يوميات عدوان نيسان 1996

نقاط على الحروف

حسنين هيكل يستذكر: عبد الناصر وقمة اللاءات الثلاث
14/09/2020

حسنين هيكل يستذكر: عبد الناصر وقمة اللاءات الثلاث

ايهاب زكي

يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل واقعة حدثت في الخرطوم إبّان القمة التي عُرفت لاحقاً بقمة اللاءات الثلاث. ولأنّي سمعتها منه مشافهةً عبر برنامجٍ تلفزيوني فسأسمح لنفسي بإعادة صياغتها دون تغيير المضمون، فالاعتماد على الذاكرة لا يسعف النقل الحرفي. يقول: أثناء السفر بالطائرة إلى الخرطوم لحضور القمة العربية بعد نكسة يونيو/حزيران 67، كان الرئيس عبد الناصر يشعر بالتوتر، حيث إنّ ناصر قبل النكسة ليس هو بعدها، فالخدش الذي أصاب كبرياءه سيشجع من لديه نوايا استسلامية على إعلانها، ومن ضمنهم الملك حسين والرئيس اللبناني شارل حلو، حيث عبّرا -على انفراد- في لقاءات مع مسؤولين غربيين عن نية إعلان مواقفٍ فحواها أن تذهب كل دولةٍ إلى خياراتها التفاوضية مع "إسرائيل" منفردة، وذكر أيضاً الملك السنوسي الملك الليبي، وكانت التقارير تصل عبد الناصر عن مدى الشماتة السعودية، لذلك فإنّه كان يتحسب للمواجهة الأولى مع الشامتين والمتربصين.

ويواصل شهادته حيث يقول: هبطت الطائرة في مطار الخرطوم، وكان الرئيس السوداني ورئيس وزرائه في الاستقبال، وبعد التحية قال الرئيس السوداني إنّ طائرة الملك فيصل في الأجواء وتستعد للهبوط، واقترح على عبد الناصر أن ينتظروا معاً لاستقباله. رفض عبد الناصر ابتداءً، لكنهما ألحّا عليه بشكلٍ لافت، كأنّما هناك ترتيبٌ خفيّ ليخرج مشهد الاستقبال دالّاً على انكسار التقدمية وانتصار الرجعية. في ذروة الإلحاح وصل رئيس تحرير جريدة الأخبار المصرية، وأخبر الرئيس عبد الناصر بجموعٍ هائلة من الشعب السوداني تنتظره خارج المطار، وأنّها جموعٌ هادرة باسمه قد تكون نهايتها في وسط العاصمة، فكان النبأ كأنّ جهيزة قطعت قول كل خطيب، فغادر الرئيس عبد الناصر المطار وابتعلت موكبه الجماهير، هاتفة بحياته وأنّها معه ستقاتل مهما كان الثمن والألم. وكان الموكب يسير بتؤدةٍ على خطى الجماهير التي بدت كأمواجٍ بشريةٍ لا نهاية لها، حينها خرج موكب الملك فيصل من المطار ليصطدم بهذا المدّ البشري الهائل، فالتفتت الناس لوجوده فهتفت بخيانته، وما يطهره من الخيانة فقط هو اتباع ناصر، وكما يقول هيكل فقد تجاوزت معه الجماهير في هتافها. انتهى الاقتباس.

 خرج المشهد عكسياً، فبدل أن يخرج المشهد بانتظار عبد الناصر لوصول طائرة فيصل، ثم انتظار فتح الأبواب ونزوله من الطائرة، بكل ما فيه من دلائل، كان موكب فيصل يسير خلف موكب عبد الناصر، وتخوّنه الجماهير، وألّا سبيل أمامه للتطهر من الخيانة سوى اتباع خطى ناصر. وهذا المشهد بكل ما فيه من وفاءٍ وعنفوان، ساهم بإصدار بيان اللاءات الثلاث، حيث استعاد عبد الناصر سطوته المعنوية التي جعلت من أتى ليعلن استسلامه يتراجع. ومن هنا يثور التساؤل على سبيل المقاربة، ففي ذروة الهزيمة والتغول "الإسرائيلي" لم يتجرأ بعض العرب على التطبيع وإعلان نواياهم الاستسلامية، رغم أنّهم أتوا للقمة ليعلنوا ذلك اعتماداً على نتائج النكسة أولاً، وعلى انكسار ناصر ثانياً، فكيف يفعلون في قمة الانتصار وذروة الوهن الصهيوني وعلامات الهشاشة الأمريكية؟ هل هي كاريزما ناصر أو حلمه الذي شاركه الجماهير، أم هي الجماهير كانت أكثر وعياً، والتي لم نعد نسمع لها اليوم رِكزاً؟ أم هو تمسك الرسمية التمثيلية الفلسطينية بفلسطين كاملةً وبالبندقية وسيلة؟ أمّ أنّ النفط لم يكن متغولاً إلى هذا الحدّ، فقد كان ناصر كالسد العالي الذي تتكسر عليه فيضانات النفط، حيث إنّ أهم قاسمٍ مشترك بين كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة هو النفط، أمّ كلها أسبابٌ مجتمعة؟

وبغض النظر عن كل الأسباب فإنّ المسار الاستسلامي المعلن الذي نراه اليوم لا يمكن وقفه، وسيعمل المستسلمون على أن نألف تلك السحنات الصهيونية الكئيبة ونتآلف مع رائحتهم النتنة، وسيعملون على شيطنة الفلسطيني كشعب، وشيطنة كل من يقاوم عربياً وإسلامياً حتى ولو بشقّ كلمة، وقد تخرج الجماهير في أبو ظبي أو الرياض والمنامة لاستقبال موكب نتن ياهو من باب الاعتذار عن استقبال موكب ناصر في الخرطوم، ولن يتوانوا عن استخدام أرذل الوسائل لتبرير إشهار سوءاتهم على الملأ. ولكن وكما يقول تشرشل "من أراد أن يفهم السياسة عليه فتح كتاب التاريخ"، فما يحدث اليوم هو المسار الطبيعي والإجباري لإنهاء الصراع، ففي الصراعات الكبرى والمصيرية لا تسمح النواميس الكونية ببقاءٍ أحدٍ على التلة، انتظاراً لتميل الكفة لأحد الطرفين، بل تستوجب نزول الجميع عنها للاصطفاف في خندقه الحقيقي، ووادي الصراع حالياً في انتظار جميع النازلين، لذلك وحسب كتاب التاريخ، فإنّ المعركة الأخيرة في سباقٍ مع مدى وقاحة الواقفين على التلة، في سرعة النزول والاصطفاف في خندق "إسرائيل"، ولن يكون هناك من جماهيرٍ تكبح جماح المستسلمين عن إشهار استسلامهم كما حدث في الخرطوم، والفرق الوحيد أنّهم قديماً حاربوا ناصر علناً لحماية "إسرائيل" سراً، بينما اليوم يتحالفون معها علناً لتحميهم سراً وعلناً، وتغيير الوظيفة الكيانية لا يعني تغيير المصير.

التطبيعجمال عبد الناصر

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة