طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

الجهاد الشامل.. في وداع قائد
20/03/2023

الجهاد الشامل.. في وداع قائد

أحمد فؤاد

تبقى لكل رواية جميلة في حياة الأمم والشعوب عدة خصائص لتتحول إلى فصل كامل يليق أن يوضع في صفحات فاصلة، ومضيئة. وإذا كانت الرواية تدور حول نقطة مركزية، فإن بداية خيطها هي لحظة اختيار تدفع إليها مبادئ وأشواق وأحلام، وصورة ختام هي النتائج والإرث الباقي. وفي رواية – أو مسيرة - الحاج حسين الشامي، فإنه بين البداية والنهاية الكثير من الرؤية والمثابرة والعمل الجهادي، وكواحدة من حكايات المناضلين الفدائيين، فإن فيها من الثقة بالنفس والناس والإيمان والثراء ما لا نملك رفاهية تفويته، دون ذكر وتقدير، والأهم بغير تعلم.

مبكرًا جدًا فهم الحاج حسين، وطبق، نظرية الجهاد الشامل، قدم الحر ما يعد الإجابة عن أهم سؤال في تاريخنا كله "ألا من ناصر ينصرنا"، ووعى مبكرًا أن المواجهة لا تقتصر على جبهات القتال، وإنما تتعداها إلى تأسيس بنية مختلفة لواقع جديد ومختلف، يكسر هيمنة الشيطان الأكبر على البلد والمجتمع والبيئة المقاومة، فهم وأنجز عمليًا الإجابة، أن المقاوم هو مبتدأ الفعل التاريخي للأمة، وصانع البديل الحقيقي القادر، وآمن بأن المقاومة طريق شامل، وأنه بقدر ما يزداد ارتباطًا بالناس يرتفع محلقًا بهيًا فوق أي احتمال كسر أو إضعاف.

..
تقليديًا تُعرّف البنوك بأنها مؤسسات المال الأولى والأهم في عصرنا، الأعصاب الحساسة للاقتصاد والتجارة ولكل نشاط إنساني عمومًا. وتقوم البنوك بثلاث وظائف أولية، هي التوفير والاستثمار وتقديم التمويل، وأساس نشاطها هو جمع المدخرات والفوائض المالية من أفراد المجتمع أو الشركات، وتمول بها الأنشطة والقطاعات والأفراد، وبقدر ما تتمتع به البنوك من كفاءة فإنها تكون قادرة على تحفيز النشاط الاقتصادي لأي بلد، وتساهم في تنمية الاقتصاد القومي.

هذا ما تنقله إلينا التعريفات المحفوظة والترتيلات الإعلامية المكررة عن "الدور الحيوي" للبنوك في حياتنا اليومية ونشاطنا، لكن هذه المؤسسات المالية "بالغة السطوة" و"فائقة السيطرة" تعد في حقيقة الأمر الثقب الأسود للاقتصاد، إذا ما كانت تستهدف الربح، وفقط، إذ إنها تحاول توجيه الاقتصاد لأي بلد عن طريق منح/منع التمويل عن أنشطة معينة، أو الاندفاع إلى استثمار مدخرات الأفراد المودعين في نشاطات توفر لها العائد الأعلى (الفارق بين ما يدفعه البنك للمدخر وما يحصل عليه من فائدة) بغض النظر عن خطورته أو احتمالات الخسارة، وهو هنا كمؤسسة مالية يخسر أموال الناس، وبالتالي تضطر الحكومات غالبًا إلى التدخل السريع، بفعل كون البنوك أشبه بالأعصاب العارية، القادرة على بث أعاصير عاتية من الإفلاس والإغلاق في كل مفاصل البلد.

في 2008، حدثت الأزمة المالية العالمية مع إفلاس بنك "ليمان براذرز"، وانهيار قطاع العقارات في الولايات المتحدة، ما أدى إلى تداعيات عميقة على الاقتصاد العالمي ككل، لا تزال آثارها قائمة مؤلمة. في هذه الأيام وبعد 15 عامًا من الكارثة القديمة انهار بنك "سيليكون فالي" وهي الضربة الأكبر لبنك أميركي منذ الأزمة المالية العالمية، مع المزيد من الأخبار السيئة المتعلقة بتصنيف بنوك كبرى، وأعلنت "موديز إنفستورز سيرفيس" أنها تخضع 6 بنوك أميركية أخرى لعملية إعادة فحص ومراجعة واسعة، من المتوقع أن تخفض تصنيفها.

بنك "سيليكون فالي" كان أحد المؤسسات المالية التي وضعت رهاناتها بالكامل على الاستثمار في التكنولوجيا الجديدة ومنتجات الذكاء الاصطناعي، ومع التراجع الذي كسر موجة سابقة من التفاؤل بإمكانيات نمو هذه الصناعة وبطء توقعات نموها السريع، فإن البنك بدا وكأنه راهن على حصان مكسور القدم، وراهن بكل شيء دون أي احتياط واجب أو ذكي، في سبيل تعظيم عائداته من الفوائد والأرباح، وجرى كما تظهر الأنباء والشواهد دهس كل الأعراف المصرفية الأولية والأساسية في قرارات منح الائتمان وتجاوز الشروط السليمة للتمويل.

الأزمة الحالية للقطاع البنكي في لبنان لا تحتاج بالأساس لمزيد من التأثيرات العالمية السلبية ومناخ التشاؤم المسيطر لكشف تداعيها وضعفها الشديد. مع قلة المدخول الدولاري للدولة فإن مدخرات المودعين تحولت منذ شهور طويلة ماضية إلى سراب، ومع الإدارة الكارثية لمصرف لبنان بقيادة رياض سلامة، والعجز الحكومي عن السيطرة على هذا القطاع الحيوي، فإن ما يجري في الأسواق الأميركية والعالمية مرشح للاستنساخ في البلد، بطريقة أسوأ وأعمق.
..

إن لبنان المقاوم معرض للحظة خطر وانكشاف، وحالة اختراق شامل تحاول أن تصل عميقًا إلى كل ركن فيه، وتجتهد كي تعري أدق خصائصه وشؤونه وأوضاعه، والانكشاف والتعري يغري أطرافًا عدة لا تنقصها الغواية بالانتهاك، وهذا فوق ما يضربه على الحاضر والمستقبل من ضرائب وتداعيات، راغب بشدة في مصادرة كل فرصة للمقاومة واستعادة التوازن، ومنع كل محاولة للوقوف من جديد.

مبكرًا جدًا رأى الحاج حسين الشامي مشكلة الواقع اللبناني، وهو أن المقاومة عليها أن تقدم هي الإجابة على الأزمة، تبادر بالعمل ولا تنتظر، وتصنع ضمن ما تصنع شبكة أمان اجتماعي فسيحة للمجتمع والناس، ومهما كان الجهد المطلوب أو طول الطريق المنتظر، فإن فكرة "خلق البديل" تدعم وتعضد فكرة المقاومة وتجذر هذا الطريق في نفوس الناس.

جاء بيت مال المسلمين كبداية لتتطور لاحقاً وتصبح جمعية القرض الحسن كإجابة ومفتتح طريق، في آن، مؤسسة مالية بديلة تتعامل وفقًا لمقاصد الشرع وقائمة على المثل الإيمانية العليا، تنطلق من قاعدة النبل التي رسخها سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي "سنخدمكم بأشفار عيوننا"، بتوفير التمويل لما هو نافع للناس، عبر قروض للتعليم وللمشروعات الصغيرة، أو مواجهة أعباء الحياة عمومًا، وهو في ذلك يختلف جذريًا عن أي بنك عادي، إذ لا يعد الربح أو العائد على قائمة الأهداف المطلوبة.

فكرة القرض الحسن هي فكرة موجودة بدول ومجتمعات عديدة، المحاولات الناجحة ــ التي تتضمن عنصر الاستمرار ــ نادرة جدًا أو استثنائية، العمل الجاد المستمر والدؤوب والإخلاص المتفاني هو الفارق المروع بين قصص النجاح أو السقوط. والأهم الإيمان بقدرتنا على إنجاز وإدارة عمل جماعي، وبما يتجاوز الشخوص إلى تطبيق مبدأ العمل المؤسسي المتكامل.

الحاج حسين الشامي هو الرجل الذي لم تقرأ اسمه ولن تعرف سيرته في الإعلام العربي، اسم لن يجد التكريم على الإطلاق خارج بيئته، التي أفنى حياته فيها ولها، اسم قد يمر على الذاكرة دون ارتباط بشيء قوي أو عميق، لكنه واحد من أبطال هذا الطريق الحسيني الملهم، أحد قادتنا ممن ينطبق عليهم وصف جهاد السر أو صدقة السر.

للمقارنة ليس إلا، محمد يونس مؤسس بنك غرامين (بنك القرية بالبنغالية)، يعد شخصًا مشهورًا ومحل تقدير وإعجاب عالمي هائلين، إلى الحد الذي دعا الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون للمطالبة علنًا بمنحه جائزة نوبل في 2002، ودشنت حملة علاقات عامة أميركية للدعم والتلميع، انتهت في عام 2006 بنيل طالبهم السابق جائزة نوبل للسلام، عن فكرة مشابهة للقرض الحسن، لكن في الإعلام الغربي أو العربي الناعق التابع، لن تجد سوى الهجوم والهجوم فقط والهجوم الدائم على مؤسستنا.

في النهاية، هذا المقال ليس تكريمًا لرجل يستحق أغلى أوسمة المجد والكرامة، إنه أقرب إلى دين شخصي بالذكر متجدد، تذكير للنفس بأن الأمل موجود وممكن، مرهون بطريق المقاومة، في وداع الحاج الذي سيبقى بيننا طويلًا بعمله ورؤيته وصدق بصيرته، شكرًا وامتنانًا لكل من ينجح في بيئة عربية، شكر بلا حدود ولا مدى، ورحمات لمن عاش منهم ومات بلا ضجة كاذبة ولا فرقعات صخب مزيفة، طوبى للصادقين الهادئين، طوبى للغرباء.

لبنان

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف