طوفان الأقصى

قضايا وكتب

قراءة في كتاب:  الشرخ - من مار مارون إلى الفراغ (1 / 2 )
11/07/2024

قراءة في كتاب: الشرخ - من مار مارون إلى الفراغ (1 / 2 )

المؤلف: أنطوان فرنسيس
العنوان: الشرخ - من مار مارون إلى الفراغ
بيروت، الطبعة الأولى، 216
الناشر: دار أبعاد للطباعة والنشر والتوزيع
قراءة: شوكت اشتي

___________


الكتاب، موضوع المراجعة، ليس تأريخًا، أو "كتاب تاريخ"، بقدر ما هو "قراءة عصرية"، لتاريخ الطائفة المارونية، من منظار سياسي، اجتماعي، جغرافي، ديني، ممّا يدفع للتساؤل: هل يمكن اعتبار الكتاب بحثًا في "الماضي"، لرسم صورة المستقبل، بكلّ ما يمكن أن يتضمنه هذا المسار من مطبات، وعقبات، وإشكالات في خضم الانقسام داخل هذه الجماعة، موضوع الدراسة، أو في إطار الانقسام المجتمعي السائد في البلد؟ هل يمكن اعتبار هذا الكتاب، مراجعة "نقدية"، لتاريخ هذه الجماعة؟ أم هو محاولة لتوضيح طبيعة "الشرخ" الضارب فيها، وتبيان مخاطره على وجودها؟ أم محاولة لتجاوز هذا "الشرخ"، وإعادة الُلحمة إلى مكونات الجماعة، وتفعيل عملية التفاعل بين عناصرها؟ هل يفتح هذا الكتاب آفاق التلاقي بين الجماعات اللبنانية؟ أم هو أسير "منطق" الجماعة التي يكتب تاريخها؟

إن ما يُثيره الكتاب قد يكون متعدد الأبعاد، وليس من السهولة حصره ببُعد محدّد. خاصة وإن كتابة التاريخ الخاص بهذه الجماعة أو تلك، أو التاريخ المتعلّق بالبلد ككل، هو أقرب لأن يكون نوعًا من المغامرة الخطيرة، التي لا تصل إلى نتيجة، وهذا ما أكدته الأيام. لذلك لا زال البلد، حتّى اللحظة، غير متوافق على كتابة تاريخه، لنقله إلى الأجيال الطالعة، ممّا يجعل كلّ جماعة متحصنة بتاريخها الخاص، ومُعظّمة لهذا التاريخ، هذا إذا استطاعت التوافق عليه. وفي الأحوال كافة، إننا أمام تحدٍّ، قد يبدو غير "طبيعي"، الأمر الذي يزيد العقبات أمام المراجعة.

التباس العنوان
 يبدو العنوان للوهلة الأولى واضحًا جدًا، ومُحددًا بدقة، يشد القارئ، ويلفت الانتباه. غير أن متابعة النص، لا تُبيّن هذا الوضوح، أو تُحدد دقته. لأن مفهوم "الشرخ" يبدو غير واضح من جهة، ويتداخل مع غيره من المفاهيم من جهة ثانية، ومحكومًا بالتجريد في نظرته للجماعة المارونية، موضوع الكتاب، من جهة ثالثة.

صحيح أن الكتاب نجح في تحديد معنى الشرخ الطبيعي/الجيولوجي، لكنّه لم يوضّح معنى الشرخ البشري، موضوع الكتاب، الأمر الذي جعله يدمج بين الشرخ والانقسام، ويُطبق "قوانين" الطبيعة على الجماعة البشرية، ومساراتها السياسية. فهل ما ينطبق على الطبيعة/الجيولوجيا، يمتد إلى الجماعة البشرية؟ 

يوضّح المؤلف أن الشرخ الجيولوجي "انشطار خطير في باطن الأرض"، تسببه العوامل الطبيعية، فيستحيل التحام انشطاراته، الأمر الذي يؤدي إلى "أفظع الكوارث البشرية لأنه مصدر زلازل". لذلك، فإن "كل جماعة تعيش على حدود الشرخ مُهَدّدة بالانقراض".

في هذا الفضاء "الانشراخي"، عاشت الجماعة المارونية، على امتداد تاريخها على جانبي "شرخ سياسي رافق وجودها وترحالها"، وكانت أسبابه عوامل سياسية، جاءت مكوناتها من الخارج. والأزمة أن "الذهنية المارونية"، لم تتغير، سواء لجهة محافظتها على "روحيّة الانقسام"، أو لجهة أنها عاشت "انشطارها بلذة". وإذا كان "الشرخ الجيولوجي" غير قابل للالتحام، فإن "الشرخ البشري يلتحم"، لتبدأ عهود جديدة.

بناء على ما قدمه النص، فإن الشرخ الطبيعي/الجيولوجي، هو غير الانقسام المجتمعي، أو ما يسميه الكتاب، "الشرخ البشري". الأول/الجيولوجي، لا يلتئم، ولا يلتحم، الثاني/البشري، على العكس، يلتئم، ويلتحم. 
لذلك فإن الكتاب، عمليًا، يتابع الانقسام في الجماعة المارونية، التي تبدو، مجازًا، في بعض الأوقات، وكأنها تعيش الـ"شرخ" الطبيعي/الجيولوجي، الذي يمكن أن يُهدّد وجودها. لكن النص لم يستطع تعميق فكرة "الشرخ البشري"، ممّا أبقى الفكرة مُرتبكة، ومشوشة. 

إن الكتاب، موضوع المراجعة، يحصر أسباب الانقسام بالعوامل السياسية فقط. وهذا غير دقيق. لماذا؟ لأن للانقسام البشري/المجتمعي أسبابه الاجتماعية، والمالية، والاقتصادية، والثقافية، والجنسية (ذكر، أنثى)، والإثنية... إضافة لذلك، فإن الانقسام رافق الوجود البشري، لذلك لا تعود أسبابه إلى الخارج فقط، كما يُشير الكتاب، وتركيز الكتاب، منذ البداية على الخارج، يحمل أكثر من وجه، الأول، لإبعاد العوامل الذاتية/الخاصة بالجماعة ومكوناتها المُسببة للانقسام. الثاني، لتبيان أن العوامل الخارجية فقط، هي السبب لما وصلت إليه الجماعة المارونية. الثالث، لتبرئة "الذات"/ "ذات الجماعة" من النتائج المؤلمة التي توصل إليها الكتاب، بحق الموارنة في لبنان. الرابع، التركيز على فكرة المؤامرة، ووجودها الدائم، والمستمر التي تستهدف الجماعة المارونية، سواء في الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل، وهذا يظهر كثيرًا في متن الكتاب، موضوع المراجعة.

هذا الخلط بين مفهوم الشرخ، ومفهوم الانقسام، في الكتاب، ترك، على الأقل، سلبيتين على قدر كبير من الأهمية: الأولى إلغاء فكرة التنوع، والاختلاف، والتعدد، والتمايز،... داخل الجماعة، أي جماعة. والثانية، النظرة المجردة، والمثالية، والإطلاقية، والمُتخيلة... تجاه الجماعة المارونية. لذلك يستبطن الكتاب، موضوع المراجعة، فكرة أن الجماعة المارونية، يُفترض، وعليها، وواجبها،... أن تنصهر، بما تعنيه كلمة الانصهار من دمج كامل، وشامل، وتام، لكل عناصرها، لتشكّل وحدة واحدة، لا انفصام فيها، فتبقى، دومًا، يدًا واحدة، وقلبًا واحدًا، وتصورًا واحدًا، ورأيًا واحدًا، وتوجهًا واحدا، وموقفًا واحدا... بكلّ ما يحمله هذا التوجّه من تعصب، وجمود. وهذا التوجّه يبرز في سياق المراجعة، وفي أكثر من موقع.

من هنا، يطرح الكتاب ضرورة معرفة الماضي، وقراءة أحداث التاريخ، وتحليلها، والاعتراف بالحقيقة كما هي، لبناء "المستقبل السليم". لكن هل يمكن في هذا الفضاء المرتبك الوصول إلى هذا الهدف؟

خصيصة الكتاب
يتصف الكتاب، موضوع المراجعة، بعدد من الخصائص التي يمكن إدراج أبرزها على النحو الآتي:
 - الغِنى بالمعطيات، والأحداث، والتفاصيل، والأسماء، والتواريخ، والمراجع...، وإبراز التعارضات في العديد من المواقف والآراء، وهذا لا يُلغي سلاسة العرض، ودقته.

 - السعي لتأكيد نزعة الجماعة المارونية، وميلها الدائم، ورغبتها المستمرة، لتحقيق أمرين، على الأقل، الاستقلال من جهة، وحرية القرار من جهة أخرى. غير أن هذا الاتّجاه الجدير بالتقدير، يمكن تعميمه، بأشكال مختلفة، على غيرها من الجماعات اللبنانية الأخرى. أي أن هذه الخصيصة، غير محصورة بالجماعة المارونية فقط. وهذه النزعة تفتح مجالات النقاش على مداها الأوسع، سواء لجهة معنى "الاستقلالية"، و"حرية القرار"، في مجتمع طوائفي بامتياز، أو لجهة مدى الدقة والموضوعية، في هذه الرؤية. فهل هذه رغبة ذاتوية؟ أم هي واقع موضوعي؟ مبرر هذه التساؤلات يعود إلى أن الجماعات اللبناني، كافة، كانت، ولا زالت، محكومة بعلاقات خارجية، "قوية"، و"متينة"، و"ثابتة"...، الأمر الذي جعل "الخارج" من مكونات الداخل، ومحركاته.

 - الجهد الواضح لإبراز خطورة الشرخ على الجماعة المارونية، وعلى تفاصيل حياتها، وعلاقاتها، ووجودها. لذلك يستبطن النص، الرغبة الملحّة لتحقيق "وحدة الجماعة المارونية"، لتأمين استمرارية الوجود الماروني الفاعل في الداخل اللبناني. غير أن هذه الرغبة "الوجودية"، والحضور الفاعل، ينطبقان على الجماعات الطائفية اللبنانية الأخرى، دون استثناء، في المجتمع الطوائفي. وبالتالي، لا تنحصر في طائفة دون أخرى لأن هذه الرغبة تبدو ضرورية لتأمين التوازن، أو الرجحان في "لعبة" المعادلات الداخلية. 

لكن الأزمة في هذه النظرة/الرؤية الذاتوية، والخاصة، تكاد تُلغي التنوع، داخل الجماعة الطائفية الواحدة من جهة، وتُبقي الآخر محكومًا بنظرة سلبية، إذا لم نقل بأنه "مُهدّد للوطن، وجماعاته، فهو مرذول" من جهة أخرى. إضافة لذلك فإن هذه النظرة "الذاتوية"، لا تفصل بين الإيمان/العقيدة الدينية، والعمل السياسي وشروطه من جهة ثالثة، وتجعل فكرة الدولة مُغيبّة، وطبيعة السلطة مسكونة بالانتماءات الأولية من جهة رابعة.

لذلك يمكن اعتبار الدعوة الوحدوية، التي تُطلقها هذه الجماعات، نرجسية، تتسم بـ"الطهارة"، و"البراءة"، و"التذاكي" السياسي. وهذا ما يمكن تلمسه، في أكثر من موقع في متن الكتاب، موضوع المراجعة، حيث يُشير، إلى أن الموارنة وقعوا، باستمرار "ضحية التقلبات السياسية"، على مدار تاريخهم الطويل، ممّا جعلهم يدفعون ثمن الصراع بين مراكز القوى، في المراحل المتعاقبة. لهذا فشلوا، كجماعة، في أن يكونوا "قوة عسكرية فاعلة"، أو "قوة سياسية ضاغطة". لذلك كانوا ينقسمون عند كلّ مفترق تاريخي، الأمر الذي جعلهم يفتقدون "البدر الماروني المنير". لكن كيف يمكن في مثل هذه التصورات تحقيق خطابات الوحدة الوطنية في لبنان؟ 

وفي الحالات كافة، فإن ما يطرحه الكتاب، يفتح أمام اللبنانيين، بكلّ جماعاتهم الدينية والسياسية، وأمام الأفراد من اللبنانيين، مجالات للمراجعة، والتفكير في الواقع، والتساؤل عن المستقبل وآفاقه.

بدايات الشرخ
بدأ الشرخ مباشرة، لحظة وفاة الناسك مارون. اختار هذا الناسك حياة التوحّد في البرية، وعاش حياته كلها، داعيًا إلى الزهد، والصلاة، والترفع عن كلّ ما هو دنيوي، وأنعم الله عليه بموهبة شفاء المرضى، وحصلت على يديه الكثير من المعجزات، فكان يشفي الأجساد السقيمة، والنفوس العليلة. توفي، مبدئيًا، عام 410، في إثر مرض ألم به، لفترة قصيرة.

في لحظة الوفاة، حصل "نزاع عظيم" بين أهالي القرى المحيطة بموقع تَنسّكه، على قمة "قلعة كالوتا"، التي تبعد 30 كلم، عن مدينة حلب. سبب النزاع كان حول أحقية كلّ مجموعة منهم بدفن الجثمان في أرضها.
ورغم أن الأسقف المؤرخ ثيودوريتس، أعاد الخلاف بين أبناء هذه القرى لحظة التشيع، لدوافع الإيمان، ورغبة كلّ قرية بالاحتفاظ بالجسد، "الكنز الثمين"، لكنه، وربما عن غير قصد، نقل إلينا "حقيقة نافرة وغريبة، ولا تقبل أي تأويل". لماذا؟ لأن الحادثة أثارت تساؤلات، حول أبعاد ما جرى، ومبرره. فكيف يمكن حصول هذا الشرخ العنفي، يوم وفاة "جامعها"، وقبل أن تتكوّن "الجماعة المارونية"، كتنظيم كنسي بزمن طويل؟ هل حقيقة الشرخ الذي حصل لحظة الوفاة، يعود إلى أسباب معنوية فقط؟ أم كان يهدف إلى تحقيق منفعة مادية في الوقت عينه؟
صحيح أن مدفن الناسك تحول إلى محجّة، لكن الحج لمدفنه لا يمكن، في الأحوال كافة، تجريده من بُعده المادي. لذلك برز في الجنازة خطّان متوازيان يتناقضان مع سيرة القديس في التقشف، والدعوة للزهد، والتسامح، والعدالة، و"إصلاح شواذ السلوك": الخط الأول، العنف الذي وقع بين المشيّعين. الخط الثاني، المنفعة التي جناها من ظفروا بـ"الكنز الثمين، بقوة الغلبة.

من هنا يعتبر المؤلف، أن هذين الخطين تسببا بشرخ ماروني عميق، ظهرت ملامحه الأولى في الجنازة، غير أنه أخذ يتسع، ويتكرّر، ويتجدّد عند كلّ "تحول تاريخي"، وعند "تبدل الدول لم يتعلّم الماروني كيف يحمي رأسه. اشرأب بعنقه عاليًا دافعًا أثمانًا باهظة لصراعاته الداخلية". وهذه الوضعية تُعيد نفسها، فمنذ العام 410، وحتّى العام 1989، يُعيد التاريخ نفسه، وتأتي المصيبة الجديدة أكبر من سابقتها.

أفكار للنقاش
استنادًا إلى ما توصل إليه المؤلف، يمكن القول، إن هذه النظرة لمسار التاريخ الماروني، وهو سائد، مبدئيًا، عند غيرها من الجماعات اللبنانية الأخرى، سواء في صراعاتها الداخلية، أو في صراعها مع غيرها من الجماعات، يتصمن، من حيث المبدأ، مسألتين:

المسألة الأولى، هذه النظرة، لمسار التاريخ الماروني، تتضمن تعميمًا وتبسيطًا، ونوعًا من التجاهل لطبيعة الجماعات الإنسانية وعلاقاتها... لذلك ينظر إلى الطائفة – الجماعة، على أنها هي المنطلق والأساس، ووحدتها هي الهدف والمآل، ويُلغي فكرة التنوع، والتعارض والتناقض داخل الجماعة، أية جماعة. وبالتالي، هذه النظرة، التي ترجع إلى عمق التاريخ، لتصل إلى العام 1989 (لحظة توقف الاقتتال اللبناني اللبناني، والاتفاق على وثيقة الوفاق الوطني في اتفاق الطائف)، تحمل، بطريقة أو بأخرى، بذور لاستمرارية الطوائفية السياسية في لبنان، وتُجيّر الدين لخدمة السياسة، وتُعلي شأن الطائفة/الجماعة الطائفية على حساب الوطن ومكوناته...

المسألة الثانية، هذه النظرة لمسار التاريخ الماروني، تتضمن تضخيمًا وتوهمًا، لموقع الطوائف ودورها في "لعبة الأمم"، أو عند "تبدل الدول". وهي، مبدئيًا، سائدة أيضًا عند الطوائف والجماعات اللبنانية الأخرى. بمعنى آخر تتوهم كلّ جماعة – طائفة في لبنان، أنها "محور الكون"، ومرتكز العالم ومحوره. وبالتالي، كلّ ما يجري، في لبنان، يستهدفها، ويتربص بها شرًّا، متناسية طبيعة العلاقة/العلاقات الخارجية، التي نسجتها هذه الجماعات مع الخارج، وكيف تحول الخارج إلى داخل، بكلّ ما يمكن أن يحمله هذا التحول من تداعيات خطيرة، سواء على الوطن، أو على كلّ جماعاته. من هنا تُضّخم دورها، وتُعلي من شأنها، وفي الحالات كافة، الأزمة في بلدنا، أن جماعاته، من حيث المبدأ، غير قادرة على تحديد موقعها الفعلي ودورها بدقة، لدرجة تبدو، وكأنها أكبر من الوطن.

الشرخ الكبير
يُشير المؤلف، إلى أن "الشرخ الكبير" الذي ضرب كنيسة إنطاكية، حصل العام 450، أي بعد أربعين سنة من وفاة مار مارون، الذي لا زال قائمًا حتّى اليوم. وهو نتيجة لمقررات "المجمع الخلقيدوني"، الذي دعا إليه الإمبراطور البيزنطي مارسيان، عام 451، وشارك فيه (343) أُسقُفًا، وبطريركًا من كنائس الشرق. من أبرز مقرراته، القول: بأن للسيد المسيح طبيعتين مُتحّدتين: واحدة إلهية، والثانية إنسانية.

هذا القرار، نقض لكل من "البدعة النسطورية" المؤمنة بطبيعتين، ومشيئتين للمسيح، وما قبلها العقيدة القائلة بـ"الطبيعة الواحدة"، والمعروفين باسم "المونوفيزيين". وقد أنتج هذا الخلاف العديد من المجازر، والاضطرابات...
وقعت أولى المجازر التي تعرض لها رهبان مار مارون، لتمسكهم بإيمانهم الخلقيدوني، العام 517، حيث تمكّن البطريرك ساويروس من إقناع الإمبراطور البيزنطي بالعودة عن مقررات المجمع الخلقيدوني، مما عرّض رهبان مار مارون إلى الاضطهاد والملاحقة والقتل والتنكيل. من هنا وجهوا سبع رسائل/عرائض، إلى البابا هرمزدا، وأساقفة سورية، والإسكندرية، ومجمع القسطنطينية. وفي رسالتهم إلى أساقفة سورية، اتهام مباشر للبطريرك ساويروس بالتعامل مع اليهود.

ومن اللافت للنظر، أن البطريرك ساويروس، الذي يعتبره رهبان مار مارون "مجرمًا"، و"هرطوقيًا"، هو قديس في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وأحد كبار علماء اللاهوت.

التأسيس والاستقرار
يستعرض الكتاب مسار تأسيس الطائفة المارونية، واستقرارها في لبنان، من خلال سرد تاريخي، معتمدًا على العديد من المراجع، وعارضًا للآراء المتعارضة في هذا المسار، محاولًا الوصول إلى خُلاصات، أو نتائج محدّدة.
 - على مستوى التأسيس، يمكن الإشارة إلى أن "الجماعة" المارونية، برأي المؤلف، كانت موجودة كـ"حالة رهبانية" فقط، في القرنين الخامس، ومنتصف القرن السابع. لكنّها لم تكن موجودة كحالة "شعبية منتظمة كنسيًا". وبالتالي، فإن تسمية "جماعة مارون"، أو "الموارنة"، أخذت بُعدها السوسيولوجي – الديني – الرعوي المنظم، بعد انتقال البطريرك مار يوحنا مارون، مع "جماعته" من سورية إلى جبل لبنان، هربًا من الاضطهاد البيزنطي عام 685، والبطريرك مار يوحنا مارون، الذي يُطلق عليه الكتاب موضوع المراجعة، اسم "المارد الأول"، كان رئيسًا لدير طبير على نهر العاصي، ومُخلصًا لروما، وانتخب بطريركًا لإنطاكية بعد مجمع القسطنطينية السادس العام 680، وليس بطريركًا للموارنة، لأن الموارنة لم يكونوا موجودين بهذا الاسم، كحالة رعوية، في هذا التاريخ.
من هنا يعتبر الكتاب أن البطريرك مار يوحنا مارون، استنادًا إلى بعض المراجع، "هو مؤسس الطائفة المارونية وليس القديس مارون الناسك".

 - على مستوى الاستقرار، يمكن الإشارة إلى أن المسيحية عُرفت في لبنان، منذ بداية انتشارها في فلسطين وسورية. كما أن المارونية كانت أيضًا في جبل لبنان، كحالة إيمانية، عقائدية. وعليه، ما هي العوامل التي ساهمت في تشكيل الجماعة، كـ"طائفة مستقلة"؟.

بعد المجمع السادس في القسطنطينية العام 680، والذي نقض العقيدة "الخلقيدونية"، المتعلّقة بطبيعة المسيح، وأكد على "الطبيعتين والمشيئتن"، حصل شرخ عقائدي جديد في الكنيسة، وولّد حالات من الاضطهاد لمن التزم بهذا التحول، ممّا أدى، إلى جانب عوامل سياسية، إلى هجرة جماعية قام بها البطريرك يوحنا مارون، من سورية إلى لبنان، رافقه فيها جماعات مسيحية كثيرة من الرهبان و"العلمانيين"، بلغ عددهم نحو اثني عشر ألف مسيحي.
من خلال هذه الهجرة، بدأت تتكون "الجماعة المارونية"، وتنتظم في كنيسة مستقلة، وأخذ البطريرك يوحنا مارون لقب "البطريرك الماروني"، بعد فترة زمنية من استقرارهم في لبنان. وقد لعب "المقدم إبراهيم"، ابن شقيقة البطريرك يوحنا مارون، دورًا أساسيًا في مسار هذه الهجرة، وترسيخ دعائم الإيمان وحماية المؤمنين.

ملاحظات أولية
استنادًا إلى ما ورد في الكتاب، موضوع المراجعة، يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات الأولية، التي تفتح آفاقًا للنقاش فيها، وحولها، ولعل من أبرزها الآتي:
 - إن الجذور الأساسية لما عُرف بـ"الجماعة المارونية"، تبدو سورية. أي أن "الهجرات" المسيحية بغالبيتها، انتقلت، من حيث المبدأ، من سورية إلى لبنان، الأمر الذي يُفترض نظريًا، على الأقل، مراعاة "مستلزمات" "القرابة"، إذا جاز التعبير، مع هذه الأصول/الجذور. خاصة لجهة أن "انتماءهم مشرقي، وجذورهم عربية عريقة". غير أن قراءة المسار التاريخي للجماعة عامة، وللخطاب السياسي خاصة، يُبيّن أن هذا الجذر/الأصل، غير مرغوب عند أغلبية أهل الجماعة من جهة، ويولد أزمة عند بعض الموارنة، وغالبية كتلها السياسية من جهة أخرى.
 - إن تلازم السياسي والديني، عند الموارنة، "كما عند غيرهم" من حيث المبدأ، منذ لحظة التكوين، سبب، في مراحل مختلفة، خلافات بين البطريرك الماروني، وزعماء الموارنة السياسيين، ووسّع الشرخ بينهم، وجلب الويلات إلى طائفتهم، وعلى المسيحيين، كما ورد في متن الكتاب، موضوع المراجعة. هذه الوضعية تدفع للتساؤل: ما هي مبررات هذا التلازم بين الديني والسياسي؟ هل الأزمة في تدخل البطريرك في السياسة، أم في طمع السياسيين وتدخلاتهم؟ هل النزاع على السلطة أجج الخلافات بين البطريرك، والسياسيين؟ ما هي فوائد هذا التلازم (الديني/السياسي)، سواء على مستوى الطائفة، التي ذاقت مختلف أشكال الخلافات نتيجة لهذا التلازم، أو على المستوى الوطني العام، وفكرة بناء الدولة "المدنية"؟ 

 - تندمج هذه الملاحظة مع سابقتها، مبدئيًا، بل قد توضّحها، وتعمق الأسئلة حولها، وبالتحديد لجهة ما أشار إليه الآباتي بولس نعمان، في أن "المارونية أمّة استطاعت أن تكون في الوقت نفسه ديانة ودولة، من غير أن تُدوّل الدين وتُديّن الدولة..". يبدو هذا الموقف، الذي أورده المؤلف، موقفًا إيديولوجيًّا، عقائديًا، سياسيًا بامتياز. لماذا؟ أولًا، لأنه أقرب لشعار سياسي تعبوي. ثانيًا، لأن معالم هذه المقولة غير واضحة، وأُسسها العملانية غير مُحدّدة. ثالثًا، صحيح أن الدولة في لبنان، لم "تُديّن"، كونها مدنية وغير دينية، لكن الدين في لبنان، بالمعنى السياسي والطائفي والمصلحي، وتقاسم المواقع، وتوزيع الحصص، هو ركيزة الدولة ومرتكزها. لذلك فإن هذا التذاكي اللغوي، لا يُلغي الواقع الطوائفي وتعصباته "الدينية" في الدولة اللبنانية، ولا يُلغي تأثير الدين ورجالاته على الدولة وسياساتها. بل يمكن القول، إن هذه المقولة أقرب للتعامي عن الواقع، وتدعيم له، الأمر الذي يجعل هذه المقولة موضعًا للنقاش من جهة، ومحاولة تبرئة "ذات الجماعة" من طائفيتها، ودورها في ترسيخ الطائفية.

 - إن الخلاف حول بعض المحطات التاريخية في مسار الطائفة المارونية، التي يُثيرها الكتاب، موضوع المراجعة، قد يكون متماثلًا مع غيرها من الجماعات الطائفية الأخرى في لبنان. أي أن العديد من الخلافات، سواء داخل الجماعة الواحدة، أو خلافاتها مع غيرها من الجماعات، يبدو جدلًا بيزنطيًا، ومن الماضي. لذلك التساؤلات يمكن أن تُثار حول مدى استفادة الوطن و"جماعاته"، من عِبر الماضي، ودروسه في معالجة الخلافات الانشراخية بينها. ما هو دور الأجيال الطالعة في توسيع مساحات التلاقي بين مكونات الجماعة الواحدة، أو بين أطراف الجماعات المتصارعة فيما بينها؟ هل "ارتقينا" في لبنان، إلى مستوى التفاعل الإيجابي، والحوار المُثمر، والتسامح الفعلي؟ إنه التحدّي أمامنا جميعًا دون أي استثناء. من هنا فالأزمة في بعض ما أورده الكتاب، أنه يدور حول الانشراخات دون أن يفتح آفاقًا للتلاقي. لذلك تبدو التجربة اللبنانية غير مشجعة، في ألطف توصيف، ممّا يجعل هذه التساؤلات، وغيرها، حاضرة بقوة في الحياة اللبنانية، وتتطلب جهدًا كبيرًا، لإنجازها.

 - إن من بديهيات الانتماء الوطني، التشبث بالأرض، والاعتزاز بها، والدفاع عنها... وهذا واضح جدًا في توضيح الكتاب لعلاقة الموارنة بلبنان. غير أن النص الذي نراجعه، يجعل من الموارنة هم "أصل" الوطن"، لدرجة تبدو الجماعات اللبنانية/الطائفة الأخرى دون هذا المستوى. وهذه الملاحظة لا تُشكّك، أو تُقلًل، أو تُهمّش،... من علاقة الموارنة بالوطن. لكن هذه المبالغة الذاتوية قد تُصيب، وإن عن غير قصد، الجماعات الطائفية الأخرى في الوطن الواحد، فتبدو الجماعات "غير المارونية"، وكأنها أقل لبنانية. وهذا ما يتضمنه الكتاب، في العديد من المحطات.

والأزمة الكبرى أن هذا الاتّجاه، الذاتوي والمُغالي في نظرته لموقعه، ودوره في قيام الكيان اللبناني، لا زال سائدًا في الحياة السياسية اللبنانية، ممّا يجعله مُحركًا للنزاعات، والصراعات الداخلية. وقد تدفع هذه المغالاة "اللبنانية المارونية"، البعض لتجاوز المنطق، وحقائق التاريخ ومعطياته. فالأب يوسف يمين يعتبر أن السيد المسيح "اجترح معجزته الأولى في بلدة قانا اللبنانية، وليس في قانا الجليل"، وذهب أبعد من ذلك طارحًا نظرية أن سيدنا يسوع المسيح "ولد في لبنان وليس في فلسطين". 

 - إن مختلف الجماعات الطائفية في لبنان، وإن بنسب متفاوتة، تعتقد أنها مركز العالم، ومحط أنظاره. من هنا، على سبيل المثال، يُشير الكتاب، موضوع المراجعة، إلى أن الموارنة كانوا دائمًا ضحية الصراع الدولي. غير أن هذه الرؤية، في إطار النزاعات الداخلية، يمكن تعميمها، بشكل، أو بآخر، على جميع الجماعات الطائفية في لبنان، بحيث تعتبر كلّ جماعة أنها "ضحية الصراع الدولي" من جهة، وتُهمش أسباب الصراعات الدولية التي قد تكون هذه الجماعات وقودًا لها، وليست "ضحية لها" من جهة ثانية، وتُلغي علاقة هذه الجماعات، على خلافاتها، واختلافاتها، مع الخارج، الذي أصبح جزءًا من الداخل من جهة ثالثة. من هنا، فالمأزق ليس في نظرة هذه الجماعات لذاتها المستهدفة، فقط، بل في أن هذه النظرة لا تزال قائمة وبقوة، بكلّ مضامينها وتداعياتها السلبية.

