ramadan2024

مقالات مختارة

عن الخطّة (ب) وكسر الحصار: «لن نجوع وسنقتل عدوّنا»!
04/05/2021

عن الخطّة (ب) وكسر الحصار: «لن نجوع وسنقتل عدوّنا»!

صادق النابلسي (أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية) - صحيفة الأخبار


لا أحد من الكبار في السلطة قديماً وحديثاً راودته الرغبة في الذهاب إلى البقاعِ الأقلِّ حظاً وحظوة في الجغرافيا اللبنانية. المناطق هناك ملعونة لا تثير رد فعلٍ إنساني من مسؤولين يجدون كل متعهم في العاصمة، ومدن النعيم الموزّعة على أكتاف جبل لبنان. الخارطة الاجتماعية واضحة. فالبلد مقسّم بفعل الخطوط العبثية التي رسمها الاستعمار بين المناطق حيناً، وبين الطوائف حيناً آخر. ثم جاءت السياسة، بكل مفسديها لتغلق في وجه المعذّبين على تلك الأرض غير الواسعة، سبل الحياة الكريمة، واختَلَقت تلك الكلمة الغبيّة «النأي بالنفس» التي زادت من البطون الغرثى والأكباد الحرّى والمقتولين يأساً وأسىً. الجغرافيا لا تكبّد نفسها عناء الفرار من حياة البؤساء. والبؤساء لا يجدون حيلة لسدّ الرمق إلا تبادل السلع التي تتفاوت قيمتها على ضفاف هذه الأمتار القليلة المتقابلة.


منذ أن نشأت الحدود تجري الأمور هناك على هذا المنوال. الجوع أيقظ مَلَكاتِهم ومهاراتهم في هذا النوع من الروابط والتجارات، بعدما أعرضت الدولة ومنظمات حقوق الإنسان عن التعامل معهم كبشر. فلِمَ يحتاجون إلى تبرير أفعالهم لمن أقعدتهم التخمة عن سماع حكايات شقائهم؟ ليس متعذّراً علينا أن نعيّن ما هو نقيض تلك الجغرافيا الحدودية المتاخمة لسوريا في الشرق والشمال. كل الأماكن الأخرى هي نقيضها. ولسنا هنا في معرض ترتيب المكانات بين المناطق، لكن سوء طالعها بدأ منذ أن تشكّلت ذاكرة تتزين بزيفها فتطلب أن يكون الأشقاء في عداء مرير، قبل أن تنفتح عيون الوكلاء عندنا على مصراعيها التي تدعو إلى توسيع صلاحيات القوات الدولية لتشمل الحدود مع سوريا، بناءً على القرار 1701. ما هال هؤلاء انخراط حزب الله في الحرب ضد التكفيريين، وإفشاله مخططهم وإبطاله نبوءتهم. منح الوكلاء المحلّيون كل ما اشتهته أميركا وإسرائيل والسعودية وقوى «المجتمع الدولي» التي تتحفنا دائماً بسنّ المعايير وبناء التصورات واجتراح المصطلحات التي على أساسها، على العالم أن يستجيب لها استجابة كاملة وإلا خضع للتأنيب والحصار والعقوبات والعزل والطرد من جنة الحكم والوجاهة السياسية.
أخبار هذه الزمرة من الوكلاء يجب أن تُقرأ بحذافيرها. كيف كانوا يرتجفون مثال الدودة عندما يأتي الاتصال الخارجي أو يأمر السفير وتتمنى السفيرة؟ لم يكن آنذاك «تهريب» آلاف النازحين جريمة. لم يكن «تهريب» آلاف المسلحين التكفيريين جريمة. لم يكن «تهريب» أطنان من السلاح ونيترات الأمونيوم جريمة. الفجوات التي تركها نظامنا السياسي الأرعن لتعبر منه المواد الطبية والغذائية والكهربائية والمشتقات النفطية ورزم الدولارات إلى «الثورة السورية»، لم تكن جريمة. كان كل ذلك مشروعاً وضمن القوانين اللبنانية المرعية الإجراء، وفي إطار الاتفاقات الدولية التي تراعي حقوق الإنسان ويلتزم بها لبنان! من أين يأتي كل هذا النزق؟ لم يكن وقتها مطلوباً التشديد والتشدّد، ولا نصب الأبراج ولا إنشاء فوجٍ للحدود، ولا مَن يقتفي الأنفاس ويسجّل بدقة كل خطوات العابرين ذهاباً وإياباً. ما يبدو اليوم غريباً وغير مشروع كان إبّان اشتعال «الثورة» هو العدل والصراط المستقيم وما يمليه الواجب الإنساني والوطني! لأنّ مَن كانت تصلهم التحويلات المالية والنفطية ومَن كان يكتب التقارير لمن ينتظر وراء البحار كان يظن أنّ آكلي الأكباد سيمسحون السيف من دم حزب الله الذي سينتهي تحت قبضة سكاكينهم من الجهتين اللبنانية والسورية ويقفلون ملفه إلى الأبد.
أولئك الذين خسروا رهاناتهم على هزيمة سوريا واندحار المقاومة، جاءت إجراءات الحصار والعقوبات الأميركية لتحاول ترميم أحلامهم المهزومة. كان يفترض بالانهيار الاقتصادي أن يضرب عمق هذا الحزب، ويجفّف موارده، ويحدّ من قدراته، ويُوقف انسيابه تجاه الجبهات الداخلية والخارجية، ويوسّع لديه مساحة اللايقين وإحساسه بالقلق الوجودي. أعطي الإذن ببدء حرب هجينة ترسم لحزب الله الهشاشة التي لا يستطيع توقع نهايتها. تُقطع الطرقات، تُوصد أبواب المصارف التي تمدّ بيئته بالمال، تُغلق سبل العيش، تُقلّص تحويلات المغتربين، تُضرب المؤسسات الإنتاجية، وبعدها ستتوالد الأزمات وتتكاثر لتضغط عليه وتهدد مناصريه بالجوع والعزل.

