طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

الضعف الأوروبي وأسبابه (2): تعدّد رؤى وانقسامات في المواقف
30/03/2022

الضعف الأوروبي وأسبابه (2): تعدّد رؤى وانقسامات في المواقف

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي

في كل مرة يدور فيها الحديث عن أوروبا ودورها، تتبادر الى الذهن فورًا، صورة الراكب المستمتع بالجلوس في مقصورة القطار الأميركي. على الدوام في جميع الأزمات التي مرّت على الاتحاد الأوروبي من تاريخ نشأته حتى يومنا هذا، وآخرها ما يحدث في أوكرانيا، كانت المبادرة في جميع الخطوات لواشنطن، فيما عواصمه تكتفي بشخصية الكومبارس، يرددون وينفذون ما يمليه عليهم المايسترو العم سام، والعقوبات الأخيرة على موسكو شاهد على ذلك، بالرغم من تعارضها مع مصالح العديد من الدول الأوروبية كما أقرّ قادتها كألمانيا مثلًا.

 عند استحضار الحضور الفعلي لأوروبا في المؤسسات الغربية كحلف شمال الاطلسي، نجد هذا الدور واضحًا في التركيبة المؤسساتية للحلف. فمهمة القيادة العسكرية الفعالة للحلف منذ تأسيسه في عام 1949 لغاية الآن، ممثلة في SACEUR، القائد الأعلى للحلفاء في أوروبا المتمركزة في بلجيكا، لا تزال تقع على عاتق البنتاغون، في حين أن ادارته المدنية كانت تدار من قبل الأوروبيين.

قبل عقود، مرّت محاولات تمرد أوروبية على الحلف، غير أنه جرى احتواؤها فيما بعد، وذلك عندما انسحبت فرنسا فقط، بقيادة الرئيس شارل ديغول، مؤقتًا من هياكل قيادة الناتو في عام 1966، فأُعيد دمجها في عام 2008 في عهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي تربطه قرابة أسرية بفرانك ويزنر الثاني، ابن مدير التخطيط المؤسس لوكالة المخابرات المركزية، وهو ما أثار بعض الجدل في فرنسا. أما حاليًا في ظل هذه الظروف، فمن المشكوك فيه ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يمكن أن يقال إنه يتمتع بالسيادة الكاملة.

هل يمكن لأوروبا ضمان أمنها الجماعي بنفسها؟

في الآونة الأخيرة، أعلنت دول الاتحاد الأوروبي، التي صدمت من العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، عن زيادات كبيرة في ميزانيتها العسكرية تتماشى مع الحديث المتزايد عن لجنة الاتحاد الأوروبي "الجيوسياسية" التي أعلنتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وكذلك عن "الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي"، وهي نقطة حوار مفضلة لدى الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون.

في الوقت نفسه، طرح قادة العواصم الأوروبية سؤالًا حاسمًا فيما بينهم، حول ما إذا كان قد فات الاوان على خطواتهم تلك. أما الدافع الذي قادهم الى هذا التغيير الجذري، (الانتقال نحو العسكرة) فهو المعضلة التي وقفوا عاجزين أمامها وتتمثل بالسؤال الآتي: في عام 2022، ما مدى مصداقية ضمان التزام "الناتو" بالدفاع الجماعي المنصوص عليه في المادة 5 من ميثاق الحلف؟

تعمد الأميركيون عند توقيعهم على المعاهدة إضعاف الصياغات من خلال تعديل عبارات مثل "مثل هذه الإجراءات التي تراها ضرورية"، حتى لا تختصر سيادة الكونغرس الأميركي. وقد يعني ذلك، أن الوفاء بالالتزامات المنصوص عليها في المادة 5 يعادل رسميا إرسال خطاب احتجاج.


ماذا عن قدرات الجيوش الاوروبية؟

عمليًا، تعيش الجيوش البرية الأوروبية التي شعرت باليقين من نهاية الصراعات العسكرية مع روسيا بعد نهاية حلف وارسو في حالة رهيبة، حيث أنفقت جميع ميزانياتها في العقود الماضية تقريبًا، على فيالق البعثات الاستكشافية لفرق "حفظ السلام" التابعة للاتحاد الأوروبي في الخارج.

وفي هذا الصدد، صرح جنرال ألماني سابق في حلف شمال الأطلسي مؤخرًا وبلغة صريحة، أن الجيش الألماني غير قادر ببساطة على الدفاع عن نفسه ضد روسيا. بينما لم يكن أداء الجيش الفرنسي أفضل بكثير: يقول تقرير برلماني حديث إن صواريخ فرنسا ستنفد بعد يومين من حرب برية واسعة النطاق ضد روسيا. بالإضافة إلى ذلك، ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تكون القوة العسكرية والنووية الثانية في الاتحاد الأوروبي قد غادرت، وهي خطوة تلقي بظلال من الشك أيضًا على جدية التزامات الناتو في حالة الحرب.

في ضوء هذا الضعف الأوروبي، فإن السؤال الملح الواضح هو: هل يخاطر الأمريكيون - الذين يواجهون تصعيدًا عسكريًا روسيًا في أوروبا - بوضعهم كقوة عظمى في حرب مدمرة محتملة ضد روسيا، وبالتالي يتركون التاريخ للقوى الناشئة مثل الصين والهند؟ ففي حسابات واقعية كلاسيكية، قد يكون التحرك الروسي غربًا كافيًا لتحييد كل من روسيا والقوى الأوروبية لعقود قادمة، وبالتالي إضعاف كليهما، وإنهاء التهديد الذي هيمن على الوعي الجيوسياسي من ماكيندر إلى بريجنسكي باعتباره التهديد الرئيسي للقوة البحرية الأنجلو ــ أميركية.

في سياق آخر، هناك بلدان معادية لروسيا بشكل "فاقع" مثل بولندا ودول البلطيق، والتي تمنع أي تقارب مع روسيا على الرغم من سياسة اليد المفتوحة للرئيس فلاديمير بوتين منذ توليه منصبه.

وعلى الضفة الاخرى، نرى ألمانيا غير القادرة على القيادة والحكم مع نخبها "المعاد تعليمها" والتي تعاني من الصدمة على الدوام وتدجينها بسبب الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. وأخيرًا، تقف فرنسا مقيدة بطموحاتها المبالغ فيها التي تتناقض بشكل حاد مع المستوى المتوسط لنخبها.

وعليه، فإن كل هذه الانقسامات السياسية والاجتماعية تحول دون اتخاذ خطوات أكثر جرأة نحو التوحد، من هنا، فإن تفكك الاتحاد الأوروبي وسط الميول القومية الجديدة سيشكل انتحارًا استراتيجيًا للقوى القارية.

 حتى الدول الأخرى، تستفيد من هذا الانقسام، إذ يُعرف الصينيون والأمريكيون والروس، بالفعل، برفضهم التحدث إلى الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي، بل يفضلون الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأوروبية لتقسيم القارة على نفسها.

حاليًا لا بيدو أن الاوروبيين لديهم - بمن فيهم القوميون المتطرفون مثل إريك زمور - رؤية موحدة لصياغة استراتيجية معقولة للرد على هذا المأزق. لذا فإن البعض يعتقد أن الحل يكمن في التعددية الثقافية الأوروبية الحقيقية التي تسعى إلى تعاون اقتصادي وعسكري أوثق ونقل السيادة، مع الحفاظ على المصير المشترك والتفرد الثقافي للدول الأوروبية والتأكيد عليه.

أوروبا

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة