طوفان الأقصى

قضايا وكتب

قراءة في كتاب : بيادر التعب (2/2)
13/08/2024

قراءة في كتاب : بيادر التعب (2/2)

قراءة في كتاب - المؤلف، كامل عبد الحسن خليل
العنوان، بيادر التعب
الطبعة الأولى 2023، دار المجد للنشر والتوزيع، عدد الصفحات 398
قراءة: شوكت أشتي

 

في الحلقة الثانية من مراجعة كتاب "بيادر التعب" يواصل الأب رواية بعضٍ من "التاريخ القريب والبعيد" لوحيده، فبعدما حدّثه عن اجتياحات الاحتلال المتتالية وعن صمود بيروت والضاحية، استكملا معًا رحلتهما إلى "القرية الحبيبة". وفي كل محطة على الطريق من الضاحية إلى الجنوب كان هناك حكاية، وحكاية، تروي نبض الحياة وتنفتح على الآمال الواعدة.

 

بوابة الجنوب


عند الوصول إلى جسر الأولي، تذكر الوالد معاناة العابرين إلى الجنوب، وحواجز التفتيش والقهر. لكن لم يلبث العدو أن فرّ من صيدا في 16 شباط 1985، بعد سنة  من استشهاد الشيخ راغب حرب. فكان الانسحاب المسمار الأول في نعش الاحتلال. فصيدا بوابة الجنوب، وتاريخها مُشرق، ومرفأ الصيادين فيها يحمل طيف معروف سعد، حبيب الفقراء، والشهيد الحي مصطفى سعد، والعديد من الشهداء الأبرار الذين لن يستطيع الزمن، مهما طال، أن يُغيّب ذكراهم العطرة، وذكرى رفيق الحريري.


في بلدة "الغازية"، توقف المؤلف على الدرب، وترجل باتجاه الشاطىء الجميل، واستحضر الخطوات نحو التحرير في 25 أيار العام 2000، والذي كان عملاً تراكميًا. حيث هتفت الجماهير يومها بنشيد جديد، وبكلمات غير مألوفة، للمقاومة الإسلامية التي رفعت ألوية الحرية، وحطمت معتقل "الخيام" الذي شاء العدو أن يكون سجنًا للإرادة. غير أن أبطال المقاومة حولوا السجن إلى مدرسة في الثبات، وصوت الجنوب الرافض للاحتلال.


جزء من المقاومة


إن النصر هو "توفيق إلهي" أولاً، وجهاد مقاومين ومناضلين، وعلماء، وشعراء، ومثقفين، ومهندسين وأطباء..... هو شهادة قادة، ودعم أصدقاء، وحلفاء....، إنه حصاد أيام من أيام الله.... إنه مسيرة على وقع الدماء الزكيّة.


تذكر الوالد هذه المسارت التي أدت للنصر في العام 2000، ودمجها في حديثه مع الابن عن القرية وأهلها، وجمالها، وعاداتها، ودورها في المقاومة. إن كل زاوية من زواياها، وكل فصل من فصولها تحمل الحكايات التي لا تنتهي، من أيام الشتاء، وأزهار الربيع، ولياليها، وساحاتها، وأفراحها، ومسجدها الذي احتضن المجموعات الأولى "لحركة أمل"، كما احتضنت مساجد الضّاحية وبيروت، والكثير من مساجد الجنوب القديمة، متدينين صاروا يُعرفون باسم "مجموعات العمل الإسلامي".


مستذكراً كيف كان المسجد القديم، القريب من ساحة القرية، والذي لم يبقَ منه شيء سوى هيكل الشباك العلوي، وكيف كان هذا المسجد عامرًا في الماضي؟ تحركت الذاكرة بكل التفاصيل والحكايات والأحداث.... المحملة بأيام التعب والمعاناة والجهد، وبذور مشاتل التبغ، وصولاً إلى القطاف والشّك، والخيطان، والنشر في الشمس، ثم التّرطيب في الظل، فالتدليك، إلى حين موعد التسليم "للريجي"، ومعاناة البيع.


موضحًا للأبن قساوة الحياة التي عاشها الأجداد، لتوفير الحد الدنى من الحياة الكريمة. وأخبره بأن جده اضطر للنزول إلى بيروت التي كان لا يعرفها إلا قليلاً للعمل وكسب المال، وتأمين مستلزمات الحياة الأولية، وتوفير نوع من الاستقرار، وما عاناه جده من عذابات في مشوار التعب والعناء. وهذه الصورة التي قدمها الوالد تبدو تلخيصًا، لمعاناة أهل الجنوب، وبقية القرى والأرياف المهملة والمحرومة في لبنان. حيث الإهمال هو السياسة المعتمدة من قبل الدولة، والقهر هو الوسيلة لردع حركة الناس والتحكم بمصيرهم، والسيطرة على نشاطهم. لكن الظلم لا يدوم، وهذا ما أدى بالأحفاد والأبناء إلى أن يصبحوا أكثر تطورًا وتقدمًا ووعيًا. 


السكن في بيروت


هنا يستفيض الأب في حكايته عن بدايات استقرار العائلة في بيروت، المسار الذي اعتمده الجد، والطريق الصعب الذي سلكه منذ لحظة وصوله إلى مدينة لا يعرفها، وكيف جاهد، كغيره من الوافدين من القرى والأرياف، لتأمين لقمة العيش، وحماية الأسرة.


وصل الجد إلى "الخندق الغميق"، بعد مسار من المعاناة، ومشوار من المشقة، والتعب، والعناد. ساعده صديق، وأمن له العمل في مشغل لصناعة السّلال، وتنقل من صنعة لأخرى، إلى أن استقر في عمل التنجيد، عند تاجر يهودي. حيث تبين لاحقًا أن هذا التاجر ترك لبنان "سرًا" وتسلَّل إلى فلسطين. إذ إن المخابرات الصهيونية (الموساد)، جندّت عملاء من اللبنانيين لتسهيل هجرة اليهود من لبنان، باتجاه فلسطين عبر طرق مختلفة.


لم يكن عمل الجد مُنتجًا، فأقنعه أحد المغامرين بالسفر إلى الكويت. وهنا روى لولده وصديقه الذي كان للتو قد تعرف عليه، عند ذهابه لشراء السغائر، ما تحمله في الغربة وتبعاتها، ومساراتها الشاقة، فغاب قرابة السنتين ليعود إلى القرية، ويتزوج، بحسب العادات المتبعة، والتي استفاض في الحديث عنها.  


الحرمان والحل


يتابع الوالد مسألة العمل الحزبي، وأحلام التغيير، في ظل الأوضاع السياسية وتصدر الإقطاع وهيمنته. ورغم أن مسألة العمل الحزبي جاءت على نحو عابر، فإنها تحمل دلالاتها وأبعادها في خضم الصراع الحياتي. بل يمكن اعتبارها الشكل الآخر من المقاومة باتجاه التغيير والتطوير. خاصة وأن العمل الحزبي حمل لاحقًا البندقية باتجاه فلسطين وتحرير الأرض، ومواجهة الاجتياحات الصهيونية التي تعرض لها لبنان.


الحرمان الذي عايشته قرى الجنوب كان قاسيًا، ومظاهره متعددة لا تُحصى، سواء في الخدمات الطبية، أو التعليمية، أو مستلزمات الحياة الطبيعية، من طرقات، وكهرباء، ومياه وهاتف.... من هنا يمكن القول: إن القاسم المشترك بين قرى الجنوب، هو أنها كانت متساوية في الظلم والمعاناة والقهر والحرمان.  


 مشيرًا إلى أن الحكام في أوائل الستينيات، أشفقوا "على البسطاء والأميين، فبعثوا إليهم بمعلمين ومعلمات"، من خريجي دفعات دور المعلمين والمعلمات، حيث كان دورهم إيجابيًا، وأقاموا علاقات طيبة مع أهل القرى التي علمّوا فيها. 


من هنا يأتي الوالد على  ذكر الوجود الحزبي بطابعه اليساري في القرية، وقرى الجنوب عامة. حيث يُشير إلى أن الأحزاب "استغلت"، الفقر والحرمان، واللا عدالة التي كانت تمارسها الدولة بحقّ مواطنيها. لذلك ركزت دعوة الأحزاب الفكرية على تحسين أوضاع الطبقة العاملة، الأمر الذي أوقع أهل الجنوب، برأي المؤلف، بين مطرقة البقاء تحت رحمة الإقطاع والإهمال، والحرمان، والجهل، وبين سندان "الالتحاق بالأحزاب العلمانية المعادية للدين"، باستثناء "القوميين العلمانيين"، الذين لم يكونوا مُلحدين. بالمقابل كان المتدينون قلة بينهم.
الحضور الحزبي


إن ما يُقدمه الكتاب حول الأحزاب يبدو غير موضوعي، من حيث المبدأ، لاعتبارات متعددة، لعل من أبرزها الآتي:


 أولاً، بدت مسألة التدين كأنها الأساس في مقاربة العمل الحزبي ونشاط المحازبين. صحيح أن المناقشات الفكرية كانت دون حدود، لكن هذا لا يعني، مطلقًا، أن الدعوة للإلحاد كانت السائدة، أو أنها كانت هي الأساس. وعليه، فإن العلمانية لم تكن مطروحة في الشكل الذي يُقدمه الكتاب، رغم الغلواء التي أظهرها بعض المناوئين للدين في مناقشة مسائل الخلق والوجود.


ثانيًا، يبدو أن هناك خلطاً بين الدعوة لفصل الدين عن الدولة، القائمة على فكرة الدولة المدنية من جهة، والإلحاد من جهة أخرى. هذا الخلط استغلته القوى التقليدية والإقطاعية. بحيث تسترت بالتدين لتكفير الأحزاب التغييرية/ اليسارية، والعمل الحزبي الداعي للتقدم والتطور والتغيير المجتمعي بأبعاده كافة.


ثالثًا، إن الأحزاب، لم تستغل الفقر والحرمان.... الذي كانت تمارسه الدولة والإقطاع السياسي. وبالتالي فإن أهل الجنوب، كما غيرهم من أهالي المناطق الأخرى، لم يكونوا في "مأزق" الاختيار بين الإقطاع والأحزاب، خاصة وأن بعض الإقطاع عمد إلى تأسيس أحزاب، تأخذ أسماء "يسارية" و"ديمقراطية"....، رابعًا، إن الحرمان، كما يُشير الكتاب، كان قاسمًا مشتركًا بين قرى الجنوب، لذلك فالدعوة الحزبية التغييرية، كانت تهدف لتغيير بُنية الدولة، والنظام السياسي القائم. وقاعدة التغيير، عند هذه الأحزاب، هي الفئات الكادحة والمحرومة. لذلك كان خوف السلطات الحاكمة، وقلق الإقطاع المهيمن، ممّا جعل الانتساب إلى حزب تغييري تُهمة، يعرض صاحبها للملاحقة القانوية والسجن، في تلك المرحلة.


رابعًا، ليس دقيقًا القول إن المتدينين في الجنوب كانوا قلة، لأن أهلنا في الجنوب، كما في القرى والأرياف المحرومة، كان إيمانهم راسخًا، ثابتًا، عميقًا، وإن اختلفت مظاهر التعبير بين مرحلة وأخرى.


الدور الحزبي


من هنا فإن الكتاب، سرعان ما يعود للإشارة إلى أهمية الأحزاب، في تلك اللحظة السياسية، حيث سرعان ما أصبح الجنوب والبقاع أيضًا، ساحة مفتوحة للعمل الحزبي اليساري، ولدعم القضية الفلسطينية. فكان جدارًا عازلاً بوجه التطبيع والخيانة. لذلك لم يكن أمام الشباب سوى حركة الأحزاب، والانخراط فيها، مثل: "القومي السوري، والشيوعي، والبعث". والحق يُقال، كما يُشير الكتاب، موضوع المراجعة، إن تلك الأحزاب لعبت دورًا مهمًا في "تشكيل الوعي" تجاه الإقطاع السياسي، وفي مواجهة الهيمنة الطائفية، وفي التوجه نحو العلم والتخصص، وكان الحزب الشيوعي مُتقدمًا عن غيره في تقديم منح التعليم.


السفر والوطن


كانت رحلة "العودة إلى القرية"، الفرصة الأساس لاستخضار الذكريات، ومجريات الأحداث السياسية والاجتماعية، والمعيشية والاقتصادية....، وتوضيح المعالم الأولية للمواجهة، و"تثبيت" الأفكار بأبعادها الوطنية والمجتمعية كافة. والابن لم يكن، عمليًا، خارج هذا الفضاء. لأن الانسجام، أو التناغم بين الأب والابن، كان قائمًا من جهة، وساهم في إنجاح هذه الرحلة، وتوضيح معالمها من جهة أخرى.