لكنّ الخطة باء التي ترك الأمين العام لحزب الله أمر تنفيذها إلى وقتها المحدد، حملت طابع الحسم «لن نجوع وسنقتل عدونا»! حزب الله هو الأقدر على استكشاف المهمات الصعبة، وما صنعه من إنجازات طموحة يتجاوز الحالة اللبنانية إلى ما يحقق أغلى أهداف شعوب المنطقة المرتبطة بالتحرر من قيود الاحتلال والاستعمار. والسيد نصرالله هو الأشجع في التعبير عن أحلام وتطلعات هذه الأمة وليس فقط مناصريه وأبناء مذهبه، عن طريق جرأته في قول ما يعتقد بأصدق ما يكون القول، وبرفضه الزيف والخنوع والضغوط. لذلك كان جادّاً عندما قرر اتخاذ كل إجراء لكسر الحصار الظالم على لبنان إذا استمرت الأوضاع السياسية والاقتصادية متجهة نحو القعر.
هذا الموقف الشجاع من السيد نصرالله يضيف جديداً إلى الالتزامات التي تتراكم على حزبه منذ أن نشأ، فيما أحزاب أخرى تقف على حافة القضايا الكبرى تستمتع بطعم البطالة. دوي المدافع الاقتصادية يزداد قوة وصخباً وقرباً، ونيران العقوبات تشتد اضطراماً، والشعب الذي أصيب في عمق كبريائه يسأل ماذا أنتم فاعلون؟

حزب الله الهادئ في قمة عنفوانه، يعلم بحاسته البعيدة أنّ أحداً ما يحضّر لمتغيرات اجتماعية نوعية هذه المرة، لإرساء معادلة الردع المرجوّة. كل جهود السنوات الماضية أخفقت في إيقاف مسار الحزب العسكري فلتكن الأزمة الاقتصادية معضلته وضائقته، كما يقول الصهاينة، فهذا سيقود إلى تغيير قواعد الاشتباك في لبنان! لكنّ الحزب يمضي في مسار «بناء تحت النار» عسكرياً واجتماعياً. تجهيز المخازن بالمواد الاستهلاكية الضرورية يسير بموازاة تجهيز الخنادق والأنفاق وملئها بالصواريخ الدقيقة. المعركة واحدة في بعدَيها العسكري والاجتماعي وعلى الحزب أن ينتصر كما انتصر في المرات السابقة، وإن حملت الاستعدادات الجديدة موجة عنيفة من الانتقادات والتهم والأكاذيب.
تشويه صورة حزب الله ليست جديدة. التشويش على علاقاته المحلية والخارجية مألوفة. التشكيك في شرعيته وخرقه للسيادة استيهامات من الصعب معالجة منطقها. فهل كان على الحزب أن يقف مكتوف اليدين على مجموع الاعتداءات الإسرائيلية ولا يواجه بالسلاح همجية المحتلين حتى لا يقال إنّ الحزب دولة ضمن الدولة؟ وهل كان على الحزب أن يدفن رأسه في الرمال أمام خمسين ألف تكفيري في مدينة القصير السورية يتجهزون لاقتحام الأراضي اللبنانية، حتى لا يقال إنّ الحزب خرق السيادة اللبنانية وتجاوز الحدود وانخرط في الأزمة السورية من دون إذن المؤسسات الرسمية؟ واليوم هل على الحزب أن ينتظر الجوع يهدد اللبنانيين فيقف موقف البائس الضعيف ولا يتدخل لكسر الحصار وتفكيك العقوبات حتى لا يقال إنّ الحزب «يهرّب البضائع»؟ فليقل أهل الضغينة والسوء ما يقولون، الحزب لا يبيع الله ليربح لقباً مزيفاً، ولا يتخلى عن كرامات الناس من أجل أن ينتشي بمديح هنا وثناء هناك. شروط الإقامة في منازل الحق تتطلب أن يتغافل الحزب عن وصفه بالإرهابي تارة وبالذراع الإيرانية تارة أخرى... أو «البلطجي والشبيح»، مرة والمهرّب أخرى، أو بتبييض الأموال وتجارة المخدرات كما تحلو النعوت لمن يتحول إلى «قط عند قدمَي ملكة».

صحيح أنّ حزب الله ما كان بمقدوره أن يفعل ما يفعل لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي والتكفيري واستقدام السلاح المتطور والانخراط في الحرب السورية حتى أصبح جزءاً من معادلات إقليمية، ولا توزيع بطاقات «سجاد» وتوفير السلع الأساسية وربما غداً استجلاب شحنات البنزين والمازوت لتمكين الشعب اللبناني من الصمود، لولا الهشاشة التاريخية للنظام الطائفي. المحرمات في لبنان لم تكن صارمة في يوم من الأيام. الدولة لم تكن لشعبها، والسلطة لا تغادر سراديبها الطائفية المقيتة، والاهتراء تزيد مساحته اتساعاً وامتداداً، والأرض السياسية خريطة غير مستقرة، وجنى عمر الناس جعله الفاسدون في رمشة عين كعصف مأكول.

لكن كل هذه الالتباسات بين دور الدولة المفقود، ودور الحزب الحاضر، لا تغير من الحق شيئاً. القوانين خُلقت لكرامة الإنسان ولم يُخلق الإنسان لكرامة القوانين! لا يعاب حزب الله عندما يستقدم السلاح لمواجهة الغزاة عندما تتخلى الدولة عن حماية شعبها ويحاصرك المستكبرون لتخضع لشروطهم. ولا يعاب حزب الله عندما يأتي بالطعام وكل سلعة ضرورية، عندما تفشل الدولة بتأمين احتياجات الناس، أو تنهار بفعل تصادم أركانها، أو حين يضعك المتجبرون بين خيارين: إما الجوع أو الخضوع والقبول بشروطهم.

عندما تنجح الضغوط الاقتصادية بدفع البلد إلى الانهيار وتقف برامج المساعدات الخارجية، وعندما يتم الضغط على العملة المحلية ويتحرر سعر الصرف حتى يصل إلى مستويات مجنونة، وعندما يُمنع اللبنانيون من تشكيل حكومة إلا عندما يلتزمون بتوصيات صندوق النقد الدولي التي تهدف للإمساك بمقدرات لبنان القائمة والمتوقعة، وعندما تصعّد أميركا وحلفاؤها من مستوى الحرب النفسية والإعلامية والسياسية، لإجبار اللبنانيين على ترسيم الحدود البحرية وفق التصور الإسرائيلي، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وعندما يتم تقويض أسس الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي، فلمَ لا يذهب حزب الله إلى الخطة باء؟

