أصحابه وأعدائه والمؤمنين والكافرين. أحد الدّروس الذي أودّ أن أطرحه اليوم هو مضمون هذه الآية الشريفة، إذ قال - عزّ وجل -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة، 128)، وأنا أودّ التركيز على قضيّة «عزيزٌ عليه ما عنتّم» هذه. [يقول الله المتعالي]: معاناتكم بالنسبة إليه مؤلمة وصعبة. حين تعانون، يتألّم النبي (ص) لمعاناتكم. لا شكّ في أنّ هذا الأمر ليس خاصّاً بالمسلمين المعاصرين رسولَ الله (ص)، بل إنّ الخطاب للمؤمنين كافّة على مرّ التاريخ. أي إنْ كنتم تعانون في فلسطين وميانمار، وكان المسلمون يعانون في سائر الأماكن، فليعلموا أنّ هذه المعاناة تؤلم الروح المطهّرة للنبيّ (ص) وتجلب العناء إليها. هذا أمرٌ في غاية الأهميّة. هكذا هو نبيّنا. وحالة النبي الأكرم (ص) هذه التي جرى الحديث عنها في هذه الآية الشريفة هي النقطة المقابلة لحال الأعداء وقد تمّت الإشارة إليها في هذه الآية الشريفة أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (آل عمران، 118). هناك يُذكَر للنبيّ الأكرم (ص): «عزيزٌ عليه ما عنتّم»، وهنا [للأعداء]: «ودّوا ما عَنِتّم»، [أي] تُفرحهم معاناتكم. نحن هكذا الآن، فالتفتوا لكي تعرفوا وضعنا في هذا العالم.

من ناحية هناك الوجود المقدّس الذي هو «عزيزٌ عليه ما عَنِتّم»، ومن ناحية أخرى أيضاً هناك جبهةٌ هي «ودّوا مَا عَنِتّم»؛ إنهم يفرحون لمعاناتكم ويُسرّون لتعاستكم ويشعرون بالسعادة. طبعاً، حين تكون حال تلك الجبهة كذلك، يحاولون سوقكم ودفعكم نحو المعاناة والتعاسة. لا بدّ لنا من فهم هذه الوضعية والتعرّف والالتفات إليها.

حسنٌ إذن، عمّ تنجم معاناة الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر؟ لماذا تعاني الشعوب الإسلامية إلى هذا الحد من الناحية الاقتصادية والضغوط السياسية والحروب، والحروب الداخلية، والهيمنة والسيطرة، والاستعمار، والاستعمار الجديد، وأمثالها؟ ما سبب هذه المعاناة وتعرّض المسلمين لها؟ هناك أسباب كثيرة ودلائل متعددة. التخلف العلمي أحد أسبابها، والاستسلام لتسلّط المستعمرين أحدها. لها أسباب متعددة، وقد عمل في هذا الصدد مَن هم أهل السياسة وتحليل القضايا السياسيّة والاجتماعيّة وأمثال هذه الأمور وكتبوا آلاف المقالات، لكنْ واحد من العوامل، الذي قد يكون الأهمّ أو من أهمّها، هو تفرّق المسلمين. نحن لا ندرك قيمة أنفسنا وقيمة بعضنا بعضاً. هذا هو الإشكال الكبير لعملنا. نحن منفصلون عن بعضنا بعضاً ومتفرّقون.

حين نكون متفرّقين، لا نضمر الخير لبعضنا بعضاً، وأحياناً نضمر السوء لبعضنا بعضاً. حسناً، كذلك تكون النتيجة. هنا يتحدث القرآن بصراحة أيضاً. حقّاً، لا توجد أيّ نقطة مهمّة في قضايا العيش للبشر لم ينطق بشأنها القرآن بصراحة. هنا أيضاً يقول القرآن: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال، 46). عندما تتنازعون، ينتج الفشل، والفشل يعني الوهن. «وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»، أي يذهبَ عزّكم. حين تختلفون، ستكون النتيجة القهريّة أن تقعوا أرضاً وتُذَلّوا وتوفِّروا قهراً الوسيلة لهيمنة الآخرين عليكم. هذه هي نتيجة التفرّق.

لقد أكّد أمير المؤمنين – سلام الله عليه – في «القاصعة» التي هي واحدة من أهمّ خُطب نهج البلاغة هذه المسألة. أمير المؤمنين يُرجع مستمعيه إلى التاريخ. يقول: انظروا كيف اكتسب السّلف العزّة حين كانوا معاً وكانوا مُتّفقين، وما الحال التي كانوا عليها، لكن حين خرجوا من حالة الاتحاد تلك، «فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَتَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ»، وبعدها هناك بضع جمل بهذه المضامين نفسها، ثم يقول عندما صارت الحال كذلك وسادت الفرقة والتشتت والعداوة: «قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِه‏»[2]. نزع الله المتعالي لباس الكرامة عن هؤلاء، وسُلب منهم ذلك الشرف الذي كان لديهم، وتلك العزة لديهم، وتلك النعمة التي منحهم الله إياها، بسبب الخلاف والفرقة.

إذن، يجب أن نفكر حقاً في هذا الأمر. فلنفكر في مسألة «الوحدة بين المسلمين» هذه. اليوم، يروم العدو النقطة المقابلة لها تماماً. لقد صنعوا بذرة فاسدة لخلية سرطانية في هذه المنطقة باسم الكيان الصهيوني ليكون المقر الغربي لعدو الإسلام، لأنهم في ذلك اليوم شتتوا ودمروا وقسّموا الدولة العثمانية المترامية إلى دول عدة، ولا بد أن يكون لديهم مقر هنا حتى يتمكنوا من السيطرة دائماً، ولكيلا يسمحوا بتحقيق أهداف عظيمة في هذه المنطقة. هذا المقر كان فلسطين المظلومة هذه. جلبوا الصهاينة الخبيثين والفاسدين والقتلة والعديمي الرحمة وأسكنوهم هنا وأنشؤوا حكومة مزيفة وصنعوا شعباً مزيّفاً لهذا العمل. طبعاً، كان المسلمون ملتفتين أيضاً. الآن يعمل [الأعداء] على إخراج هذا الكيان المضرّ وهذه الخلية السرطانية المتضخمة من عنوان العداء، وافتعال المزيد من الخلافات بين دول المنطقة. إنهم يسيطرون في كل مكان. عمليات التطبيع هذه واحدة من أكبر الخيانات تجاه الإسلام والمسلمين، [وكذلك] افتعال الفرقة والخلاف. فالعدو على هذا النحو؛ إنه يعمل باستمرار.

يجب أن نستفيد من يوم الميلاد على هذا النحو: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. ورسول الله (ص) الذي ذكرناه هو على هذا النحو. ولهذا، جعلنا في الجمهورية الإسلامية هذا اليوم يوم عيد، وجعلناه يوم الوحدة، أي من الثاني عشر من ربيع الأول، الذي هو رواية أهل السنة لمولد النبي (ص)، إلى السابع عشر من ربيع الأول، وهو الرواية الشيعية. جعلنا أسبوعاً احتفالياً بين هذين اليومين، وأُطلق عليه اسم «أسبوع الوحدة». طبعاً، كانت خطوة جيّدة، لكن ينبغي تحقيقها، ولا بدّ لنا من الاتّجاه نحو تطبيقها.

حسناً، قد تقولون: نحن لسنا الرؤساء لهذه الدول. نعم، لدى الرؤساء دوافع أخرى. لديهم دوافع سياسيّة وأهداف أخرى. لكنّ المثقّفين والعلماء والكُتّاب والشّعراء والحكماء والنّخب والخواصّ في أيّ بلد قادرون على جعل الأجواء مختلفة عمّا يريده العدوّ، فحين تتبدّل الأجواء، يصير تحقيق هذه النتيجة أسهل.

حسناً، ماذا تعني الوحدة؟ المراد من الوحدة ليس الوحدة المذهبية قطعاً، أيْ أن يتحوّل هذا إلى مذهب ذاك، وذاك إلى مذهب هذا. كلا، ليس هذا المراد قطعاً، ولا الوحدة الجغرافية أيضاً كما حدث في الستينيات والسبعينيات من القرن الميلادي [الماضي]، عندما اتّحدت بعض الدول العربية وأعلنت أنها كيان واحد، وهو ما لم يتحقق وغير ممكن أيضاً. ليس هذا المراد. المراد من الوحدة هو الوحدة في حماية مصالح الأمة الإسلامية. أولاً دعونا نحدد أين مصالح الأمة الإسلامية وما هي، وبعد ذلك فلتتفق الشعوب مع بعضها بعضاً في هذا الصدد. وإذا ما اهتدت الحكومات إلى هذا الطريق - إن شاء الله - ووجّه الله قلوبها في هذا الاتجاه، فليتوافقوا في سياق مصالح الأمّة الإسلاميّة، وليروا ما تحتاجه الأمة اليوم، ومَن يجب أن تُعادي وكيف، ومَن تصادق وكيف. فليتوافقوا على هذه التوجهات عبر المحادثات والمفاوضات، وليسيروا في هذا الاتجاه. هذا هو المراد: العمل معاً ضد مخططات الاستكبار.

لا شكّ أن لدى عالم الاستكبار مخططات واضحة لمنطقتنا هذه وبلداننا. هذه المنطقة الإسلامية فرصة عظيمة. إن منطقتنا إن لم نقل الأكثر حساسية، فهي من أكثر المناطق حساسية في العالم. وإن لم نقل الأغنى، فهذه المنطقة واحدة من أغنى المناطق في العالم. إن آسيا الوسطى وغربي آسيا وشمال أفريقيا، التي هي منطقة إسلامية، منطقة مهمّة للغاية. إن الاستكبار، والقوى الكامنة خلف كواليس السياسات الاستكبارية، أي الشركات والكارتلات والائتمانات الدولية، لديها مخطط تجاه هذه المنطقة. [يجب] أن نعمل معاً في مواجهة مخططاتهم. هذه معاني الوحدة. لقد اقترحنا هذا على العالم الإسلامي وطلبناه منه.

ثمة نقطة أساسية هنا ينبغي ألا نغفل عنها. اليوم، يتّضح أكثر فأكثر أن الهندسة السياسية للعالم وعلى مستوى العالم آخذة بالتغيّر. اليوم، صار من الواضح أكثر فأكثر أن الخريطة السياسية للعالم آخذة بالتغير، وقضية ذاك النظام الأحادي القطب، وغطرسة قوة - أو اثنتين، لا فرق – على الدول والشعوب وأمثالها، قد فقدت شرعيتها، أي إنّ الشعوب قد صحت. النظام الأحادي القطب صار منبوذاً، وسيصير تدريجياً منبوذاً أكثر فأكثر. كثيراً ما تسمعون اليوم في العالم هذه الكلمة على لسان سياسيين من الدرجة الأولى: لا نؤيد النظام الأحادي القطب. ماذا يعني نظام أحادي القطب؟ هذا يعني مثلاً أن أمريكا تجلس وتخطط للعراق أو سوريا أو لإيران أو للبنان أو للبلد الفلاني، أنْ «يجب أن تفعلوا هذا، ويجب أن يتم هذا، وينبغي ألا يصير ذاك». تارةً يصرّحون بذلك، وتارةً لا، لكنهم يفعلون. هذا هو واقع الأمر اليوم. إنهم يخططون للبلدان ويحشدون قواهم.

حسناً، لديهم مخطط. الاستكبار لديه مخطط. [لكن] هذا في حالة تغيّر، وحالة الهيمنة للاستكبار العالمي على الدول والشعوب ومختلف المناطق تتغير تدريجياً، تماماً مثل التغيير الذي حدث أثناء الحركات المناهضة للاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد انتفضت الدول، دولة تلو أخرى، ضد الاستعمار المباشر في منتصف القرن العشرين - في آسيا على نحو، وأفريقيا على نحو، وأمريكا اللاتينية على نحو - وقد شهدت الخريطة السياسية للعالم تغييراً كبيراً ذلك اليوم. اليوم أيضاً هناك تغيير أساسي يحدث. هذه التحرّكات المستبدة، الخافتة والهامدة، للاستكبار العالمي ضد الشعوب تفقد شرعيتها تدريجياً بوضوح. منذ البداية، لم تكن شرعية في نظر الشعوب، لكن نظرتهم صارت أكثر وضوحاً تجاه هذا [الأمر]. حسناً، سيحدث وضع جديد وسيتشكل عالم جديد. قد لا نكون قادرين على تخمين الشكل الذي سيبدو عليه هذا العالم بدقة لكننا متأكدون أن هناك عالماً جديداً في طور التشكّل تدريجياً على مر السنين. حسناً، أين مكانة الأمّة الإسلاميّة في هذا العالم الجديد؟ هذا سؤالٌ مهمّ.

الأمّة الإسلاميّة، [أي] أكثر من مليار ونصف من الأنفس البشريّة، مع ما لدينا من تاريخ علميّ عظيم ومشعشع – نعم بالطّبع، لقد سقطنا من الناحية العلميّة خلال القرون الأخيرة القليلة، لكن قبل ذلك، كانت ذروة قمم العلم ملكاً لنا نحن المسلمين؛ هذا ميراثنا وهو بحوزتنا – ومع امتلاك الثروات الطبيعيّة والإنسانيّة، وامتلاك الدوافع الجديدة من أجل التجدّد... مع تلك الخصائص، أين هي مكانة هذا العالم الإسلاميّ وهذه الأمّة؟ أين سنكون في هذا العالم الجديد الذي هو في طور التشكل؟ أين نقطة تموضعنا ووجودنا؟ هذا أمرٌ فائق الأهميّة، وهو قضيّة لا بدّ أن تفكّر الأمّة الإسلاميّة فيها. فالأحداث التي تقع في العالم الغربي وأوروبا ليست أحداثاً عاديّة؛ إنها تشير إلى تغييرات أساسيّة.

حسناً، يُمكن أن يكون لنا دورٌ مهمّ. نحن - الأمّة والبلدان والشعوب الإسلاميّة - يمكن أن نمتلك مكانة رفيعة في العالم الجديد الذي يتكوّن تدريجياً، ويُمكن أن نُطرَح أنموذجاً، ويُمكن أن نُطرَح روّاداً، لكن بشرط واحد. ما الشرط لهذا الأمر؟ الاتّحاد، ونبذ الفرقة، والتخلّص من شرّ وساوس العدوّ، ووساوس أمريكا، ووساوس الصهاينة، ووساوس الشركات. [التخلّص] من شرّ الوساوس من هؤلاء، ففي بعض الأحيان تُسمع هذه الوساوس من ألسن الأصدقاء. نرى في العالم الإسلاميّ بعض الأشخاص من داخل هذا العالم يكرّرون كلام أولئك نفسه ويقولون ذلك الكلام عينه. أن نتخلّص من شرّ هؤلاء عبر الاتّحاد، ونبذ التفرقة، والانسجام الداخلي. هذا هو الشرط لذلك الأمر. إذا استطعنا تحقيق هذا الشّرط، فلا شكّ في أنّنا سنكون قادرين على جعل الأمّة الإسلاميّة في مكانة رفيعة في العالم المقبل وضمن الشكل المستقبلي للجغرافيا السياسيّة للعالم.

هل هذا ممكن؟ بعض الأشخاص يبادرون في القضايا المهمّة كافّة ويكون ردّ فعلهم الأوّلي النفي والإنكار والإحباط: «يا رجل! لا يمكن هذا الأمر ولا فائدة منه». نحن لا نوافق على هذا، بل نقول إنّه ممكن. الاتفاق والوحدة بين الشعوب الإسلامية أمر ممكن لكنه يحتاج إلى العمل والفعل. قلت إننا لسنا يائسين من سياسيي الدول الإسلامية وقياداتها وحكامها، ولكن أملنا الأكبر في خواص العالم الإسلامي. أي كما قلنا: علماء الدين والمثقفين وأساتذة الجامعات والشباب أصحاب البصيرة والحكماء والأدباء والشعراء والكُتاب ومديري الصحافة... أملنا في هؤلاء. [يجب] أن يشعر هؤلاء بالاستقلال والمسؤولية والواجب. عندما يسلك الخواص طريقاً ما، يحرّكون الرأي العام في ذاك الاتجاه. وعندما يتشكل الرأي العام في بلد ما، تتحرك السياسات الإدارية للبلاد تلقائياً في ذاك الاتجاه، مجبرين على ذلك ولا مفرّ لهم. إذاً، هذا أمرٌ ممكنٌ، لكن لا يمكن أن يتم دون عمل. لا شيء في هذا العالم يمكن أن يتم دون عمل، سواء أكان إنجازاً دنيوياً أم إنجازاً أُخروياً وإلهياً. {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم، 39). يجب السعي والعمل. إذا عملنا، فهذا ممكن.

الآن سوف أذكر لكم مثالاً صغيراً. نحن الجمهورية الإسلاميّة مثالٌ صغيرٌ على ذلك، فقد وقفنا ضد القوى العظمى. ذات يوم، كان هذا العالم في أيدي قوتين عظميين: أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق. هاتان القوّتان اللتان اختلفتا في عشرات القضايا كانتا قد اتفقتا على مسألة واحدة هي معارضة الجمهورية الإسلامية. الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، رغم كل خلافاتهما، كانتا متفقتين ضد الجمهورية الإسلامية وتمتلكان الرأي نفسه. وقف الإمام [الخميني] (رض) أمامهم ولم يستسلم، وقال بوضوح: «لا شرقية، ولا غربية». لا هذا ولا ذاك. وقد وقع [ذلك]. ظنوا أنه غير ممكن، وظنوا أن في إمكانهم اقتلاع هذه الشتلة. اليوم تحولت هذه الشتلة إلى شجرة ضخمة. فليخسأ أن يفكر أي شخص في اقتلاعها. صمدنا وتقدّمنا. هناك صعوبات طبعاً. الأشياء كافة لها مشقّاتها، فلا يمكن [المضي قدماً] دون صعوبات. حتى أولئك الذين يستسلمون لديهم صعوبات أيضاً. الصعوبات ليست في الصمود فقط، فالاستسلام له مشقاته أيضاً، مع فارق أنه عندما يصمد الإنسان، تدفعه الصعوبات إلى الأمام. نحن نتحمّل الصعوبات لكننا نتقدّم، أما ذاك الذي يستسلم، فيعاني الصعوبات لكن لديه تراجع، ولا يتقدّم أيضاً. لذلك، ورغم الاختلافات كلها، ففي رأينا يُمكن العمل وبذل الجهد والتحرّك نحو الوحدة التي ينشدها الإسلام والقرآن للأمة الإسلامية.

حسناً، بعض الاختلافات قومية، وبعضها عرقية، وبعضها لغوية... هذه ليست مهمة. في رأيي، أكثر ما يجب أن نركّز عليه اليوم هو القضية المذهبية، موضوع الشيعة والسنة. يجب ألا ندع الاختلافات في العقيدة والاختلافات المذهبية أن تؤدي إلى التنازع، وينبغي ألا نسمح بذلك. هناك أشياء تسبب النزاع فيجب أن نمنعها، يجب أن نمنعها بجدية. التفتوا! الآن قد دخل السياسيون الأمريكيون والبريطانيون في محافلهم الخاصة إلى نقاش الشيعة والسنة، وهذا أمر خطير للغاية. إنّه خطير جدّاً. هؤلاء الذين هم ضد الإسلام، ولا يضمرون الخير لا للشيعة ولا للسنّة، قد دخلوا نقاش [الشيعة والسنة].

لقد قلت ذات يوم: «التشيع البريطاني والتسنن الأمريكي»[3]. ظنّ بعضهم، أي روّجوا ذلك كذباً، أننا عندما نقول التشيّع البريطاني، يعني الشيعي الذي يسكن في بريطانيا. كلا، قد يكون التشيع البريطاني موجوداً في الدول الإسلامية نفسها. [المقصود] الاستلهام من بريطانيا، أي التشيع المُفتعِل للنزاع والتسنن المُفتعِل للنزاع مثل «داعش» والوهابيين وأمثالهم ممن يفتعلون النزاعات... أو التكفيريين الذين [يقولون]: هذا كافر، وذاك كافر. هؤلاء اسمهم مسلمون، وقد يكونون متعبّدين أيضاً بالأحكام الإسلامية الفردية، لكنّهم يتحركون في خدمة العدو.

ذاك الذي يثير الخلافات هو في خدمة العدو، ولا فرق في أي مكانة أو منزلة أو بلد كان. نحن نؤمن بهذا، وإننا نؤمن به بعمق. لقد تصرفنا مع الذين كانوا يجرحون مشاعر الإخوة من أهل السنة ظناً منهم أنهم يناصرون التشيع... لقد تصرّفنا معهم بحزم. يجب أن يصير هذا حالة عامة، وأن يكون هناك إجماع. طبعاً هناك تطرف من الجانبين: في الشيعة هناك متطرفون سواء بسبب معتقداتهم أو أيّ كان، وهناك أيضاً من هم متطرفون في السنة. هناك تطرف، [لكن] ينبغي ألّا نرى تطرّف المتطرفين هذا سبباً في أن نتهم أصل المذهب. [نحن] أنفسنا تصرفنا كذلك.

