طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

تصاعد التوتر الاستراتيجي: هل تخلى العالم عن ضوابط الأسلحة النووية؟
14/06/2022

تصاعد التوتر الاستراتيجي: هل تخلى العالم عن ضوابط الأسلحة النووية؟

شارل ابي نادر

من يتابع مستوى التوتر الدولي غير المسبوق حول العالم، والمواقف المتشددة والتصريحات النارية  لقادة ومسؤولي الدول الكبرى حاليًا، لا يستبعد حصول ما لا تحمد عقباه على صعيد المواجهة النووية واستعمال الأسلحة المدمرة، والتي كانت لفترة خلت ومع كل حساسية حقبة الحرب الباردة وسباق التسلح التي حكمت العلاقات الدولية في الفترة الماضية، بعيدة بنسبة كبيرة عن امكانية الاستعمال. فكيف يمكن تفسير هذا التجاوز المتشدد لأغلب المعاهدات والاتفاقات أو التفاهمات الدولية التي عقدت أساسًا لتحد من مستوى امتلاك القدرات والرؤوس النووية وأسلحة الدمار الشامل، وبالتالي لتضبط امكانية استخدام هذه الأسلحة المدمرة؟

ما كشفه آخر تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام "سيبري" أنّ عدد الأسلحة النووية في العالم سيرتفع في العقد المقبل، بعد أن كان قد تراجع بنسبة ملحوظة وبالارقام الواضحة خلال الـ 35 سنة الأخيرة، برره تقرير المعهد المذكور بتفاقم التوترات المتوزّعة على المسرح الدولي، وبالعملية الروسية في أوكرانيا وتداعياتها التي تجاوزت ما كان متوقعًا من قبل الروس أو الأوكران أو الغرب بكامله أيضًا، وما نتج عن هذا الجو المحموم من توتر ولجوء أغلب الدول القادرة أو المتوسطة الى سباق تسلح جديد، بعضها لبسط السيطرة والنفوذ وفرض المصالح، والبعض الآخر بهدف حماية نفسها وردع خصومها الاقوى منها. وبات - بحسب المعهد المذكور -  "تطوير الصواريخ الخارقة، وصناعة الأجيال الجديدة من المنظومات الدفاعية بهدف السيطرة، في صدارة أجندات الدول الكبرى وحساباتها".

بالعودة الى معاهدات ضبط الأسلحة النووية والحد من امتلاكها واستعمالها، تأتي في مقدمتها والأهم من بينها معاهدة "ستارت الجديدة"، والتي وقعت بين الروس والأميركيين في اجتماع شهدته مدينة براغ، عاصمة جمهورية التشيك، في أبريل/نيسان 2010، حيث اتفق حينها الرئيسان السابقان، الأميركي باراك أوباما، والروسي ديمتري ميدفيديف على تخفيض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الإستراتيجية (العابرة للقارات) للبلدين بنسبة 30 بالمئة، والحدود القصوى لآليات الإطلاق ووسائل الاطلاق (صواريخ  وقاذفات استراتيجية وغواصات نووية) بنسبة 50 بالمئة، وحيث تتربع الدولتان (روسيا واميركا) على عرش امتلاك النسبة الاكبر من الرؤوس النووية ووسائل اطلاقها، فقد امتدت مفاعيل معاهدة ستارت المذكورة الى الدول النووية الاخرى (الصغرى)، أي بريطانيا والصين وفرنسا والهند والكيان الاسرائيلي وكوريا الشمالية وباكستان، لتخفض هذه الدول من قدراتها النووية بنسبة معقولة، وتلتزم كل هذه الدول ولو بنسبة معقولة عمليًا بالتخفيض السنوي حسب المعاهدة بشكل تدريجي حتى اليوم.

ما يجري اليوم من توتر محموم على مستوى العلاقات الدولية بشكل عام بين الشرق والغرب، وخاصة لناحية الاشتباك الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، وبين المحور المقابل بقيادة روسيا والصين وبعض الحلفاء الاقوياء عسكريًا مثل ايران وكوريا الشمالية من جهة أخرى، وضع جانبًا كل مفاعيل هذه المعاهدات الدولية الخاصة بضبط الأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الشمال بشكل عام، وبدت هذه المعاهدات دون جدوى، أولًا من الناحية الفنية التقنية العملية، وثانيًا من الناحية الاستراتيجية الأوسع، وذلك على الشكل التالي:

- من الناحية التقنية، بين أن تمتلك دولة كبرى مثل روسيا أو أميركا عدة آلاف من الرؤوس النووية وحتى دولة متوسطة مثل بريطانيا أو فرنسا عدة مئات من هذه الرؤوس المدمرة، أو أن تمتلك هذه الدول عددًا مخفضًا للنصف من هذه الرؤوس، فهو أمر لا يختلف بتاتًا لناحية مستوى الدمار الذي يمكن أن تلحقه هذه القدرات اذا ما تم استعمالها ضد دولة أخرى، فالدمار في الدولة المستهدفة سيقع بعدة رؤوس نووية ولن يحتاج الأمر للمئات أو الآلاف منها، وهذا سبب من أسباب اعتبار هذا التخفيض في عدد الرؤوس النووية دون جدوى.

- عمليًا، يبقى المعيار الأساسي أيضًا في ترجمة فعالية هذا الاستهداف النووي، في نجاح وسائل اطلاق هذه الرؤوس النووية بايصالها إلى أهدافها، كالقاذفات الاستراتيجية والصواريخ العابرة للقارات الحاملة لهذه الرؤوس النووية والغواصات النووية، وفي أنظمة الكشف والانذار المبكر وفي وسائل الدفاع الجوي ضد هذه الصواريخ الحاملة للرؤوس المدمرة. وهنا بيت القصيد اليوم في تسابق الدول النووية الى امتلاك هذه الوسائل الضرورية بهدف تحقيق ردع استراتيجي أو بهدف كسب مواجهة نووية استراتيجية، أي سباق تسلح لامتلاك وتطوير الصواريخ الفرط صوتية والغواصات النووية والقاذفات الاستراتيجية وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة، فكان هذا السباق اليوم هو المسيطر، والذي وضع جانبًا مناورة امتلاك العدد الأكبر من الرؤوس النووية وجعلها غير ذات أهمية بالنسبة لهذه الدول القادرة.

 وأخيرًا، من الناحية الاستراتيجية، وفي ظل هذا التوتر المحموم في العلاقات الدولية، وتزامنًا مع هذا الاشتباك غير المسبوق من التحدي والتهجم والاستهداف المتبادل للمصالح القومية للدول المتخاصمة فيما بينها، ومع هذه الاصطفافات المتطرفة بين الدول القادرة وحلفائها، أصبح من غير المنطقي أو الطبيعي أن تهتم هذه الدول بمتابعة الالتزام بالمعاهدات وبالاتفاقيات التي تضبط امتلاكها للقدرات النووية الاستراتيجية، بل بالعكس، سوف تعمل هذه الدول جاهدة لامتلاك كل ما يمكن أن يحقق الردع الكامل بمواجهة الطرف الآخر، وعلى طريق تحقيق هذه الأهداف ستبقى الدول الكبرى أو القادرة على مستوى مرتفع من الاستنفار والاستنفار المضاد، والمدعوم بما يمكن لها أن تمتلكه من قدرات مدمرة. وفيما تعتبر هذه الدول أنها تتسلح استراتيجيًا بهدف الردع، لم يعد مستبعدًا أن يأتي التوقيت المخيف الذي تضطر فيه الى استعمالها.

 

العالم

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات