آراء وتحليلات
سلاسل التوريد الاوروبية: ما بين القبضة الروسيّة وقبضة محور المقاومة
حيان نيوف - كاتب سوري
لم يكن اختيار وزير الخارجية السعودي مؤتمر "ميونخ للأمن" لإطلاق تصريحاته التي تحدث فيها عن "إجماع عربي على ضرورة عدم استمرار الوضع القائم في سوريا وعلى الحوار مع دمشق" عبثيًا. الوزير السعودي أراد إيصال رسالة إلى الأوروبيين تحديدًا وهم المعنيون الرئيسيون بتلك التصريحات، والمعنيون الرئيسيون بالموضوعات التي بحثها "مؤتمر ميونيخ".
كان واضحًا بما لا يدع مجالًا للشك أن المؤتمر الذي تداعت له أربعون دولة، وحضره تسعون وزيرًا للخارجية والدفاع، يهدف بالدرجة الأولى لإعلان "أوروبا واحدة موحدة ضد روسيا"، وهو ما ظهر من خلال المداخلات والتصريحات التي أطلقها الزعماء المشاركون في المؤتمر وخاصةً قادة الدول الأوروبية الكبرى. غير أن المؤتمر لم يغفل عن الهاجس الذي يؤرق أوروبا والمتعلق بضمان سلاسل جديدة للتوريد وخاصة للطاقة بعد أن فقدت اوروبا سلاسل التوريد الروسية التي قام عليها اقتصادها طوال العقود الثلاثة الاخيرة بفعل الحرب في اوكرانيا وسياسة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على اوروبا تجاه روسيا واستكملتها بتفجير خطوط الغاز الروسية في البلطيق "نورد ستريم 1، 2".
وفي الوقت الذي سعت فيه الولايات المتحدة وأوروبا لتأمين سلاسل توريد بديلة، فإنها وجدت نفسها مضطرة للتوجه شبه الحصري نحو الشرق الاوسط، وهو ما عكس حالة الهدوء النسبي في الإقليم بدءا من هدنة اليمن، ومرورًا باتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وصولًا الى التسوية السياسية في العراق والتي انتجت حكومة "السوداني".
هذا يعني أن الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها في الاقليم وبالرغم من كل التهويل والتهديدات التي تطلقها ضد ايران ومحور المقاومة، فإنها تدرك أن أي خطأ في الحسابات سيؤدي حكمًا إلى تفجير شامل يتسبب بقطع سلاسل التوريد من الشرق الاوسط لاوروبا، خاصة أن محور المقاومة يتحكم بممرات وبوابات تلك السلاسل برًا وبحرًا من الخليج الى باب المندب الى شرق المتوسط، ومن العراق الى الاردن وسوريا ومنها للمتوسط، وحتى من الخليج لفلسطين المحتلة الى حيفا.
انطلاقًا من كل ذلك يمكننا أن نقرأ المشهد الكلي للصراع وأن نسقط كلام الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله في ذكرى الشهداء القادة والذي جاء عشية مؤتمر ميونخ وأعاد ملف كاريش الى المربع الاول كعقدة قابلة لتفجير البوابة الرئيسية والأهم من الإقليم لاوروبا وأقصد شرق المتوسط. كلام السيد أعاد تثبيت المعادلة التي أطلقها منذ بدء المفاوضات حول كاريش، والتي تقول إن المقاومة جزء من معادلات الصراع والأمن في شرق المتوسط.
الطرح السعودي في ميونيخ ليس طرحًا انسانيًا، وليس من باب الغيرة العربية على ما حل بسوريا، بل هو طرح سياسي وجيوسياسي بامتياز يهدف لإيجاد حل لسلاسل التوريد لأوروبا عبر الحصول على ضمانات من البوابة السورية، وهو ما يستلزم تقربًا من دمشق التي تشكل حلقة الوصل بين الجميع، ومن دون استقرارها سيبقى الباب مقفلًا والصراع قائمًا، وتبقى أوروبا متأرجحة بين الصراع مع روسيا في أوكرانيا والصراع مع محور المقاومة في الشرق الاوسط.
لم يفت الوزير السعودي التأكيد على العلاقة الجيدة مع روسيا، وفي ذات الوقت ألمح إلى ملف المسيّرات الإيرانية داعيًا إلى الحوار بشأنه، وهو الملف الذي أعلن سفير الولايات المتحدة لدى الكيان الصهيوني بأن لا عودة لمفاوضات الملف النووي من دون حلّه عبر توقف ايران عن تزويد روسيا بالمسيّرات، في محاولة جديدة وبائسة لفك الارتباط بين محور المقاومة وروسيا.
الفشل الأمريكي الأوروبي في دق إسفين بين موسكو وطهران وبين موسكو ومحور المقاومة ترجمه التنامي المتسارع للعلاقات الروسية الإيرانية وعلى كل المستويات ومنها العسكرية والتكنولوجية وإنشاء طرق تجارة جديدة عبر اوراسيا تضمن سلاسل التوريد بين الشمال والجنوب، وهو ما دفع بالسعودي الى العودة الى مربع التفاوض عبر سوريا برضا أميركي غير معلن.
هذا الفشل الغربي سبقه فشل تكتيكي آخر عبر اللجوء إلى مقايضات بين الملف الاوكراني والملف السوري بعد الانتصارات الروسية الأخيرة والمتتالية على جبهة أوكرانيا.
العدوان الصهيوني الأخير على سوريا والذي استهدف العاصمة دمشق، جاء ليؤكد العجز الغربي عن تغيير أوراق اللعب لصالحه وخاصة المتعلق منها بأوروبا، كما جاء بعيد خطاب السيد وتزامنا مع كلام الوزير السعودي وفي ظل انكسار جزئي ومهم للحصار المفروض على دمشق بعد كارثة الزلزال. هذا العجز سيستمر وسيجد الغرب نفسه مضطرًا لتقديم التنازلات بالجملة والمفرق، فالخيارات تضيق والوقت ينفد والشرق يزحف الى مناطق نفوذ جديدة، وهذه التنازلات سيقدر لها أخيرًا وكخيار حتمي أن تبدأ من البوابة السورية.