من هنا تبدو هذه السيرة "الخاصة" أرشيفًا غنيًا بالمعلومات، ومخزنًا قد يُزود الشباب الطالع بـ"الخبرات" الأولية للانطلاق نحو المستبقل وتكملة المسيرة. رغم أن هذه التجارب ستبقى أمام هذا الشباب خاضعة للنقاش والمُساءلة.


وعليه، فإن التزام الابن بالمنطلقات الأولية التي أشار إليها الوالد، خاصة لجهة الالتزام بالمقاومة، فكرًا وسلوكًا، لم تكن حاجزًا، بالنسبة للابن لطرح فكرة السفر إلى الخارج، أو إلغاء هذه الفكرة من ذهنه. بل إن فكرة السفر غدت هاجسًا، وولدت إصرارًا، دفع الأب للرضوخ للأمر الواقع. فساعد وحيده، وأمن له كل المستلزمات الضرورية للسفر. وهنا أيضا يظهر انفتاح الولد، ومرونته في التواصل مع الابن. أي أنه لم يتخذ موقفًا حادًا، ضد فكرة السفر التي ألح عليها الابن، ولم يصطدم بوحيده، أو يُقاطعه، كما يفعل بعض الآباء بحجة الحرص على الأبناء، والادعاء بأنهم يعرفون أكثر. فكان الوالد مُيسراً، وليس معقدًا، مُتَفِهماً، وليس جامدًا، متفاعلاً، وليس مُقاطعاً، الأمر الذي ساهم في استيعاب الابن، والإبقاء على قنوات التواصل معه.
هنا يستعرض الأب عمق المعاناة التي مر بها، وشدة اللوعة، وألم الفراق، و"آفاق" الخوف على الأبناء، والحسرة على ما كان، والخشية من الآتي. وهذه المشاعر يمر بها عادة الأهل عند فراق الأبناء، وابتعادهم بدواعي العمل أو التعليم...


من هنا بقي التواصل قائمًا مع الابن في بلاد الاغتراب، إلى اليوم الذي اتصل الابن لـ"يزف" لوالده، رغبته بالعودة إلى ربوع الوطن. فكانت الفرحة عامرة، والسعادة لا توصف. لذلك قرر أن يكون اللقاء على أرض المطار، مفاجأة للأم. حيث ألحّ الوالد على زوجته لمرافته إلى المطار لاستقبال الحجاج، وطلب من شقيقته وابنتها مرافقتهما، لمعرفته بالصداقة التي تربط بين الفتاة وابنه. لكن الصدمة كانت قاسية، عندما شاهدت الأم وحيدها، فسقطت أرضًا، مغميًا عليها. إلا أنه سرعان ما تم تسوية الأمور. 


وفي اليوم التالي، قصّ الابن على والده ما جرى معه في غربته وما حققه، وتحصيله العلمي، ومشقة العمل في أكثر من مهنة لتأمين مستلزمات الحياة وأقساط الجامعة، حتى لا يُرهق الأهل بالأعباء المادية. والمفاجأة الأكبر كانت حينما أخبر الوالد أن سفره كان بعلم المقاومة. ليؤكد الابن أن المقاومة ليست مجرد حركة عادية، أو جيشًا صغيرًا، أو فكرة لحظوية وعابرة، وليست مجرد دفاع عن الأمة فحسب. إنها حركة الحياة، وهي في صميم الحياة. فقد أصبح الأبن الوحيد مجاهدًا يُطلق "المسيّرات".


هذه السيرة "الخاصة" تتضمن العديد من المعاني والأفكار. صحيح أنها سرد أدبي مشوِّق، لأحداث، وصور، وأخبار....إلخ. غير أنها في الوقت نفسه تفتح أمام الأهل، كما الأبناء الآفاق الرحبة، لنعرف محطات مهمة في تاريخنا "الحديث"، ولتؤكد أن المقاومة ليست بالسلاح فحسب وإنما بالعلم والمعرفة أيضاً. وفضلاً عن كونها الرادع في مواجهة العدو المتربص، وتأمين الحماية ومستلزمات المواجهة، فهي في الوقت عينه أيادي الخيّر للبناء والإعمار.

 

للاطلاع على الجزء الأول: قراءة في كتاب : بيادر التعب (2/1)

المقاومة الإسلاميةالضاحية الجنوبيةالجنوب

إقرأ المزيد في: قضايا وكتب

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة