يوميات عدوان نيسان 1996

آراء وتحليلات

خيانة مجانية لسوريا
07/02/2023

خيانة مجانية لسوريا

أحمد فؤاد

ليس في استطاعة الإنسان أن يناقش ويقرأ ويحلل أزمة وطنه الكبير، مهما بلغت درجة الموضوعية والتجرد، بالقدر اللازم من الحياد المبدئي، بحيث يضعها في مدار حسابات العقل وحده أو يقيس توابعها بحساب الواقع والمنطق، ولا أن يقدّر الآثار والتداعيات بطريقة كفتي الميزان، إذ إن النفس البشرية في رغبتها الأكيدة للتطور والتغيير واحتياجها للأمل تصبح كتلة من المشاعر يصعب تخيل حركتها دون تأثر بالحقائق الموضوعية للأمة والبلد.

المنطقة العربية التي تبدو على الخرائط ومن النظرة الأولى مفتتة متباعدة، تتقاسمها الخطوط السياسية الموروثة، وتفرق بينها أنظمة الحكم على ألوانها واتجاهاتها، تظهر في وقائع أي حدث طارئ أو خلفياته كتلة واحدة متجانسة متماسكة، على الأقل شعبيًا على مستوى الشارع والمواطن العادي –جدًا- وتمنح الإشارات بعد الإشارات على كونها أمة واحدة، تحركها المخاوف ذاتها وتغازلها آمال واحدة، تحب وتكره معًا، تحكمها وتتحكم فيها طاقة إنسانية هائلة متجانسة، بحيث تبدو مدنها وقراها واحدة لا يكاد يتغير فيها إلا الاسم والموقع الجغرافي.

وإذا كانت هناك حقيقة أولى واضحة في الحالة العربية، فستكون بالتأكيد سوريا، القلب النابض للعالم العربي، ومركزه العصبي الحساس، قبلة القلوب والمحرك الأهم لعالمها العربي، والتعبير الأبقى والأرقى على الواقع العربي، وفي الوقت ذاته هي الدولة القادرة على بعث وإطلاق أي عمل عربي يمثل أملًا ما في التوحد، والنصير الدائم لحركات المقاومة، عاصمة الرفض والإباء والصمود، وإذا كان من الممكن تلخيص الحال شعرًا، فسيكون قول أمير الشعراء أحمد شوقي "وعز الشرق أوله دمشق" هو القفاز الذي ينطبق على راحة اليد دون جهد يذكر.

لهذه الأسباب، وغيرها أكثر، كانت سوريا هي الهدف الأغلى للأميركي. منذ عقود طويلة والإستراتيجية الأميركية المعلنة تتضمن تغييرًا في دمشق، يسحق معه إرادة الأمة العربية في الصمود وقدرتها على الفعل والمقاومة، وعشية الربيع العربي –العبري بلفظ أدق- وجدت واشنطن ضالتها في الحلف غير المقدس لإسقاط النظام والدولة في سوريا، وتدميرها تمامًا ونهائيًا، كما جرى في كل أرض وبلد تمكنت منها الولايات المتحدة مثل أفغانستان والعراق، وقطع الشريان الحيوي الذي أبقى الدم متدفقًا في فكرة المقاومة بالمنطقة، طوال السنوات السوداء التي أعقبت حرب الخليج الثانية.

كان الهدف المعلن، ولا يزال، هو كسر تلك التجربة وتشويه نموذج رفض السيطرة الأميركية والطغيان الصهيوني، كان مطلوبًا أن تخرج سوريا وقيادتها من معادلة الصراع مع العدو الأثيم، وكان مطلوبًا وبشدة أن تنفتح أمام الإرادة الأميركية، بالقدر ذاته الذي انفتحت به مصر أمام الكيان، وأن تختار سياسة الخنوع وأن تمضي في طريق الاستسلام الكئيب.

كانت الحرب الإعلامية المركزة من أغلب الدول العربية، وعبر كل ما أمكن حشده وتجييشه من أدوات التأثير والتغيير، هي قمة جبل الجليد الظاهر من جهد إقليمي وعالمي منسق لذبح سوريا، ولمن ضاعت ذاكرته أو تاهت الصور فيها بفعل مرور السنوات، فقد كان يكفي أن تعلن التضامن مع سوريا وشعبها –فقط- لكي تفتح عليك بوابات الجحيم من كل تنويعات الأدوات الأميركية في بلادنا العربية، فبالنسبة لدواعش الفكر أنت كافر تؤيد نظامًا طائفيًا، وبالنسبة لدعاة الحقوق والمدنية على الطريقة الغربية، فأنت خائن تتنكر للدماء والشهداء وتتماهي مع سلطة قمعية.

فعلت دول الخليج كل ما يمكنها للظفر بدمشق، من إنشاء غرف العمليات إلى ضخ الأموال القذرة على كل أطياف العمل السوري بالداخل والخارج، ولعل حديث رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم لخص المؤامرة الخليجية التي جمعت كل الفرقاء تحت العباءة الأميركية بقوله "تهاوشنا على الصيدة ففلتت"، وهو اعتراف علني يغني عن أي شاهد أو دليل إضافي على وجود التدبير.

بكثير من الألم والتضحيات والدم استطاعت سوريا أن تعبر أكبر حرب عالمية غير معلنة، وبكثير من الإيمان واليقين تحاول أن تلملم بقايا وشظايا الوطن الذي دمر على أيدي أطراف المؤامرة الأقذر في التاريخ العربي المعاصر، وبكثير جدًا من الذكاء والفطنة استمرت دمشق تلعب دور قلعة المقاومة المنيعة وخط إمدادها الأهم، فيما يشبه الجوهرة النادرة المتكاملة أو المعجزة السماوية التي تقف لها أبصارنا وقلوبنا في انشداه وذهول.

على ماذا يراهن الأميركي اليوم في سوريا؟ ربما لن يكون تجاوزًا لو ذهب العقل إلى أن التدبير الأميركي برحيل النظام الحالي قد خرج من المعادلة، لكن يبقى أثر الحصار المدمر وقانون قيصر وتبعاته قائمًا يزيد من بؤس الناس ويضيق أمام فرص الحياة الطبيعية، ويحاول أن يغير النتيجة المباشرة للصراع من انتصار ذي تكلفة هائلة إلى هزيمة فادحة للأعصاب والمشاعر الوطنية، وهذا مكمن الخطر الحقيقي.

قدم الشعب السوري الكثير لأمته العربية، سواء حين خرجت منها دعاوى الوحدة القومية في منتصف القرن الماضي، أو دروسًا حفرت بالدم في كل مواجهة مع العدو الصهيوني، ولا يزال يقدم المزيد من فصول الإرادة ومشاهد القدرة والجلال أمام وضع اقتصادي متدهور وظرف عالمي وإقليمي ووطني بالغ الدقة والصعوبة، لكن الظن –وبعضه ليس إثم- يقول إن الدولة التي خرجت من محنة الحرب والدم منتصرة قادرة على الصمود ومواجهة الحصار، والشعب الذي صهرت المحنة قلبه وصقلت النار قلبه يستطيع أن يحقق ما لا يخطر على بال أحد.

المؤلم في وقائع الألم السوري المستمر، أن الزلزال الذي ضربها وتسبب في ضحايا يقترب عددهم من الألف، مر على الأنظمة العربية بغير اكتراث، وكأن سوريا بلد لا ينتمي إلى منطقتنا العربية أو من فيها شعب غريب لا نعرفه، يعيش في كوكب آخر بعيد جدًا، فلم تتطوع غالبية الدول لمد يد المساعدة والعون إلى البلد التي أضاءت الأمة العربية وما فتئت تحمل الهم العربي، ولم تترك فرصة للمشاركة والمساندة إلا وقدمتها.

في حرب العدوان الثلاثي، التي شنتها بريطانيا وفرنسا والكيان ضد مصر، قدمت سوريا ما هو أبقى من كل موقف وأعز من أي دعم، قدمت الدم والفداء لقضية الاستقلال الوطني المصري، وإذا وضعت تصرف الضابط العربي البحري الشاب، جول جمال، ابن سوريا، في أي ميزان، ستحصل فورًا على معنى البطولة الأسطورية المتفردة، وايضًا على معنى الكرامة والفداء حين تتجسد في شخص من لحم ودم، مثلنا، مثل كل إنسان عربي، يؤمن أنها معركتنا وأنها أرضنا.

في المقابل فإن النظام المصري الذي سارع في شهر آيار/ مايو من العام 2019 لتقديم الدعم العاجل عبر طائرات الهيليكوبتر المتخصصة في مكافحة الحرائق لإطفاء اللهب الذي شب بمستوطنات العدو الصهيوني، ثم قدم العزاء –مع غيره- لقتلى العملية البطولية في القدس قبل أيام، لم يقرر بعد ما إذا كان سيتجاوز العقوبات الأميركية على سوريا، أم سيرضخ مرة واحدة فقط لنداء الشرف والواجب.

مصرالعالم العربي

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة

خبر عاجل