روسيا vs أميركا
قصة تمرد "فاغنر" ورئيسها وإحباطه من الألف إلى الياء
يوسف الشيخ
لولا العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا لبقيت الخلافات التي انفجرت في 23 و24 حزيران/ يونيو 2023 تمرداً مسلحاً، تحت السقف العسكري الروسي، بين قادة الجيش الروسي وعلى رأسهم وزير الدفاع سيرجي شويغو والجنرال فاليري جراسيموف رئيس هيئة الاركان المشتركة الروسية وبين صاحب شركة "فاغنر" يفغيني بريغوجين وشريكه المؤسس دميتري أوتكين القائد العسكري الفعلي للمنظمة، المقدم السابق في القوات الخاصة الروسية، ومساعده العقيد قسطنطين بيكالوف.
فالاستراتيجية العسكرية التي اتبعتها وزارة الدفاع الروسية في عمليتها الخاصة، قضت بالاستعانة في المرحلة ما بعد الافتتاحية بقوات خاصة خفيفة الحركة تمارس الحرب الهجينة في اوكرانيا، ولولا ذلك لما كان هناك حاجة للاستعانة بقوات "فاغنر" في اوكرانيا.
منذ أيلول/ سبتمبر الماضي بدأت قرقعة الخلاف تعلو من الطرفين مع أرجحية صوت بريغوجين لامتلاكه امبراطورية إعلامية كبيرة تروج له ولأفكاره.
أصل الخلاف هو نزاع حول فكرة كيف سيكون الجيش الروسي في المستقبل، وهل سيبقى على حاله أم سيتم ترشيقه، وذلك عبر تحويله إلى جيش ذكي أقل عدداً يمكنه ممارسة نظرية "الحرب الهجينة" بسلاسة وبسرعة، وفي هذا كان يطمع بريغوجين بأخذ عقود أكثر وتثبيت شركته إلى فترة طويلة.
بداية، إن فكرة منظمة "فاغنر" العسكرية لم يكن لها لتبصر النور لولا قيام الجنرال جيراسيموف باقتراح عقيدته المسماة باسمه، والتي تتمحور على فكرة "الحروب الهجينة" أو "المختلطة"، والتي تجمع القوى الناعمة مع الخشنة وبين القوات النظامية والقوات شبه النظامية المدربة تدريباً جيداً.
كانت منظمة "فاغنر" في ذلك الحين قوة عسكرية شبه نظامية، أسسها المقدم في قوات السبتناز (القوات الخاصة الروسية) ديمتري أوتكين، جمع فيها مئات من جنود النخبة الروسية الذين تركوا الخدمة أو احيلوا إلى التقاعد.
وكان الهدف من تأسيس منظمة "فاغنر" (قومي وتجاري)، قومي لأنه لا يسمح لموارد القوات العسكرية التي تترك المؤسسة بالخروج إلى خارج روسيا لعرض الخدمات على شركات خاصة خارجية جلها غربية، ويبقي عليها ضمن تشكيل يمكن أن يستعين به الجيش في اي لحظة، وتجاري وهو بيع الخدمات العسكرية والاستشارية لهذه المنظمة إلى الدول والشركات الكبرى.
كانت التجربة الأولى للمنظمة في اوكرانيا (القرم ــ الدونباس)، حيث استطاعت المنظمة تأهيل واستقطاب وتجنيد 35 الفاً من أبناء الدونباس، شكلت منهم جيشاً صغيراً غير نظامي، استطاع تقديم المساعدة المؤثرة للجيش الروسي في احكام القبضة على شبه جزيرة القرم واجزاء كبيرة من اقليم الدونباس المتنازع عليه مع أوكرانيا عام 2014 بعد إجراء الاستفتاء الشهير.
نجحت تجربة "فاغنر" الاوكرانية وكانت مشجعة، ما رفع مستوى الاهتمام بها في موسكو، وخاصة في دائرة المليارديرات المحيطة بالرئيس فلاديميير بوتين، ومن ضمنها بريغوجين، الذي رأى أن المنظمة تمثل له استثماراً كبيراً يمكنه من تجاوز الحدود الروسية إلى مناطق بعيدة في قارات أفريقيا وآسيا وامريكا، ويعطيه نفوذاً قوياً في الكرملين ضمن المطبخ السياسي والأمني والعسكري.
اشترى بريغوجين "الشركة" ظاناً أنه بقربه من بوتين يمكن أن تكون شركته الجديدة، ذراع الرئاسة الذي تفتقده لتنفيذ العمليات السرية بدون بصمة.
إلا أن شراء منظمة "فاغنر" وتوسيعها أفقدها زخمها وفعاليتها بعد العام 2015، لأنها كانت تحتاج إلى تنظيم وتأهيل أكبر وفق الزيادة العددية التي ارتفعت من 800 مقاتل إلى 5000 مقاتل، ما أثر على أداءها بشكل كبير، فلم تكن المنظمة عام 2015 بمستوى أدائها في الدونباس.
فعبر أربع محاولات تدخل:
1ـ في سوريا 2016-2017 خلال معركتي تدمر كان أداء المنظمة دون المتوسط.
2ـ في ليبيا 2018 تكبدت خسائر كبيرة من الحلف التركي الامريكي.
3ـ في فنزويلا عام 2019 لم تؤد الواجب وانسحبت بموجب قرار روسي بعد 4 اشهر من انتشارها.
4ـ في العملية الروسية الخاصة في اوكرانيا عاد صيت "فاغنر" ليعلو مع بداية عام 2022، حيث ثار لغط حول تدخلها في تحرير مدينة "سوليدار"، حيث تفاخر يفغيني بريغوجين بما يقول إن مجموعته قد حققته من "انتصار" مزعوم في بلدة سوليدار بمنطقة دونباس شرقي أوكرانيا. فيما سارعت قيادة الأركان إلى الإعلان بأن المظليين ساهموا بشكل كبير في القتال.
كان هذا هو الاشتباك التقني والشخصي الأول بين وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو وقائد الحملة الروسية في أوكرانيا سيرجي سوروفيكين الملقب بـ "الجنرال هرمجدون" من جهة، وبين رئيس منظمة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، وتعاظم هذا الاشتباك إلى حرب تصريحات مع تكليف قوات "فاغنر" بالعمل في جزء من مدينة "باخموت" إلى جانب قوات الشرطة العسكرية الروسية والقوات المظلية.
حدث تحول كبير في لغة وخطاب بريغوجين خلال معركة "باخموت" بسبب العداء الشخصي الذي ظهر بينه وبين شويغو وقائد العملية الروسية في اوكرانيا سوروفيكين، وبدأ بريغوجين يطلق التصريحات تلو الأخرى التي تعكس تعاليه على الجيش الروسي، وعلى الجنرالات الذين اتهمهم بأنه سبب نكبة روسيا في اوكرانيا.
في شباط/ فبراير الماضي وبعد احالة سروفكين على التقاعد، تم تكليف غيراسيموف برئاسة هيئة الأركان المشتركة الروسية وبقيادة العملية في اوكرانيا. ونتيجة لاحترام غيراسيموف للاصول العسكرية وقف خلف رئيسه شويغو مما جعل صديقه القديم بريغوجين يحول النقد إليه. ولم يتم الرد عليه بسبب ظروف المعركة ومعنويات القوات المسلحة المنخرطة فيها.
انتهت معركة "باخموت"، فتم انهاء عقد "فاغنر" وأدخل غيراسيموف الخبير بالحرب الهجينة قوات أشرف هو على تدريب قادتها عندما كان قائداً لمعهد التدريب العسكري، كما أشرف على بنائها لتلبي شروط القتال حسب "عقيدته القتالية".
عند هذا الحد فتح بريغوجين النار على جميع الجنرالات، وبدأ بخطاب تحريضي ضد الجيش وسمعته، وهو ما اعتبره بوتين نفسه خروجاً عن الخط المرسوم، فوجه في احتفال النصر تحذيرات مبطنة للذين يتآمرون على الجيش، والذين يفكرون بشطر الامة الروسية. وكان بوتين قد قطع كل علاقة مباشرة مع بريغوجين بسبب تصرفاته خلال الحرب الاوكرانية، حتى أنه اعترض على ادخال وحدة رمزية من "فاغنر" في عرض يوم النصر.
نتيجة لاستبعاده الذي يبدو أنه كان تأديباً من بوتين، تحول بريغوجين من الكلام إلى الفعل، وثمة معلومات أن موفداً من إحدى الدول الخليجية تتمتع بعلاقة قوية بالكيان المؤقت اتصل به، وعرض دعمه في أي مشروع يخطط له لتثبيت نفسه كفاعل في روسيا، ووعد بتأمين دعم من اللوبي اليهودي في روسيا (من خلال الكيان المؤقت) لأي تحرك يقوم به شرط أن يكون جدياً باتجاه موسكو.
كانت الدائرة المحيطة ببريغوجين "ملغمة" بمن ينقل إلى موسكو أدق تفاصيل الرجل المتمرد، ونقلت هذه المعلومات على ما يبدو على وجه السرعة إلى موسكو التي اتخذت تدابير علنية وسرية تجهض أي تحرك للحليفين بريغوجين واللوبي اليهودي القوي في الادارة الروسية، لذا تصرفت القيادة الروسية بهدوء تجاه تحرك "فاغنر" المتوقع وأجهضته بأقل من 12 ساعة.
الملفت في هذا المجال أن اللوبي اليهودي لم يتحرك فتركت "فاغنر" وبيريغوجين لوحدهما ليلتهمهما شويغو وغيراسيموف في ساعات معدودة.
اللافت في هذا المجال أيضاً التصرف الأبوي للرئيس بوتين، والذي قدم تسهيلات كبيرة لمن يترك جبهة "فاغنر" وينتمي إلى جبهة الدولة أو يحيد وينسحب من المعركة.
وأدى هذا التصرف من بوتين إلى شق جماعة "فاغنر" وأتبع ذلك ترتيب مع رئيس بيلاروسيا ــ قد يكون مقترحاً من بوتين نفسه ــ بإيجاد مخرج لبريغوجين لقاء إنهائه التمرد. وذلك يعكس موقفاً يرسل إلى جميع من يقاتل في أوكرانيا من الروس أن الاتحاد الروسي يحترم قتالكم وتضحياتكم، وحتى إن أخطأتم فإن تضحياتكم تشفع لكم، وظهر بوتين من خلال إدارته لأزمة التمرد "الفاغنري" ضده أنه رجل دولة بامتياز حيث أكد على حرصه على سلامة ووحدة الاراضي الروسية بنفس حرصه على عدم اشعال الاتحاد الروسي بحرب اهلية، وأكد على هدوئه في التصرف مع المتمردين مما سرع بانهيار التمرد.
اوكرانياباخموتمجموعة فاغنرسوليدار
إقرأ المزيد في: روسيا vs أميركا
23/09/2023