آراء وتحليلات
حشود "الناتو" في شرق أوروبا: مواجهة روسيا أم قمع الخائفين من الموت برداً؟
شارل أبي نادر
يبدو إعلان الأمين العام لـ"حلف شمال الأطلسي ـ الناتو"، "ينس ستولتنبرغ" وبحضور وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكين" في بروكسل أمس الجمعة، أنّ "الناتو" يعمل على تعزيز وجوده في الجبهة الشرقية لأوروبا، وعلى وضع مئات الآلاف من القوات في حال تأهب قصوى، مدعومين بقوات جوية وبحرية كبيرة، يبدو في الظاهر وكأنه من ضمن استراتيجية المواجهة التي تقودها واشنطن مع "الناتو"، لمواجهة العملية الروسية في اوكرانيا، ولما قد يرتبط بها أو ما قد يتفرع عنها من عمليات روسية في بعض دول أوروبا الشرقية، والتي تشكل رأس حربة هذه المواجهة، كبولندا مثلا أو كدول البلطيق الثلاث (لاتفياـ استونيا ـ لايتوانيا)، ولكن في الواقع، من غير المستبعد ان يكون لهذا الانتشار دور آخر، مختلف بالكامل عن تعزيز تلك الجبهة الاوروبية لمواجهة روسيا.
فما هو هذا الدور المختلف؟ ولماذا هذا الانتشار المفاجىء؟ وكيف يمكن مقاربة هذه التساؤلات من ضمن متابعة الكثير من التفاصيل التي يجب الاضاءة عليها، والتي يمكن تحديدها بالتالي:
عمليا، من الواضح أن الأطراف الرئيسة في هذه الحرب مقتنعة بأن لا مواجهة مباشرة بين "الناتو" وبين الروس، ومؤشرات هذا الأمر كثيرة، فهي تأتي في تصريحات الطرفين، وفي حيثيات التدخل الروسي في دول "الناتو" وقيودها التي تفهمها موسكو جيدًا، وخاصة المادة الخامسة من بروتوكول الحلف، وتأتي أيضًا من طريقة إدارة واشنطن الحذرة والحساسة لعملية تسليم السلاح لأوكرانيا، لناحية تشددها في عدم استهداف الأراضي الروسية بتاتا، حتى في منع تسليمها أسلحة يصل مداها إلى أبعد من مناطق التواجد الروسي في "الدونباس" أو في "خيرسون"، بالرغم من حاجة الوحدات الأوكرانية لهذه الأسلحة وخاصة في المواجهات التي تشتد في زابوروجيا وفي "ميكولايف" وفي "خيرسون".
من جهة أخرى، أن تنتشر هذه الوحدات الأطلسية اليوم في دول أوروبا الشرقية، وبعدد كبير يصل إلى مئات آلالاف، فهذا يعني عمليًا أنها سوف تتوزع على عدة دول وعلى مناطق مختلفة داخل هذه الدول، وذلك لاسباب تتعلق بأمنها وبحيطتها، وبامكانية تدخلها في عدة اتجاهات، وهي عمليًا أيضًا لن تشارك الوحدات الأوكرانية في معركتها بمواجهة الروس، لأن ذلك أيضًا مستبعد تمامًا كما استبعدنا تدخل الروس عسكريًا في دول "الناتو" الحدودية مع روسيا ومع أوكرانيا، وهذا الأمر (التدخل ضد الروس مباشرة) حتى ولو حصل، لن يخلق اي تغيير في المعادلة العسكرية التي فرضتها وحدات موسكو حتى الآن، لأن المدافعة ضد الوحدات الروسية إذا حصلت، لن تكون الا عبر القدرات العسكرية ذات المستوى الأرفع، والتي هي موجودة حاليا، نتكلم هنا عن القدرات الجوية والبحرية لـ"الناتو"، والمنتشرة منذ ما قبل الحرب في أوكرانيا، وبمستوى مرتفع من الفعالية، وهذا الأمر ربما كان من الأسباب الرئيسة للعملية الروسية الاستباقية في أوكرانيا.
لماذا اليوم هذه الحشود بمئات الآلاف من عسكريي "الناتو"، في الوقت الذي مضى فيه على الحرب ٦ اشهر مع الدخول الروسي؟
ألم يكن الاجدى المسارعة الى نشر هذه الوحدات، منذ بداية العملية الروسية حين كان الخطر أكبر من دخول روسي الى تلك الدول، حيث لم تكن واضحة حينها الاهداف والمسارات الحقيقية للعملية الروسية؟
التساؤل الآخر والذي يجب الاضاءة عليه أيضًا، يتعلق بزيارة وتواجد وزير الخارجية الاميركي "بلينكن" في بروكسل، وجنبا الى جنب مع الأمين العام لـ"الناتو" في إعلانه هذه القرارات .
أن يزور "بلينكن" ومن موقعه كوزير خارجية اميركا الاتحاد الأوروبي، ويجتمع مع مسؤوليه في بروكسل، فهذا امر عادي وطبيعي، ويمثل زيارة ديبلوماسية لوزير خارجية دولة كبرى إلى ممثلية الاتحاد الأوروبي، ولكن ان يزور "بلينكن" ومن موقعه كوزير خارجية اميركا مركز "الناتو" بما هو "حلف شمال الأطلسي"، والمُشكّل من دول أوروبية ومن تركيا ومن الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا أمر مستغرب وغير طبيعي، والسبب ان الولايات المتحدة الأمريكية عضو أساسي في الحلف المذكور، مثلها مثل ألمانيا أو فرنسا أو غيرهما من دول أوروبية، وليس طبيعيًا أن يزور وزير خارجية دولة، حلفا من عدة دول، دولته منخرطة في هذا الحلف، كأن يزور وزير خارجية المانيا او فرنسا مثلا "الناتو"، فهو امر غير منطقي من الناحية الديبلوماسية، وربما، كان سيكون مفهوما اكثر مثلا، لو زار وزير الدفاع الاميركي "الناتو"، للتنسيق او للمشاركة في إدارة الدعم العسكري لأوكرانيا، او لتنسيق انتشار او تجهيز جيوش دول "الناتو".
من هنا ، يمكن أن نستنتج ان الاعلان عن نشر هذه الوحدات من قبل الامين العام لـ"الناتو" ، بحضور بلينكن، هو بهدف سياسي داخلي في دول أوروبا الشرقية المنخرطة في "الناتو"، وهو يدخل كإملاء سياسي اميركي، نقله "بلينكن"، لاتخاذ هذه الدول اجراءات استباقية لمواجهة اية مظاهرات او اعتصامات ممكنة او محتملة من شعوب هذه الدول تعبيرا عن رفضها الحرب.
فهل أحس الأميركيون بأن المزاج الشعبي الأوروبي، وخاصة في شرق أوروبا، بدأ يتحرك للضغط نحو وقف الحرب ولاجراء تسوية مع الروس، وذلك بعد تأكدها من فشل حكومات اليورو في إقناع شعوبها بأنها قادرة على حمايتها من البرد في الشتاء؟
من هنا، وحيث لدى الاميركيين خبرة واسعة في قدرة "الحرب الناعمة" فيما لو توسعت داخل دولة أو أكثر، في التأثير على حكوماتها او على سياسات حكوماتها، خاصة لو كانت هذه المظاهرات على خلفية محقة، في خوف شعوب الدول الأوروبية من عدة هواجس حقيقية، بينها التضخم وغلاء أسعار الحاجات الأساسية، إلى أصعبها وهو الموت من البرد شتاءً، بعد انقطاع أو نقصان ما تحتاجه من الطاقة والغاز لديها.
يظهر الخوف الحقيقي الأميركي كما يبدو، والذي هو من النخب الشعبية الأوروبية، ذات النزعة السوفياتية والتي لا تريد أن تموت بردا، لان واشنطن تريد ان تكسر موسكو في أوكرانيا وفي شرق أوروبا وفي العالم، لذلك من المنطقي الاستنتاج ان القرار الاطلسي بنشر هذه الوحدات وبهذا العدد الضخم، وعلى عدد غير بسيط من دول شرق أوروبا، جاء لتطويق ومواجهة فورة أو ثورة شعبية مرتقبة، في أكثر من دولة أوروبية شرقية، على خلفية الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على شعوب هذه الدول .
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024