زوبعة هوجاء ثارت حول مقابلة مع «قناة فرانس 24»، قلت فيها إنّ التهريب «جزء من عملية المقاومة». قلت ذلك في سياق الحديث عن كيفية تفكيك عقوبات قيصر التي تضرر من جرائها اللبنانيون والسوريون على حد سواء، وهذا لا يعني أن المقاومة تقوم بفعل التهريب. ولم يكن سياق الحديث يرتبط بذاك التهريب الذي يجرّم عليه القانون، وإنما في إطار البدائل التي يذهب إليها الناس عندما يتعرضون لضائقة معيشية وحصار خانق، في ظل عجز الدولة عن تأمين الحلول الحاسمة. القصد من هذه الكلمات ليس الرد ولا الدفاع، فكل كلمة تصدر مني هي سجل ثابت عليّ أمام الله والمستمعين والمشاهدين والقارئين. وكنت سلفاً قد قدّرت تبعات ما أقول. سواء ذلك الذي نُقل أو ما أغفل نقله عمداً. مؤمن بأنّ أي رأي أبديه يقبل الصواب والخطأ ولا يستعلي على المناقشة والنقد. ولم أمارس في ذلك كله إلا الشفافية في مقاربة الموضوع، بلا خوف، والصدق في انتمائي إلى مشروع المقاومة.

إنّ مفهوم «التهريب» لا يحمل بنفسه ذماً وقدحاً واستنقاصاً، ولا مدحاً وتنويهاً وإطراء، وإنما هو مفهوم محايد. ولقد جادلني بعضهم بأنّ إتيان المقاومة بالسلاح وخلافه لا يسمى «تهريباً» وإنما «نقلاً». وهذا لا يؤكد إلا أنّ كل واحد منّا اعتاد أن ينظر إلى الأشياء من خلال إطار فكري يحدد مجال نظره. كما أني لستُ ناطقاً باسم الحزب حتى أتعهد الالتزام بما يتدرب عليه الدبلوماسيون، وإنما أزاول المرونة بعيداً عن أي محظور في ما أعتنقه من قناعات سياسية. لكنّ المسألة، في ظني، أكبر من رأي أُبديه في إطار دور محدود لا يتعدّى الكتابة السياسية، والنشاط الإعلامي الذي يقوم به أمثالي من أساتذة الجامعات. فمن لا يستطيع فهم ضغوط الصراع على المقاومة ومحورها، وهذا الانزياح في موازين القوى الذي يهدد صدارة أميركا ونفوذها وقوتها وكل من يدور في مدارها، لن يهتم ببناء تصور لما يجب أن تكون عليه أوضاع الجغرافيا وأوضاع الناس في بلدنا وبلدان عربية شقيقة أخرى. على الناس أن يكسروا الحصار الظالم على لبنان وسوريا. وهذا مدخل لكسر الفكرة الاقتصادية الرأسمالية التي تقوم على الاحتكار، وتؤكّد أن لا طريق لسد جوعنا وحاجاتنا إلا الغرب. «التهريب» الذي قصدته هو أن تعيد بلداننا وشعوبنا تعريف نفسها اقتصادياً واجتماعياً بعيداً عن وصفات الذل الدولية وسياسات الاستجداء، قبل أن يقع بلدنا في عهدة انتداب من نوع جديد تصادر فيه أصوله وموارده وثرواته... بل قبل أن يصل جحيم الجوع إلى أطفالنا ليتحول المشهد الداخلي بعد ذلك إلى لعبة أشد هولاً من لعبة القبائل.

ختاماً، إنّ الجيوبولتيك الذي لا يهمّ الرازحين في زوايا الظلمة الطائفية الضيقة، يجيب عن سؤال المستقبل. مستقبل لن يكون إلا لأهل هذه الأرض الممتدة من البحر إلى البحر. «لأنّ الخرائط ـــ كما يقول المؤرخ الفرنسي فرنان بردويل ـــ هي التي تروي القصة الحقيقية»!

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة