طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

 عن مهمّة مدير الـ "CIA" السرّية ولقائه نظيره الروسي بتركيا
29/11/2022

 عن مهمّة مدير الـ "CIA" السرّية ولقائه نظيره الروسي بتركيا

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي

في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وإثر سقوط عدة صواريخ في بولندا وتوجيه أوكرانيا ومعها بعض الدول الأوروبية على الفور أصابع الاتهام إلى روسيا، عاش العالم بأسره لحظات ترقب وقلق كبيرين، بسبب موقف الولايات المتحدة ومعها حلف الاطلسي من هذا التطور الخطير، والخطوات المقابلة التي سيلجأ اليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ردًا على أي عمل قد تقدم عليه بلدان الغرب الاطلسي ضد موسكو.

مع سريان الخبر كالنار في الهشيم (قبل أن تظهر حقيقة أن الجهة التي أطلقت الصواريخ هي القوات الأوكرانية)، بدأ العديد من الدول والمحللين والخبراء ووسائل الإعلام الغربية، يرسمون سيناريوهات لما سيكون عليه شكل المواجهة الأمريكية ــ الأطلسية ــ الروسية، في حال قرر الحلف تفعيل "المادة الخامسة" من ميثاقه والتي تشير بكل وضوح إلى أن "هجومًا مسلحًا ضد واحد أو أكثر من أعضاء حلف "الناتو" في أوروبا أو أميركا الشمالية يعتبر هجومًا ضدهم جميعًا".

السيناريو الأبرز الذي طرحه هؤلاء جميعًا آنذاك، وكان يخشى القادة الأمريكيون أن يؤدي إلى حرب نووية، يقوم على الآتي: حليف في منظمة شمال الأطلسي يتعرض للهجوم (بعدما افترض المحللون أن الهجوم جاء من روسيا). بعدها يشنّ الحلف هجومًا مضادًا على موسكو، بموجب معاهدة الدفاع عن النفس. هنا بدوره، الكرملين يرد باستخدام الأسلحة النووية. وهكذا تتدحرج الأمور صعودًا وصولًا إلى الكارثة.

لكن تحرّك واشنطن السريع ودخولها بقوة على خط التهدئة لتطويق الأزمة عبر الاتصال بروسيا تداركًا للأسوأ، وبالتالي تجنيب العالم مخاطر حرب نووية لا يعرف أحد كيف كانت ستنتهي بدّد هذا السيناريو، بحيث اختفت أصوات طبول الحرب التي كانت قد قرُعت فور وقوع الحادثة.

كيف تم احتواء قضية الصواريخ على بولندا؟ ولماذا لعبت واشنطن دور الاطفائي؟

كانت واشنطن حريصة على طمأنة روسيا ولجم التصعيد والسيطرة على الأوضاع، ليقينها أن المضي قدمًا في استفزاز موسكو سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، خصوصًا في ظل هذه المرحلة الحساسة.

من هنا طبّقت إدارة الرئيس جو بايدن ما سبق أن أوصت به أجيالًا من مديري الأزمات في أمريكا، بالسعي لتبريد الأجواء في لحظة حارة، بعدما أدركت أنها تفتقر إلى المعلومات الموثوقة، بانتظار تبلور الحقائق، فيما قاومت بولندا على الضفة الأخرى أيضًا رغبة بعض الرؤوس القيادية "الحامية" لديها في إلقاء اللوم على خصمها التاريخي روسيا، لمعرفتها التداعيات الخطيرة لهذا الاتهام.

لاحقًا اتضح لواشنطن أن الافتراضات الأولية بأن روسيا أطلقت الصاروخ ربما كانت خاطئة ومتسرعة ومجنونة، الأمر الذي دفع بالرئيس البولندي أندريه دودا، إلى الاعتراف في اليوم التالي بحقيقة ما حصل قائلًا إن "الدفاع الأوكراني كان يطلق صواريخه في اتجاهات مختلفة، ومن المحتمل جدًا أن يكون أحد هذه الصواريخ قد سقط للأسف على الأراضي البولندية". وأضاف "لا يوجد شيء، لا شيء على الإطلاق، يشير إلى أنه كان هجومًا متعمدًا على بولندا".

أكثر من ذلك، صحيح أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يحظى برعاية أمريكية غير مسبوقة، غير أن إدارة بايدن تسعى دائمًا إلى تحقيق توازن بين الدعم العسكري القوي لأوكرانيا، والحذر من كل ما قد يؤدي إلى صراع روسي ــ أمريكي مباشر.

بناء على ذلك، تراجعت الولايات المتحدة عندما اعتقدت أن الإجراءات الأوكرانية شديدة الخطورة ومتهورة للغاية. وحذرت كييف من أنها تعارض بشدة مثل هذه التصرفات (العشوائية غير المنسقة معها) مخافة خروج الأوضاع عن السيطرة، لا سيما وأن واشنطن كانت قد أرسلت عدة اشارات تشي برغبتها بالحل الدبلوماسي (رغم نفي مسؤولي البيت الأبيض)، وهو ما كان مهدّ له مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، عندما ذهب إلى كييف للضغط على زيلينسكي للتخلي عن رفضه للتفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ماذا عن آخر المعطيات حول ميل واشنطن لاعتماد الحل الدبلوماسي في أوكرانيا؟
 
 في الأيام القليلة الماضية، ظهرت عدة مؤشرات أمريكية قوية وعملية، تدفعنا إلى الاستنتاج أن الادارة الأمريكية، تهيئ الأجواء للحلول السلمية في أوكرانيا، ربما تحت وطأة ضغوط داخلية وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي والتضخم في السوق الأمريكي، الذي قد يطيح بكل ما يعتبره بايدن أنها إنجازات داخلية وخارجية.

ظاهريًا، تردد واشنطن معزوفتها القديمة الجديدة أنها لا تستطيع إملاء شروط على كييف، حتى لو اعتقدت أن الوقت قد حان لإنهاء الصراع. لذا قالت الادارة الأمريكية أنها بدلًا من ذلك ركزت دبلوماسيتها على روسيا، لتجنب أي تصعيد نحو حرب نووية.

بالمقابل، وبموازاة لعبة المواجهة المحسوبة هذه التي تلعبها أمريكا مع موسكو، تجهد الإدارة الأمريكية لاحتواء هذا الصراع أيضًا، والذي أصبح مكلفًا ماليًا جدًا لواشنطن، باعترافات مسؤوليها.

ولهذه الغاية، سافر مدير وكالة المخابرات المركزية وليام جيه بيرنز منتصف الشهر الحالي في أول رحلة دبلوماسية سرية، والتقى قبل اسبوعين في العاصمة التركية أنقرة بنظيره الروسي سيرجي ناريشكين، رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي SVR. ومع أن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي أكد أن بيرنز كان "ينقل رسالة حول عواقب استخدام روسيا للأسلحة النووية ومخاطر التصعيد على الاستقرار الاستراتيجي"، إلا أن مسؤولين أمريكيين آخرين أكدوا أن بيرنز استطلع أثناء اللقاء أجواء روسيا وموقفها من المفاوضات، وميلها لإنهاء المعارك في أوكرانيا.
 
وفي 16 من الشهر الجاري أيضاً، انتقل بيرنز إلى كييف وعقد اجتماعًا مع زيلينسكي، وتعقيبًا على ذلك قال مسؤول أمريكي إن "بيرنز عزز التزام الولايات المتحدة بتقديم الدعم لأوكرانيا"، غير أن اللافت أن هذا الاجتماع كان محاولة لطمأنة وتهدئة زيلينسكي بأن الولايات المتحدة لا تعمل من وراء ظهره مع موسكو.

على المقلب الآخر، يرفض مسؤولو الادارة وصف رحلات بيرنز بأنها مهمّة سرية لبدء محادثات السلام، وأكدوا أنه لا يجري مفاوضات من أي نوع. غير أن مطلعين على مهمة بيرنز أشاروا إلى أن تسوية الحرب في أوكرانيا، كانت تتصدر برنامج جولات مدير الـCIA المكوكية، إضافة إلى مهمته الأخرى، وهي فتح قنوات للتواصل مع روسيا بشأن إدارة المخاطر وخاصة "المخاطر النووية والمخاطر على الاستقرار الاستراتيجي".

في المحصلة، ما يجدر بنا التوقف عنده والتدقيق به، للبناء عليه مستقبلًا هو توقيت تحرك بيرنز، الذي كان لعب دورًا حاسمًا منذ بدء الأزمة الأوكرانية.

إضافة إلى ذلك، فإن حركة مدير الـ CIA ـ الذي يجيد اللغة الروسية، ويتمتع بخبرة عميقة كمبعوث للقنوات الخلفية وفقًا لمسؤولين أمريكيين ـ تتماهى بشكل أو بآخر مع موقف رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك إيه ميلي، الذي يضغط على إدارة بايدن للسعي إلى إنهاء دبلوماسي للمواجهة الاطلسية ـ الروسية في أوكرانيا، لما فيه مصلحة جميع الأطراف لا سيما أمريكا.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات