روسيا vs أميركا
معركة الاستخبارات بين روسيا والغرب: من سينتصر فيها؟
عمر معربوني | باحث في الشؤون العسكرية والسياسية
مواضيع العرض: العمليات التخريبية في روسيا والأراضي المحرّرة ـ اغتيال داريا دوغين.
مع بداية تحشيد روسيا لوحداتها على الحدود مع أوكرانيا وإجرائها لمناورات واسعة ومن ثمّ إعادة تجميع القوات قبل بدء العملية، حرص الرئيس الأميركي ومعه كبار المسؤولين في البنتاغون على تأكيد المعلومات المرتبطة بنيّة موسكو تنفيذ عمليتها، وكان الهدف الرئيسي من ذلك هو حرمان موسكو من عنصر المفاجأة الذي امتلكته في جورجيا عام 2008 وفي القرم عام 2014.
كان للاستخبارات الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص بصمة واضحة في تفعيل جهوزية الجيش الأوكراني وأجهزة الاستخبارات الأوكرانية المتنوعة المهام، وتمّ إعطاء قسم العمليات الخاصة أولوية كبيرة وهو القسم الذي حصل أغلب الضباط فيه على دورات خاصة في دول الغرب المختلفة، علماً بأنه من المعلوم مدى خبرة وكفاءة هذا القسم في تنفيذ العمليات التخريبية داخل أوكرانيا وخارجها، فهناك العديد من العمليات التي نفذها القسم في إقليم الدونباس وأخطرها اغتيال رئيس جمهورية دونيتسك الكسندر زاخارتشينكو سنة 2018 في تفجير مقهى بمدينة دونيتسك.
وفي كانون الثاني/ يناير 2022 نُقِل عن 5 من مسؤولي الاستخبارات والأمن القومي السابقين في الولايات المتحدة، أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" تشرف على برنامج تدريب أميركي سري لنخبة من القوات الخاصة الأوكرانية، وأفراد استخبارات آخرين.
وقال المسؤولون إن البرنامج التدريبي المكثّف، والذي ترعاه وكالة الاستخبارات المركزية للقوات شبه العسكرية الأوكرانية، في منشأة لم يُكشَف عنها في جنوبي الولايات المتحدة، يجري منذ عام 2015، ويتضمن البرنامج "تدريباً محدَّداً للغاية على المهارات"، من شأنه أن يعزز "قدرة أوكرانيا على صدّ الروس".
مسؤول سابق آخر في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مُطّلع على البرنامج، قال إن "الولايات المتحدة تدرّب على التمرد"، وعلّمت الأوكرانيين كيفية "قتل الروس".
ليس سرّاً أن الولايات المتحدة وبريطانيا أرسلتا خبراء في الحرب الإلكترونية إلى أوكرانيا، ونفّذتا برامج تعليم لضباط اوكرانيين على العمل في ظروف تلقي معلومات من شبكة الأقمار الصناعية الأميركية والغربية.
وكمثال على ما تقدّم من ضمن عشرات الأمثلة قيام الضابط الأميركي السابق "آندي ميلبورن" والذي كان نائبا لقائد قوات العمليات الخاصة الأميركية في الشرق الأوسط بتشكيل مجموعة مقاتلين تحت اسم "موزارت غروب" اجتذبت العديد من الكوماندوز البريطانيين والأميركيين السابقين لإنشاء فريق من قدامى المحاربين، لتدريب الجنود الأوكرانيين وتزويدهم بالمعدات.
يقول "ميلبورن" إن لديه ما بين 10 إلى 15 مدربًا تحت الخدمة في أي وقت، وإن جميعهم استجابوا له عن طريق اتصالاته في الجيشين البريطاني والأميركي، ووصفهم بأنهم "كلهم متطوعون".
"ملبورن" هذا يأمل أن يلحق الكثير من الألم بالروس نتيجة تدريبه للجنود الأوكرانيين.
كثيرة هي الأمثلة على المشاركة الحثيثة للولايات المتحدة الأميركية في المواجهة الدائرة على أراضي أوكرانيا ما يُثبت ان الحرب على ارض أوكرانيا ما هي الاّ ساحة من ساحات المواجهة بين روسيا والغرب والتي تبدو فيها المعركة الاستخباراتية قاسية ومكلفة خصوصاً ان الأميركيين بشكل خاص لهم تاريخ حافل في عمليات التخريب والاغتيال وهو نمط أساسي في المدرسة الاستخباراتية الأميركية والغربية.
1ـ العمليات التخريبية في روسيا والأراضي المحرّرة
منذ الأيام الأولى للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا استطاعت أجهزة الأمن الروسية المختلفة اكتشاف الكثير من الخلايا الإرهابية والتخريبية سواء كانت خلايا لأوكرانيين أو لإرهابيين من جماعات "إسلامية" افضت التحقيقات الى اكتشاف تعاون بينها وبين الاستخبارات الأوكرانية والاستخبارات الأميركية والبريطانية، ويمكن التأكيد ان نسبة العمليات التخريبية الناجحة عبر عملاء كانت متدنية في نتائجها، حيث لا تزال القوات الأوكرانية تعتمد على الطائرات المسيّرة بشكل أساسي في استهداف منشآت عسكرية واقتصادية روسية لا تزال محصورة في شبه جزيرة القرم وفي مناطق روسية ملاصقة للحدود بين روسيا وأوكرانيا.
حتى اللحظة لا يمكن وصف العمليات التخريبية الأوكرانية في مناطق السيطرة الروسية بأكثر من عمليات صغيرة لم تؤثر على البعدين الأساسيين للمواجهة وهما تراجع العملية الروسية والتأثير في معنويات سكان القرم والمناطق المحرّرة.
في نهاية شهر حزيران/ يونيو الفائت قال رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية "كيريل بودانوف"، إن على روسيا الاستعداد لهجمات وعمليات تخريب داخل أراضيها.
وأشار إلى اغتيال مسؤول محلي في منطقة خيرسون كمثال على هذه الهجمات التي تعاملت معها سلطات المدينة على أنها عمل إرهابي.
وقال بودانوف علناً، إن "الأنشطة الأوكرانية الاستخباراتية بدأت في الظهور داخل الأراضي التي احتلتها روسيا منذ بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا أواخر شباط /فبراير"، مشيرًا إلى انفجارين في منطقة خيرسون المتاخمة لشبه جزيرة القرم.
وفي أوقات سابقة تعرضت مجموعة من المنشآت الروسية في القرم بشكل أساسي بينها قاعدة عسكرية ومطار عسكري ومنصة نفط للهجوم.
وان كانت أوكرانيا تستند الى إجماع دولي بأن شبه جزيرة القرم والمناطق التي تسيطر عليها روسيا والدونباس وجنوب أوكرانيا لا تزال اراضيَ اوكرانية، إلا أنّ عملية اغتيال داريا دوغينا هي كسر للخطوط الحمر وتفتح المواجهة على احتمالات كبيرة.
2ـ اغتيال داريا دوغين
"إنها ليست حرباً ضد أوكرانيا، بل هي حرب ضد العولمة، ضد برنار ـ هنري ليفي، ضد جورج سوروس، ضد جو بايدن، ضد النزعة الأطلسية" - هذا ما قاله المفكر والفيلسوف الروسي الكسندر دوغين في الـ 29 من آذار/ مارس الفائت وهو باعتقادي سبب مهّم يمكن ان يستفز دعاة "الروسوفوبيا" في الغرب وفي أوكرانيا.
منذ أيام قليلة تمّ اغتيال ابنة الفيلسوف والمفكر الروسي داريا دوغين في العاصمة الروسية بعملية احترافية نفّذتها الأوكرانية ناتاليا شابان فوفك وهي عضو في الحرس الوطني الأوكراني وكتيبة "آزوف" النازية.
وبحسب ما أورده جهاز الأمن الفيدرالي الروسي فإن ناتاليا فوفك دخلت روسيا في 23 تموز/ يوليو الفائت، مع ابنتها صوفيا شابان البالغة من العمر 12 عاما والتي استخدمتها كغطاء لعملية مراقبة داريا.
ووفقا للمعلومات التي كشفها جهاز الأمن الفدرالي الروسي، استخدم منفذو العملية، لدى مراقبتهم وتتبعهم للضحية، سيارة من طراز "ميني كوبر" بلوحة لجمهورية دونيتسك عند دخولهم روسيا، وفي موسكو استخدموا لوحة كازاخستانية، وعند المغادرة استخدموا لوحة أوكرانية.
بالإضافة الى ما تقدّم استطاعت منفّذة العمليات أن تستأجر شقة في نفس المبنى الذي تسكنه داريا ومكثت فيها قرابة شهر ما يعني ان التخطيط كان محكماً ولا يمكن بأي شكل من الأشكال ان يكون على عاتق ناتاليا فوفك وحدها على الرغم من استخدامها غطاء جيداً لحركتها وهو اصطحاب ابنتها معها ما يقلل من اثارة الشبهات، وهو ما يعني وجود شبكة أمّنت المراقبة اللصيقة والمستدامة لداريا ووالدها المفكر الكسندر دوغين ناهيك عن تأمين 400 غرام من المواد المتفجرة واعدادها ووضعها أسفل السيارة وتأمين جهاز التفجير، الى ما تتطلبه عمليات كهذه من خبرات واسعة.
وبمعزل عن المستهدف سواء كان داريا أو والدها وهو ما سيكشفه التوسع في التحقيق فإن الأمر الأساسي الآن يتركز على المستفيد من اغتيال داريا واذا ما كان المستهدف هي أو والدها فيلسوف الدعوة الى تشكيل اوراسيا وهو المشروع النقيض والمناهض لمشروع استمرار الهيمنة الغربية على العالم، وهو ما يجيب من دون أي صعوبة ومن دون حاجة الى التحليل ويؤشر الى الجهات المستفيدة من عملية الاغتيال لداريا وهم:
1ـ الولايات المتحدة الأميركية والغرب كون الكسندر دوغين استطاع التأثير كثيراً في توجهات القيادة الروسية وخصوصاً الرئيس بوتين الذي بات ينطق مؤخراً عبارات ومصطلحات واضحة بما يرتبط بتوصيف اميركا وقوله ان المعركة في أوكرانيا هي للحد من الهيمنة الأميركية.
2ـ الحركة الصهيونية سواء بالمشاركة المباشرة أو بتقديم المساعدة لمنفذة العملية، خصوصاً ان الحركة الصهيونية أظهرت الكثير من العداء للموقف الروسي لا سيما ان القيادة الروسية أصدرت قراراً بوقف اعمال الوكالة اليهودية "سخنوت" في روسيا وهو سبب كافٍ لتحريك عملائها وتجنيد امكانياتها.
3ـ القيادة الأوكرانية وهي الشريك الأساسي في عملية الاغتيال لجهة ارسال ناتاليا شابان فوفك الى موسكو لتنفيذ العملية. هذه الجهات الثلاث يمكن اعتبارها مستفيدة بدرجة عالية حتى لو لم تستطع النيل من الكسندر دوغين انطلاقاً من فرضية انه هو المستهدف وان ابنته داريا قضت خطأ.
وفي كل الأحوال من المؤكد أن اغتيال داريا هو رسالة واضحة لألكسندر دوغين وللقيادة الروسية بأن التراجع عن المواقف الحالية هو المطلوب، والاّ فإنَ مزيداً من العمليات بانتظار روسيا، وهو ما لن يلقى أي انصات في موسكو لمضمون الرسالة، وسيؤدي الى مزيد من العمل على تحصين الوضع الأمني والإكمال بالعملية العسكرية بالوتيرة التي تتناسب مع مضمون الخطة الروسية، وليس بحسب ما تريده الجهات الثلاث المستفيدة من الاغتيال، والتي يمكن اعتبار احد أهدافها هو دفع القيادة الروسية الى تصرفات غاضبة وإجراءات انتقامية متسرعة وغير متناسبة مع ما هو مخطط له.
من سينتصر في الحرب الاستخباراتية؟
هو سؤال من الصعب الإجابة عنه بشكل سريع ويحتاج الى متابعة مسار المواجهة ونتائجها التي تميل لمصلحة موسكو حتى اللحظة على الرغم من ان المواجهة هي شديدة التعقيد تواجه فيها اميركا والغرب روسيا بامكانيات هائلة وعقوبات غير مسبوقة تحتاج روسيا لتجاوزها الى المزيد من الإجراءات لتحصين الجبهة الداخلية في الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية.
إقرأ المزيد في: روسيا vs أميركا
23/09/2023