آراء وتحليلات
لبنان في ذروة الاستهداف الأمريكي ـ الإسرائيلي وحزب الله رأس حربة المواجهة
محمد أ. الحسيني
لم يكن لبنان في أي وقت بمنأىً عن مخطّط البناء الجيوسياسي المرسوم له من قبل القوى الكبرى التي كانت ولا تزال تسعى إلى وضعه تحت الوصاية الدوليّة، بل كان ولا يزال في قلبه المتحرّك والحيوي. ولطالما عملت الأطراف الداخلية الملتحقة بالتبعية للخارج منذ ما قبل أربعينيات القرن الماضي لأن يكون لبنان موطئ قدم للسياسات الغربية وأطماعها، ولم يكن جلاء "القوات الأجنبية" وفق التعبير الملتبس الوارد في "كتاب التاريخ الوطني"، ومنح لبنان شكل "الاستقلال" باتفاق بريطاني ـ فرنسي، مع إبقاء تقاطع المصالح الأوروبية ـ الأمريكية، إلا في إطار استفراد لبنان وسلخه عن محيطه العربي، بما يمهّد لهيمنة سياسية واقتصادية مباشرة على لبنان، من قبل "إسرائيل" كوكيل مسلّط على المنطقة.
لبنان في قلب مخطّط السيطرة
تمظهر المخطّط الغربي سابقاً في إعلان ما يسمى "دولة إسرائيل" في العام 1948، وما تلاه من تطوّرات متسارعة على صعيد تهجير الفلسطينيين إلى لبنان وتحجيم القضية الفلسطينية، والانبطاح العربي في كل المواجهات الخاسرة، والتي كانت فيها سوريا رأس الحربة منذ الحرب مع الاحتلال الفرنسي في العام 1920 وحتى اليوم، وعانت ما عانت من خذلان بسبب التواطؤ العربي مع الغرب، باستثناء حرب العام 1973 التي سرعان ما أجهض الغرب مفاعيل الانتصار فيها، ولا سيّما بعد رحيل جمال عبد الناصر وإدخال مصر في مهزلة التسوية. وها هي الدول العربية المطبّعة لا تعير أي اهتمام لفلسطين وقضيتها، سوى تحذير مواطنيها السائحين في الكيان الصهيوني بالابتعاد عن أماكن المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال.
اليوم يسعى الغرب إلى استعادة هذا المخطّط، ويعمل بزخم أكبر لتنفيذه وبوتيرة أسرع وبأسلوب مباشر، بعد أن تحوّلت معادلة السكوت العربي المتواطئ إلى حالة رضوخ واستسلام وتحالف شامل وكامل مع محور الغرب، ما استدعى في المقابل نشوء معادلة موازية تتمثّل بمحور المقاومة، واختلطت الأوراق من جديد بعد سلسلة الانتصارات التي حققها هذا المحور على المحور الغربي، انطلاقاً من إيران والعراق إلى اليمن وسوريا وصولاً إلى فلسطين ولبنان. فما الذي تغيّر في هذا المخطّط؟ ولماذا التركيز على لبنان في جوهر الحراك الدولي؟
مشروعان لا يلتقيان
بات لبنان بمحورية موقعه وأثره وتأثيره "التخريبي" على المخطط الغربي، بين مشروعين لا ثالث لهما؛ الأول يريد للبنان أن يكون حرّاً سيداً مستقلاً، ويعمل على إبقائه بهويته العربية والحفاظ على سيادته، والاستفادة من ثرواته وطاقاته البشرية والطبيعية، والاستقلال عن الإملاءات الخارجية وصياغة مصيره ومساره بتوافق داخلي بحت معتمد على التلاقي والتفاهم بين الشرائح السياسية والطوائف الدينية المختلفة، تحت إطار الموقف الوطني الجامع؛ وهذا ما يمثّله محور المقاومة، وبين مشروع ثانٍ يعمل بلا هوادة على إلحاق لبنان بمنظومة أمريكية ـ إسرائيلية ليكون منزوع القرار وفاقداً للسيادة الوطنية، ويتلقّى برنامج عمله وإدارته من الخارج، سواء في ما يتعلق بالقرار السياسي أو بسائر الملفات الاقتصادية والاجتماعية التي تكفل بقاءه عاجزاً عن التحرّك أو المبادرة باتجاه تقرير ما يراه اللبنانيون أنفسهم مصلحة لهم ولمستقبل أجيالهم، وهذا ما يمثّله محور التبعية والعمالة.
ومنذ هزيمة "إسرائيل" ومَن وراءها من دول عربية وغربية وأطراف داخلية وخارجية في العام 2006 على يد المقاومة الإسلامية في لبنان، بدأت الإدارة الأمريكية مساراً مختلفاً في التعاطي مع الشأن اللبناني، بعد ركونها إلى استحالة القضاء عسكرياً على المقاومة، وبعدما أيقنت فشلها في تحقيق هذا الهدف، وهو الذي كانت تأمل أنه يكفل لها تطويع كل البيئة العربية والإسلامية المحيطة، فانتقلت إلى البند الثاني الرامي إلى "تفريغ" البيئة من المقوّمات التي ترى أنها تشكّل حاضنة لمسار الممانعة، وأدّى هذا الأمر إلى حالة انقسام حاد بين الاتجاه المؤيد للمقاومة وتعبّر عنه الشعوب، والاتجاه المنبطح أمام أمريكا و"إسرائيل" وتعبر عنه الأنظمة.
كيف تريد أمريكا تغيير النظام في لبنان؟
على المستوى الداخلي، بدأ الفريق الأمريكي ـ الإسرائيلي بتطبيق أهداف متدحرجة برزت إلى العلن بشكل سافر منذ منتصف العام 2019 وما بعده، وتحوّل لبنان إلى محجّة للزيارات المكوكية الأمريكية والأوروبية من موفدين ورؤساء ومسؤولين، وكلهم ركّزوا على عنوان واحد: "تغيير النظام في لبنان"، ولما فشل هذا الهدف في التحقّق انتقل "فريق السفارات" إلى اقتباس أساليب زرعها الانتداب سابقاً كبنود حاكمة، واعتمدها كسياسة للتعامل مع أطياف الشعب اللبناني مع تعديلات تتماشى مع الواقع الراهن، وأهم هذه البنود:
- تصنيف المواطنة:
من خلال تكريس مبدأ "اللبننة"، وتعريفه بشكل خاطئ ومشوّه، والانطلاق منه في دعوة من لا يعتبرونه لبنانياً وفق قاموسهم الغربي، إلى الرحيل، وهذا التصنيف خطر على مستوى التفرقة بين المواطنين.
- تغريب الهوية:
من خلال إسباغ هوية مرتبكة للبنان، على مستوى الوجود والتعدّد السكاني والطائفي فيه تاريخياً، وإنكار انتمائه إلى محيطه العربي، وهذا يضع لبنان في الخارطة الغربية كهوية وتبعية، ويشكّل تبريراً للاعبين على وتر الشحن الطائفي بين المسيحيين والمسلمين، والشيعة على وجه الخصوص، مع العلم بأن التاريخ يخالف هذا الادّعاء بشكل جذري وتام.
- تشريع العمالة:
من خلال الدعوة إلى عدم اعتبار من عمل بإمرة العدو خلال الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان "عميلاً"، على الرغم مما ارتكبه من جرائم وظلم بحق المواطنين، وهذا أولاً يبرّر للعملاء أفعالهم الإرهابية، ويضعهم في خانة التطييف المذهبي، وتشريع العمالة هنا يصب بدوره في خانة التقسيم المذهبي بين عميل مسيحي ومقاوم شيعي، ولكن الحقيقة هي أن ليس كلّ من يتواجد في الكيان الصهيوني مسيحي، بل هناك مسلمون شيعة وسنّة ودروز، فالعميل لا طائفة له، وليس المسلمون والشيعة فقط من تحمّل أذى الاحتلال وعملائه، بل اللبنانيون بكل طوائفهم ومناطقهم.
- شق الصف الداخلي بين شرقي وغربي:
تجلّى ذلك بقوة من خلال إلحاق لبنان بمعادلة الصراع الدولي بين قوى الشرق والغرب، خصوصاً بعد اندلاع العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، وهذا بحدّ ذاته يناقض كل المقولات التي سعى هؤلاء لترويجها، فروسيا والصين وحلفاؤهما لا يعملون في خدمة إيران وحزب الله ومحور المقاومة، ولكن المسألة تتعلّق بكون هذه القوى اليوم على خط مواجهة مع أمريكا والغرب.
- السعي لإشاعة أجواء الانقسام لزرع بذور الفتنة الداخلية:
من خلال التناغم مع الخطاب الإسرائيلي الذي يسعى لبث الشقاق بين اللبنانين، وتحميل جهة محدّدة مسؤولية ما وصل إليه لبنان من ضائقة اقتصادية واجتماية ومالية، مع أن الكل يعلم بأن الحصار على لبنان من قبل واشنطن والدول التي تسير في فلكها من العرب وغيرهم كان قبل إيران الإسلامية ونشوء حزب الله، وأي باحث يستطيع اكتشاف ذلك ببساطة، والهدف كان ولا يزال إدخال لبنان في المنظومة الغربية.
- ضرب لبنان الدولة والنظام:
من خلال العمل على إفشال كينونته كدولة قائمة، وتصنيفه ضمن فئة "الدول الفاشلة" كمقدّمة لجعله تحت الوصاية الخارجية، وتسليم مقاليد حكمه وإدارته مالياً واقتصادياً وسياسياً للمؤسسات الدولية المحكومة والمدارة مباشرة من قبل الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وإقناع الرأي العام اللبناني بضرورة إسقاطها.
حزب الله رأس الحربة
لئن كان مسعى تغيير النظام اللبناني مبرّراً تحت مظلة مكافحة الفساد والتخلّص من التركيبة الحاكمة التي أغرقت لبنان في فوضى الانهيار المتدرّج، فما هو النظام البديل الذي ستفرضه واشنطن؟! ومن هو الفريق "غير الفاسد" المؤهل لحكم لبنان بطريقة عادلة وشفافة؟! إن هذا المسعى يهدف في الواقع إلى إزالة صمّام الأمان الذي يضمن الاستقرار الداخلي ويحمي البلاد وثرواتها وسيادتها من الهيمنة الأمريكية - الإسرائيلية، ولا يكون ذلك إلا بنزع سلاح المقاومة وضرب محور المواجهة الذي يشكل فيه حزب الله رأس الحربة، وهذا الأمر وحده هو الذي يؤدي إلى فرض الشروط الإسرائيلية في نهب ثروات الطاقة اللبنانية في البر والبحر، وفي بسط السيادة الأمريكية على لبنان بكل مجالات القرار ومقوّمات الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولن يجد هذا المسعى طريقه إلى النجاح، فكما هزمت المقاومة أمريكا و"إسرائيل"، وأسقطت مشروع "الشرق الأوسط الكبير" وحرّرت الأرض المحتلة، فإن المواجهة المقبلة ستكون إيذاناً بتحرير أكبر للأرض والشعب وحفظاً أكيداً للسيادة والاستقلال على امتداد جغرافية المحور.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
01/10/2024