معركة أولي البأس

طوفان الأقصى

عن العدو وروايته.. الخديعة
10/11/2023

عن العدو وروايته.. الخديعة

أحمد فؤاد

لأنّ السقوط في فخ رواية العدو هزيمة أولية، ولأنّ معاينة الواقع بعيون صهيونية هزيمة ثانية وثالثة، يوجب شلال الدم الفلسطيني المتدفق على الإنسان الحرّ والشريف أن يعيد تعريف كل شيء ليليق بالحوادث الجلل وخطورة الظرف الحالي. فقد آن للإنسان العربي أن يتبنّى صورة جديدة مغايرة ليعي نفسه والعدو والقضية.

ولأن الوعي هو أول شروط الخلاص، فمن المثير للغضب –وربما القهر- أن نسير قطيعًا أعمى وراء رواية صهيونية تعيد وسائل الإعلام الصهيو- عربية ترديدها بغير انقطاع عن "خسائر الكيان" من معركة "طوفان الأقصى"، وهي رؤية قاصرة ومبتسرة، تحوّل أخلاقية القضية الفلسطينية إلى مجرد أرقام، مهما بلغت أو وضع جوارها الأصفار، هي مجرد أرقام. وقضية فلسطين ليست ولن تكون أرقامًا، بل هي بأبسط الكلمات وأعمقها، وعلى لسان سيد المقاومة سماحة الأمين السيد حسن نصر الله: "هي معركة كاملة الشرعية، أخلاقية وإنسانية ودينية".

ولأنّ ما حققته المقاومة كان مذهلًا، من حيث القدرة أو الصمود أو تأثيرها ووجودها الذي اتسع، ويتسع كل يوم، ولأنّ حركات المقاومة في غزة بالذات استطاعت بعد شهر وأيام من بداية العدوان الوحشي الصهيوني المدمر على القطاع المحاصر أن تطلق صواريخها المباركة إلى "تل أبيب" وما بعدها وما قبلها، ولأنّ جبهات أخرى فُتحت، وجبهات أخرى يُنتظر منها الكثير، فإنّ لنا أن نضع خطًا واضحًا قاطعًا وحازمًا يقول باطمئنان إنّ يوم السابع من تشرين الأول 2023، لن يكون ما بعده كما ما قبله.

التقارير العربية المنقولة، نصًا وروحًا، من العدو الصهيوني، تجمع على أن خسائر الكيان "الاقتصادية" من معركة "طوفان الأقصى" تدور حول عشرات المليارات من الدولارات، وهي –تضامنًا وتأييدًا للعدو- تظهر أنها تتوقف فقط عند حدود "خسائر متوقعة". وهي تاليًا توحي للمتابع الذي يعلم يقينًا أن الخزائن الأميركية مستعدة، وأكثر من جاهزة، للتعويض والدفع والتحويل، وستقوم بتحمّل كل هذه الخسائر في لحظة. وهو أمر متكرر ومعروف، وآخر اتفاق اقتصادي كبير بين واشنطن و"تل أبيب" يعود إلى 2019، حين أعلنت أميركا عن برنامج لتوفير استثمارات ومنح بقيمة 360 مليار دولار، موزعة على 10 سنوات.

عبد الهادي: الخسائر "الحقيقية"

يقول الباحث الاقتصادي، د. مجدي عبد الهادي: "لأول مرة من سنوات يستطيع الإنسان أن يتفائل، كيان العدو مهما كسب، هو خاسر إستراتيجيًا، لأول مرة الكيان يضع كامل السردية التي بناها طوال 75 سنة لشرعنة وجوده على المحك، علاوة على أنها تُضعف كامل المعسكر الصهـيوني العربي الداعم لها، وتوحّد بقية العرب والمسلمين ضدها، بل إن استمرار أميركا في دعمها سيكون بداية نهاية كامل النظام العالمي الذي تشرعن به –أي أميركا- هيمنتها".

يضيف الباحث الاقتصادي، في تصريحات خاصة لموقع "العهد" الإخباري، أنه بغض النظر عن الآثار المباشرة للحرب من خسائر مادية وتكاليف عسكرية وما شابه، والتي وصلت بعض تقديراتها لنحو 50 مليار دولار أو ما يعادل 10% من الناتج الإجمالي السنوي للكيان، حال استمرار الحرب لأقل من عام واحد، كذا ما يبدو من ركود على الأبواب وتراجع في معدلات النمو المتوقعة في العامين القادمين؛ بسبب حال عدم الاستقرار وتوجيه الموارد المادية والبشرية للجهد الحربي.. فالواقع أن الآثار النوعية، متوسطة وطويلة الأجل، هى الأخطر والأجدر بالاهتمام.

يوضح عبد الهادي: أولاً ستدفع حال عدم الاستقرار، بحال استمرار الحرب، لضعف الاستثمار وهروب رؤوس الأموال والكفاءات البشرية؛ ومن ثم ضعف معدلات النمو والإنتاجية، وعلى الأقل تأجيل المشروعات الاقتصادية الإقليمية الجديدة التي كانت تستهدف منها تعزيز تطبيعها السياسي في المنطقة ومركزة نفسها ضمن الطريق الغربي البديل -بحسب الدعاوى المعلنة- للطريق الصيني.

وثانيًا ستتراجع التعاملات التجارية الخارجية للكيان مع كثير من دول العالم؛ سواء لضعف إمكانات الإنتاج المدني لديه أم لاتساع موجة من العقوبات الطوعية عليه بسبب جرائمه في فلسطين؛ بما لذلك من خسائر معتدة على اقتصاد دولة صغيرة سكانيًا، وخسائر في توفير بعض حاجات صناعاته المحلية بما ينعكس سلبًا على صادراته وميزانه التجاري كذلك.

ويضيف: ثالثًا، سيؤدي ضعف الاقتصاد الصهيوني لزيادة أعباء دعمه على حلفائه الغربيين؛ ما سيزيد من التساؤلات بخصوص ذلك الدعم، خصوصًا في ظل تراجع الدعم المعنوي لحكومة الكيان بعد مجازرها في غزة واتساع نطاق انتشار الحقائق بشأن واقع الصراع في فلسطين والمنطقة.

السعيد: المكسب الواضح

يقول السياسي والكاتب د. مصطفى السعيد، في تصريحات خاصة لـ "العهد": "سيمتد تأثير معركة "طوفان الأقصى" إلى آفاق أوسع بكثير من حروب أخرى مرت علينا. فهي الحرب الوحيدة التي شاهدنا فيها على الهواء ارتكاب المجازر، وضحاياها من الأطفال، وشاهدنا من يسوّغون ارتكابها ممن ادعوا أنهم المدافعون عن حقوق الإنسان والقيم الغربية، وأدركت شعوبنا وباقي شعوب العالم كيف يجري تزييف الحقائق، حيث تساقطت الأقنعة، وظهر من يضحي ويدافع حقا عن الكرامة. وعرفوا من يكذب، وزاد الوعي بصورة كبيرة في العمق والسرعة، بفضل البث المباشر لحقيقة ما يجري، وظهر التباين بين أصحاب المصالح في الاحتلال والاستغلال، وبين من يبذلون حياتهم من أجل القضية المركزية، وتكشفت عنصرية الغرب أمام الجميع، وبشكل فاضح لا يمكن معالجته، فانهارت سمعة القيم الغربية الزائفة.

وأضاف السعيد: "أدركت الشعوب قيمة التضامن، وأنه يمكن للمستضعفين أن ينتصروا رغم الفارق الهائل في القدرات التسليحية والمالية والتكنولوجية، وأنهم بالإرادة والمعرفة يمكنهم إنتاج السلاح البسيط القادر على مقارعة الأسلحة المتطورة. أدركوا أن القدرة على التضحية سلاح يحتكره المستضعفون، ولا يمكن للمحتلين أن يمتلكوه.

وعن بناء "وعي جديد" - يشير السعيد- إلى أنه: "قد نجحت حملة مقاطعة السلع الأمريكية والغربية في مصر، مع أن تأثيرها لا يبدو كبيرا، لكنها علّمت الأطفال من هو العدو وأهمية سلاح المقاطعة، والإعتماد على النفس، وأن ثقافتنا غير ثقافتهم، وقيمنا غير قيمهم، وأن المحتلين يمكن الاستغناء عنهم".

بناءٌ من وهم..

تقارير العدو، وما تبثه المؤسسات الرسمية فيه من أرقام، يجب أولًا قبل سردها، توضيح حقيقة أن التقارير الصادرة من البنك المركزي ووزارة المالية للعدو، قد وضعاها بناء على فرضيات قد تجاوزها الواقع أو حطم إمكاناتها تمامًا. وهي: انتهاء الحرب الحالية في غزة "طوفان الأقصى" قريبًا، وفك حال التعبئة بسرعة، وعودة المجندين (350 ألف جندي احتياط في جيش الاحتلال أو 8% من القوة العاملة) إلى أعمالهم، وإعادة النازحين إلى المدن والمستوطنات، ووضع عجلات الاقتصاد على قضبان الحركة، وأخيرًا –والأهم- ضمان عدم فتح جبهات أخرى خلال المرحلة الحالية.

وزارة المالية في الكيان كشفت، في أرقامها الأولية، أن الخسائر التقديرية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر السابق، تبلغ ما يصل إلى 200 مليار شيكل (51 مليار دولار)، وأكدت البيانات الصادرة عنها أن هذه التقديرات تغطي فقط جولة القتال الحالية مع غزة فقط، من دون مشاركة أي طرف آخر، "حزب الله" أو إيران أو اليمن، وهو ما يضيف لتصورات الخسائر أبعادًا أخرى وأعمق للمتابع الذكي.

وتضيف دراسة استقصائية للشركات في الكيان ضوءًا جديدًا على الوضع غير المسبوق للاحتلال، أعدها "مكتب الإحصاء المركزي" للعدو، أن واحدة من كل ثلاث شركات أوقفت أعمالها تمامًا أو تعمل بطاقة في حدود 20% من الوقت المناظر من العام الماضي. هذا بالإضافة إلى أن نصف الشركات في الكيان قد أبلغت عن تراجع في الإيرادات بنسبة 50% أو أكثر، بينما تزداد الأمور سوءًا في المناطق الشمالية، بتأثير الذعر من تدخل لـ "حزب الله" وتهجير المستوطنين، ومناطق غلاف غزة، حيث أغلقت ثلثا (2/3) الشركات والمصانع أبوابها تمامًا.

من جانبه، بدأ البنك المركزي للعدو تدخله لمحاولة "ضبط الأسواق" فور انطلاق عملية "بركان الأقصى" المباركة، حيث اضطر لأول مرة على الإطلاق لبيع النقد الأجنبي من الاحتياطيات الأجنبية مباشرة، لمنع تدهور سعر العملة أو انزلاق الاقتصاد إلى الهاوية، وتراجعت الاحتياطيات المسجلة منذ أكتوبر/ تشرين إلى 191.23 مليار دولار، تراجعًا من 198.55 مليار دولار في أيلول/ سبتمبر الماضي.

نقاط المقتل

الأمة العربية تحتاج، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى صياغة روايتها الخاصة لأحداثها، إلى نور يضيء عتمة الهزيمة ويبدد ظلام اليأس وآلامه، وإلى أن يفتح عيونه على العدو، وعلى من وراء العدو، وأن يتوقف عن استعارة النظارة الصهيو-أميركية للرؤية. وبالرغم من ما يلفّ المشهد كله من دموع وصرخات، يجب أن تكون اللحظة الحالية لحظة كشف للحقائق، ونزعًا لستائر العجز وهتكًا للضباب الذي يقف بيننا وبين معرفة من هو العدو الحقيقي لنا.

الولايات المتحدة، أو أم الخبائث، جاءت إلى الشرق الأوسط بقضها وقضيضها فور شعورها أن الكيان قد تعرض لضربة قد لا يفيق منها أبدًا، حاملات طائرات وأساطيل وطائرات وقواعد وقوات كلها قد تأهبت لإسناد الكيان ودعمه وحمايته، سواء مباشرة في غزة والبحر الأحمر، أو عبر رسائل التهديد والوعيد كما يحدث في حال "حزب الله" أو إيران، فالهدف الأميركي الثابت هو: منع هزيمة الكيان، ومحاولة منعنا من النصر وبأي ثمن.

أخيرًا..

إن ما يجرى في المنطقة العربية، خلال هذه الأيام الساخن،ة ليس صدامًا جديدًا، وقع من دون تخطيط مسبق، ولا هو تطور طبيعي لما كان قبله، ما نشهده هو أقرب إلى وصف المستقبل عند مرحلة الخلق الأولى، زمن جديد بالكامل أطل علينا وأظلنا، وضعنا نحن للمرة الأولى مبتدأ جملته، وقرر محور المقاومة فرض معادلاته على العدو الذي لا يجد في مواجهة واسعة من هذا النوع إلا تعجيلًا بالهلاك. فلاذ بالملجأ الأخير: المجازر بحق المدنيين والأطفال، وأكثر من هذا، يعجز حتى عن الرد الذي يقنع به نفسه وترضى به قطعان مستوطنيه، والأجمل أنه يجد نفسه محشورًا في ركن زاوية معرّض للمزيد من الضربات القاتلة.

ما قامت به المقاومة هي أنها كسرت هذه الصورة التي أُريد لها أن تكون النموذج الأميركي للعالم العربي، بكل بهاء وقدرة، وتمطرتنا الأخبار الواردة من فلسطين العربية بشريط طويل مبهج من صور حطام المنازل ولهيب الحرائق المندلعة في الشمال والجنوب، وتروي ظمأ قلوبنا وأرواحنا بوجوه الصهاينة وقد صبغها الخوف والرعب والإذلال، وفي الخلفية ألحان موسيقية سماوية خلابة من مزيج أصوات صفارات الإنذار ودوي سيارات الإسعاف الزاعق.

إن معركة "طوفان الأقصى" تتجاوز تعريف أي حرب أو معركة عسكرية غيرها، إنها النقطة الفاصلة بين عصر وعصر، وأطرافها حق كامل أو باطل كامل، حقد أو نور، ليس فيها أنصاف مواقف، ولن يكون لها أنصاف حلول، وهي قبل كل شيء لا تقبل بنهايات "مفتوحة"، هي ستكون وعد الله الصادق ونصره الأكيد.

إقرأ المزيد في: طوفان الأقصى