رأينا أن الوهابيين قد دمروا قبور الأئمة (ع) منذ مئتي عام. ذهبوا إلى كربلاء ودمروا قبر سيد الشهداء (ع). كان الضريح خشبياً فأحرقوه. أشعلوا النار داخل المرقد وأعدّوا القهوة وشربوها! لقد حدث هذا. ذهبوا إلى النجف ولم يتمكنوا من الوصول [إلى الداخل] بسبب المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي كان لديه قوة وحشد الناس والطلبة وغيرهم، كما كان للنجف سور وسياج. لم يتمكنوا من الذهاب إلى النجف، فذهبوا إلى الكوفة، وفي مسجد الكوفة حيث هناك كثيرون ممن هم شيعة، ارتكبوا مجزرة بحقّهم وقتلوهم. لم يدفع هذا علماء الشيعة ووجهاءهم ومراجعهم إلى اتهام السنة. لا، هؤلاء الذين فعلوا ذلك كانوا متطرفين. وفي زماننا «داعش» في العراق على نحو، وفي سوريا على نحو، وحديثاً في أفغانستان على نحو... حتى أنّهم لا يرحمون مدارس الأطفال. ينسفون مدرسة البنات، أو مدرسة البنين، ويفجعون الأُسر بأبنائهم. يفعلون هذه الأشياء لكننا لا نتّهم أهل السنة إطلاقاً. هؤلاء متطرفون. يجب أن يكون هذا الطرف كذلك أيضاً. قد يكون بعضهم متطرفين لكن لا ينبغي لوم المجتمع الشيعي على [هذا] التطرف. يجب أن نبذل الجهود في هذا المجال، وأن يعمل علماء الإسلام.

نحن نتلقى الضربات بسبب هذا التشتّت، ونتعرض للضربات في فلسطين ودول مختلفة. إنّهم يقتلون الناس في فلسطين كل يوم: يقتلون الأطفال الصغار والشباب واليافعين والكبار ويقتادونهم إلى السجن. الآلاف يتعرضون للتعذيب في السجن. هذا حدث ويحدث أمام أعيننا. في ميانمار على نحو، وفي أماكن أخرى على نحو. حسناً، هذه [الأشياء] صعبة، وهي [صعبة] على الأمة الإسلامية؛ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}. إنها تؤلم النبي (ص). يجب التفكير في هذه الأمور وبذل الجهود من أجلها. يقول القرآن للنبي (ص): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران، 64). أهل الكتاب ليسوا مسلمين ولكن لدينا وجه مشترك هو التوحيد، لأن التوحيد في كل الأديان. التوحيد أساس الأديان كلها؛ {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ}. يستخدم النبي هذا الوجه المشترك بين الإسلام والأديان الأخرى، أي القرآن يأمره أن يقول: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} مع غير المسلمين. حسناً، نحن مسلمون ولدينا هذه الأمور المشتركة كافة: كعبة واحدة، وقبلة واحدة، وصلاة واحدة، وحج واحد، وعبادة واحدة، ونبي واحد، ومحبّة أهل البيت (ع) في العالم الإسلامي كله. هذه أوجه اشتراك بيننا. يجب ألا نتخطى هذه الوجوه المشتركة.

حسناً، بذلنا الجهود حتى الآن. لقد سخّرنا طاقاتنا كلها في هذا المجال حتى الآن وسنسخّرها بعد ذلك أيضاً. لقد دعمنا الإخوة الفلسطينيين الذين هم جميعاً من أهل السنة، وقدّمنا إليهم جوانب الدعم كافة سياسياً وعملياً، وسنواصل الدعم بعد هذا. لا فرق عندنا، فما يهمنا هنا هو الحركة الإسلامية والنظام [الإسلامي]. جبهة المقاومة هذه التي تشكلت اليوم في العالم الإسلامي - بحمد الله - هذه الجبهة محطّ دعمنا، ونحن ندعمها بقدر ما نستطيع. سوف ندعمها بكلّ ما أوتينا من قوّة. إننا نفعل ذلك [حالياً]، وقد فعلناه من قبل.

نرجو أن يهدينا الله المتعالي جميعاً، إن شاء الله، وأن نكون قادرين - إن شاء الله - على المضي قدماً في هذا الطريق، وعلى تحقيق هذه الأمنية العظيمة، التي كانت أمنية لزبدة العالم الإسلامي، وهي حتماً أمنية الروح المطهّرة لرسول الإسلام المكرّم (ص)، أي الوحدة الإسلامية.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المولد النبوي الشريف

إقرأ المزيد في: خطاب القائد