الموارنة في الصراع الإقليمي
نقلًا عن المؤرخ "غيوم الصوري"، سارت الجيوش الأوروبية من الغرب الأوروبي، إلى الشرق الآسيوي "خلف راية الصليب: رافعة شعار تحرير القدس من أيدي المسلمين، تلبية لنداء بطرس الناسك: "الله يريد ذلك"".

وعندما بلغ الصليبيون نواحي طرابلس في القرن الثاني عشر، توافد قسم من الموارنة، من الجبال لاستقبالهم، وإرشادهم إلى "المسالك السهلة للسفر إلى أورشليم"، والترحيب بهم بـ"اسم الأخوة في الدين". بالمقابل رفض فريق آخر من الموارنة التعاون مع الصليبيين. ففي حين انخرط، مثلًا، "المردة" في صفوفهم، ورافقوهم إلى القدس، آثر سكان جبال بشري التعاون مع المماليك ضدّ الصليبيين. وهذا ما سيوسع الشرخ بين أهالي إهدن وبشري، كما يشرحه الكتاب، بالتفصيل.

من هنا يمكن القول إن مجيء الصليبيين، أوجد الشرخ السياسي الأول بين الموارنة، وكان لهذا تبعاته القاسية، إذ دفع الموارنة "ضريبة الدم والاضطهاد والتشرد"، سواء بقدوم الصليبيين، أو بعد خروجهم مهزومين. وعليه، وقعت أول مجزرة ضدّ الموارنة في بشري على يد الصليبيين، وتبعتها أخرى في إهدن على أيدي المماليك. وهذا، برأي المؤلف، أساس الخلاف بين الموارنة في إهدن وبشري.

يوضّح الكتاب، أن الحملة المملوكية، على جبة بشري، وما أنتجته من ويلات، جاءت نتيجة لمعاهدة الصلح بين المماليك والصليبيين، أي أنها وقعت بعلم الصليبيين وطلبهم، وردًا على ما يعتبره المؤلف، تصلب وشجاعة البطريرك دانيال الحدشيتي، وميله لتكريس "القرار الماروني الحر". و"القرار الحر" يبدو بالنسبة للكاتب، خاصية "ثابتة" عند الموارنة، دون أن يتمكّن القارئ بالضرورة، من تأصيل معرفته حول هذه الخصيصة المتعلّقة بـ"القرار الحر". كما يستعرض المؤلف الآراء والآراء المعارضة في موضوع العلاقة مع الصليبيين والمماليك.

إن الموارنة، كما يحاول للكتاب توضيحه، كانوا ضحايا لصراع القوتين الأساسيتين في المنطقة. وهذا الاستنتاج يطرح باستمرار، على الموارنة، كما على جميع الجماعات اللبنانية الأخرى، تساؤلات وجودية. إلى أي مدى تبدو هذه الجماعة، أو تلك، مُحركًا في صراع القوى الكبرى، سواء في الماضي، أو في الحاضر؟ لماذا تعمد هذه الجماعة، أو تلك "إلى تضخيم حجمها، ودورها، وحضورها...؟ إلى أي مدى يمكن إدراك حجم هذه الجماعة ودرورها، الحقيقي، في لعبة الأمم؟ إلى أي مدى أتقنت الجماعات اللبنانية أهمية الحوار الداخلي، وضرورته لتجاوز الشرخ في ما بينها؟ إلى أي مدى أحيت الجماعات اللبنانية القواسم المشتركة بينها؟ إلى أي مدى توافقت هذه الجماعات، على تحديد "العدو" الرئيسي الذي يستهدفها، ويستهدف وطنها؟"... هذه التساؤلات وغيرها، كانت، ولا زالت، دون أجوبة واضحة. وعليه، يحاول الكتاب، انطلاقًا من التجربة المارونية، تبيان الضرر الذي لحق بالموارنة نتيجة لما يمكن تسميته بـ"الصراع الإقليمي"، وموقع الموارنة فيه.

الجوهر والأساس
كانت روما مع الحملة الصليبية، وهذا ما أدى إلى خلاف داخل الطائفة المارونية. يبدو الخلاف في الظاهر حول "معتقدات دينية ولاهوتية وعقائدية"، غير أنه في الجوهر والأساس، كان خلافًا على "الهوية والانتماء"، مع الصليبيين (الغرب)، أم مع المماليك (الشرق).

هذا الانشطار الماروني، بين الغرب والشرق، برأي المؤلف، لا زال مستمرًا في الذهنية المارونية، رغم كلّ الحقبات التاريخية وآلامها، فإنه لم يتبدل.

بناء على هذا التوصيف الدقيق، لطبيعة الانقسام في الطائفة المارونية، يمكن التساؤل: هل يمكن للخارج أن يكون مُحددًا "للهوية، والانتماء الوطني"؟ كيف؟ ولماذا؟ ما هي العوامل التي تجعل هذا الخيار قائمًا ومستمرًا؟ ولماذا تجد جماعة من الشرق، ولدت فيه، وعاشت فيه، أنها "غربية الانتماء" والهوية؟ قد تبدو هذه التساؤلات، وغيرها، "مُستفزة" بالنسبة للبعض، لكنّها طبيعية في سياق النقاش حول هذا الخلاف الذي لم يستقر، أو يصل إلى بر الأمان، خاصة، وأن ارتداداته لا زالت فاعلة جدًا، ومؤثرة بقوة، ومُهيمنة بالكثير من التفاصيل، على التركيبة اللبنانية.

طبيعة الانشطار
إن الاصطفاف "الماروني" في إطار الصراع "الإقليمي" كان، برأي المؤلف، أساس الخلاف بين الموارنة في إهدن وبشري. غير أن هذا الشرخ بقي هامشيًا، من حيث المبدأ، ولم يعره أيّ من المؤرخين الأهمية المطلوبة. لماذا؟
لأن التركيز انصب على انقطاع علاقة الموارنة مع روما، والتي استمر فيها الانقطاع نحو (71) عامًا. أي إن ارتدادات الشرخ، لم تقتصر على خلاف "بعض الموارنة" مع الصليبيين، بل كان الخلاف مع روما الأبرز والأهم، مقارنة بما حدث بينهم كجماعة من انقسام. من هنا كان الجانب "العقائدي" الأكثر حضورًا، مقارنة بالجانب "السياسي" وتبعاته المؤلمة.

كان البطريرك، لوقا البنهراني، قائد عملية الانشقاق عن روما، حيث رفض الاعتراف بسلطة البابا، واعتنق العقيدة اليعقوبية (المؤمنة بالطبيعة الواحدة للمسيح)، بينما جبرائيل ابن القلاعي رائد مدرسة الدفاع عن روما، تجاهل انشقاق البنهراني. من هنا فإن سركيس أبو زيد، كما يرد في متن الكتاب، موضوع المراجعة، أعطى لهذه الخلافات الداخلية، أبعادها ودوافعها الوطنية والطبقية، ووضّح الكتاب مجمل الآراء حول هذا الشرخ وأبعاده، ليصل إلى القول إن التعاون مع "جيوش المحتل"، كانت السبب الأساس للانشراخ. وبالتالي، فإن وصول "جيوش المحتل" إلى قمم الجبال، كان بفضل "تعاون فريق من الموارنة مع الغزاة ضدّ فريق آخر". وهذا التوصيف فيه شيء من المغالاة. لماذا؟ لأن هذه المناطق تبدو، في الكتاب موضوع المراجعة، وكأنها دولة قائمة بذاتها، تم اختراق "سيادتها" من قبل المحتل، بينما هي في الحقيقة جماعات طائفية، لها علاقاتها السياسية والإيمانية/العقائدية. 

العودة إلى روما
انقطع التواصل مع روما، بعد "استشهاد البطريرك جبرايل حجولا" العام 1367، واستمر، مبدئيًا، نحو (71) عامًا، حيث عمد البطريرك يوحنا الجاجي، من بلاد جبيل، إلى وصل ما انقطع. لذلك يعتبره البعض "البطريرك العظيم"، فقد عمل على تلبية دعوة البابا أوجين الرابع، لحضور مؤتمر فلورنسا العام 1438، حيث مثّل "البطريرك العظيم"، "فرا جوان"، رئيس رهبان فرنسيس في بيروت. وبعد عرض رسائل الموارنة في "لبنان والقدس وجزيرة قبرص" في هذا المؤتمر، تم تثبيت البطريرك يوحنا الجاجي في الرئاسة على كرسي إنطاكية، وأرسل البابا له تاجًا، ودرع البطريركية.

غير أن "فرا جوان" كان سببًا لوقوع حادثة خطيرة عند عودته إلى لبنان. ورغم تعدد الروايات حول هذه الحادثة، غير أن الكتاب يوضّح، أن الحاكم التركي في طرابلس، ألقى القبض عليه، بحجة أن مؤتمر فلورنسا، كان يهدف إلى "استخلاص" بلاد الشام من المسلمين، فتدخل البطريرك يوحنا الجاجي، عند الحاكم، الذي وافق على إطلاق سراحه شرط عودته إلى طرابلس بعد إنجاز مهمته الدينية.

غير أن هذا لم يحدث، الأمر الذي دفع الحاكم إلى ردة فعل عنيفة ضدّ البطريرك وأعوانه وأهالي بلدة ميفوق، ممّا أدى إلى انتقال البطريرك إلى دير قنوبين. وهنا يُشير المؤلف، إلى أن ما عرضه المؤرخ كمال الصليبي حول هذه الحادثة غير صحيح، و"غير مطابق للواقع على الإطلاق"، لأن الصليبي اعتبر أن الهجوم على "دير ميفوق"، وأهالي البلدة، "لم يكن عملًا عسكريًا من قبل حاكم طرابلس". بينما يتساءل الكتاب، موضوع المراجعة، هل يمكن التوجّه إلى بلدة ميفوق، والقيام بأعمال الخراب فيها وبالدير، دون علم الحاكم، وأوامره؟.
في الأحوال كافة، فإن تباين الآراء حول هذه الحادثة، يبقي مسائل الحسم فيها خاضعة للأخذ والرد، لاعتبارات متعددة، ومختلفة.
 

 

 

المسيحيون

إقرأ المزيد في: قضايا وكتب