آراء وتحليلات
العلاقة الأميركية الأبدية مع شركات المرتزقة المقوننة
عبير بسام
في السابع عشر من هذا الشهر، صرح المستشار الألماني أولاف شولتس، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولنبرغ، أن لا تدخل عسكريا من قبل "الناتو" في أوكرانيا، ولكن الغرب سيواصل تقديم الدعم المالي والإنساني، إضافة إلى الإمدادات العسكرية. ولنضع خطين تحت الإمدادات العسكرية، وخاصة بعد كل ما كتب وقدم وشرح عن وجود معسكرات تدريب يشرف عليها "الناتو" في أوكرانيا وعلى الحدود مع بولندا، أو الذي كتب عن دخول المرتزقة من جميع أنحاء العالم: من جنوب أفريقيا جنوبًا، وحتى السويد وأيسلندا وكندا شمالًا.
الأخبار لا تقف عند هذا الحد، فقد عاد منذ أيام، بحسب لوموند الفرنسية، المواطن الفرنسي "آلان بيغل"، البالغ من العمر 57 عامًا، والذي انضم للفيلق الأجنبي في أوكرانيا مؤخرًا. من المفترض أن بيغل يعمل كمصور، وقد قرر التطوع بعد أن سمع "نداء" الرئيس الأوكراني فولديمير زيلنسكي. عاد بيغل بعد أن استهدفت الطائرات الروسية القاعدة العسكرية التي استقبلت المقاتلين الأجانب في يافوريف في أوكرانيا والتي تبعد 20 كم من الحدود البولندية في 13 آذار/ مارس. ويقول بيغل: "إن البقاء في أوكرانيا، دون أسلحة ودون ذخيرة، يعتبر انتحارًا".
وكانت "سبوتنيك" قد تناولت اتهام الصحافة الألمانية للولايات المتحدة في 15 أيار/ مايو 2014 بالتدخل في المعركة في أوكرانيا ضد روسيا آنذاك، وبإدخال المرتزقة الأميركيين المدربين تدريبًا عاليًا، معتمدة على ما جاء من أخبار فضحتها وكالات الأنباء، ثم نشرت التقارير حولها كل من بيلد آم زونتاغ ودير شبيغل.
وقالت الصحيفتان إن حوالي 400 من الكوماندوز من النخبة العسكرية التابعة للشركة العسكرية "أكاديمي، Akademi"، والمعروفة سابقًا باسم "بلاك ووتر"، قد شاركوا في عملية تحت مسمى "مكافحة الإرهاب" والتي شنها الجيش الأوكراني ضد شعبه في شرق البلاد وجنوبها. ووفقاً لبيلد آم زونتاغ، فإن قوات "الأكاديمي" قد شاركت آنذاك (آذار/ مارس 2014) في العملية العقابية بالقرب من مدينة سلافيانسك، والتي يتركز فيها نشطاء مناهضون لزيلنسكي وحكومته في منطقة الدونيتسك. وبحسب الصحيفتين فإن وكالة الاستخبارات الفيدرالية الألمانية أُبلِغت بما يحدث من قبل الأميركيين، وأن كلاّ من إدارة أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، وبيتر ألتماير، رئيس المستشارية الفيدرالية، كانا حاضرين في سلسلة من الاستشارات الاستخباراتية مع الأميركيين آنذاك.
ما جرى حقيقة في 15 أيار/ مايو من العام 2014 يتوافق تمامًا مع نوعية التدخل الذي يدعو إليه "إريك برينس" مؤسس "بلاك ووتر" ورئيسها السابق، وهو ضابط سابق في البحرية الأميركية، إذ حث "برينس" في لقاء له على "فوكس نيوز" في 24 شباط/ فبراير الماضي، على عملية عسكرية جوية سريعة ضد روسيا في أوكرانيا تشبه العملية التي قام بها طيارون من سلاح الجو الأميركي في العام 1939، والتي دُعم بها الجيش الصيني في وجه سلاح الجو الياباني، ويومها أستأجرت الصين عددا كبيرا من الطيارين والطائرات الأميركية للوقوف في وجه الطيارين اليابانيين. وهذا الكلام الخطير مرتبط وبشكل وثيق بتاريخ العمل العسكري المتعلق بالقطاع الخاص في الولايات المتحدة. ويرى "برينس" أن هذا النوع من العمليات يوفر الكثير من الأموال على خزائن الدول التي تستعين بخدمات الشركات الخاصة في إنجاز مهمات قد يحتاج أي جيش نظامي لإنجازها إلى إنفاق أموال طائلة مع تلقي خسائر في الأرواح يمكن تفاديها.
لكن الأسئلة المطروحة حول عمل شركات المرتزقة في أوكرانيا تتجاوز "بلاك ووتر"، إلى شركات أخرى نبه من تواجدها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في نيسان/ أبريل من العام 2014، في حديث له لوكالة بلومبيرغ". حيث قال إن هناك 150 من الكوماندوس الأميركيين من شركة مقاولات عسكرية خاصة ثانية، وهي "غري ستون، Greystone"، قد تم نشرها في شرق أوكرانيا لمساعدة السلطات الأوكرانية في قمع الاحتجاجات. "غري ستون" نفت ذلك، ولكنها قالت إن لديها القدرة على نشر منظوماتها ومقاتليها في أي مكان من العالم.
تاريخ الارتزاق في الولايات المتحدة قديم جدًا. تاريخ يرويه "برينس" ليؤكد أن الآباء المؤسسين في الولايات المتحدة لم يكونوا سوى مجموعة من المرتزقة أو تم شراء خدماتهم، وهم أسسوا الأفواج الأولى للجيش الأميركي، تمامًا كما أسست العصابات الصهيونية في فلسطين قلب جيش الاحتلال. وهو المبدأ الذي تقوم عليه الشركات العسكرية الخاصة، بأن تقوم بتوظيف جنود سابقين في الجيش، أو متقاعدين عسكريين في الخمسينات من العمر والذين لا يجيدون أي عمل آخر، وهذا يحدث في الشركات الأمنية حول العالم.
من أوائل هؤلاء كان على سبيل المثال الكابتن "جون سميث" والكابتن "مايلز ستانديش". كان كلاهما جنديا في الجيش البريطاني. استخدمتهما شركة فرجينيا للاستكشاف وعلم الخرائط، التي قادت الاكتشافات فيما سمي فيما بعد بولاية فيرجينيا في العام 1606. وُظِف الكابتن "سميث" في البداية لحماية بعثاتها، ثم أصبح بعد ذلك عمدة مستوطنة "جيمس تاون" وأدميرال انجلترا الجديدة "نيو انجلند". قبل ذهابه إلى "نيو انجلند"، قاتل "سميث" العثمانيين مع الأستراليين، ثم تم أسره قبل أن يعود إلى فرجينيا. والمثال الآخر، الكابتن "ستانديش"، كان جندياً أيضاً، استخدمته شركة "بليموث"، ووظف من قبل "مغامرو ميرشانت" لمرافقة الحجاج إلى فلسطين على سفينة "ماي فلور". و"مغامرو ميرشانت"، هم مجموعة من مجلس العموم البريطاني وعلى راسهم "ناثنيال ريتش" وهو أحد المساهمين في مجلس "بليموث" في "نيو انجلند" وواحد من أهم أصحاب الأسهم في شركة "فرجينيا" للاستكشاف وعلم الخرائط. وأخيراً تم تعيينه كقائد لجيش الدفاع عن مستوطنة "بليموث" في العام 1620. وعلينا هنا ان نلاحظ أن أسماء المدن التالية: "ماساشوستس"، "بليموث"، "جيمس تاون" وغيرها الكثير، كانت عبارة عن شركات خاصة استخدمت مرتزقة لحماية مصالحها على طول أراضي الولايات المتحدة الأميركية.
بعد أن نالت أمريكا استقلالها في العام 1775، اذ كانت حتى ذلك العام مستعمرة تحكمها الشركات الخاصة وتحميها المرتزقة، بقيت هذه المليشيات التي شكلها المستعمرون الأوائل تحمي المستوطنين، ثم أصبحت لاحقًا نواة الجيش الأميركي. وهنا يمكننا أن نورد مثالين هامين، الأول، أن ميليشيا مستوطنة "ماساشوستس"، أصبحت في العام 1775، أول وحدة في الجيش الأميركي، وهي ما تزال موجودة حتى اليوم وتحمل الشعار نفسه. ومن الأفواج التي تحمل الشعار نفسه فوجا الشمال للمشاة: الأول 181 والثاني 182، وفوج المدفعية الأول الجنوبي 101، وفوج الشرق الأول للمهندسين 101. وكذلك تحمل الشعار أفواج البحرية الأربعة في "ماساشوستس".
وأما المثال الثاني عن استخدام المرتزقة، فهو استخدام الرئيس الأميركي ابراهام لنكولن في العام 1861 وخلال الحرب الأهلية الأميركية لخدمات متعاقد خاص، وهو "آلان بنكرتون"، من أجل التجسس على مصادر العدو في الجنوب. وهو مدير شركة المخابرات الأميركية والاستخبارات المضادة خلال الحرب الأهلية. وقام "بنكرتون" بالتأسيس لـ "مخابرات سرية" جمعت المعلومات العسكرية من الجنوب. بعد نهاية الحرب عينه لينكولن ليرأس الاستخبارات المضادة في وجه الجواسيس الفيدراليين، وقد كان عمله فعالاً جداً في وجه التجسس الفيدرالي لولايات الجنوب.
على الجانب المقابل للبيت الأبيض تقع حديقة "لافييت"، حيث توجد أربعة تماثيل كبيرة لجنود منهم اثنان فرنسيان، أحدهم "لافاييت". عمل الأربعة تحت إمرة الجنرال جورج واشنطن، وينسب لهم فضل تحرير واشنطن دي سي من البريطانيين. وقد أصدرت الثورة الأميركية رخص صيد لمجموعة من "القراصنة، Privateers"، كانوا يبحرون بسفن خاصة وطاقم خاص ووظيفتهم مهاجمة سفن القطن البريطانية بهدف خنق مصادر العدو. تم ذلك عن طريق اصدار وثيقة بعنوان "خطاب ماركين الانتقامي، the letter of Marken reprisals"، والتي ما يزال الكونغرس الأميركي قادرًا على إصدارها حتى اليوم والسماح للقراصنة بمهاجمة السفن المعادية لأميركا.
يرى "برنس" في العمليات العسكرية التي قادتها أميركا في اثنتي عشرة دولة منذ العام 2000 وحتى اليوم، أنها بدون فائدة وجل ما فعلته هذه العمليات هو خلق حالات من التمرد والفوضى في دول تعد في الأساس دولا فقيرة ويسميها "دولا فاشلة"، أو هي في حالة الذهاب نحو الفشل بسبب التدخل الأميركي. ومنها العراق وسوريا وباكستان وسيناء/ مصر وليبيا ونيجيريا والصومال وجنوب السودان ومالي والنيجر. خسرت فيها الولايات المتحدة وبريطانيا حتى اليوم حوالي 7000 جندي وحوالي 70000 مصاب، وخسائر مادية تقدر بـ 10.1 تريليون دولار اميركي. لكن الخسائر الحقيقية لهذه الحروب لم تتضح جليًا حتى اليوم، إذ إن نتائج الخسائر التي مني بها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية لم تظهر بشكل نهائي حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024