آراء وتحليلات
الصراع العالمي بين قمتي بالي وموسكو
حيان نيوف
أربعة أشهر فقط مضت على لقاء القمة الذي جمع الرئيس الأميركي جوزيف بايدن بالرئيس الصيني شي جين بينغ في جزيرة بالي الأندونيسية على هامش قمة العشرين. القمة الشهيرة وصفت في حينها بالشديدة الأهمية نظرًا لنتائجها التي رسمت الخطوط الحمراء للعلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم، حيث استطاع كل منهما أن ينتزع ضمانات تزيل هواجسه من الآخر ولو مرحليًا.
وفي الوقت الذي أعلن فيه بايدن بأن الولايات المتحدة لا تريد حربًا باردة مع الصين وأنها تسعى لمنافسة مشروعة تحكمها القوانين الدولية، أكد الرئيس جين بينغ لنظيره الامريكي أن بلاده لا تسعى لتحدي الولايات المتحدة ولا إلى تغيير النظام الدولي القائم.
غير أن فترة الشهور الأربعة التي تلت القمة وما تخللها من تطورات وأحداث على الصعيد العالمي، وعلى صعيد العلاقة بين الدولتين العظميين، أثبتت أن نتائج الاتفاق الحاصل في قمة بالي لم تكن سوى إعلان سياسي أراد كل طرف منهما الاستثمار به لفترة وجيزة لتمرير ملفات داخلية تخص كلاً من الزعيمين، فالرئيس بايدن استثمر الإعلان عن اللقاء قبل حصوله لتخفيف خسائر حزبه في الانتخابات النصفية للكونغرس، فيما استثمر "جين بينغ" في اللقاء ونتائجه لتمكين نفسه كزعيم للحزب الشيوعي الصيني مما مهد لاحقًا لإعادة انتخابه رئيسًا للبلاد للمرة الثالثة في سابقة لم يحظَ بها زعيم صيني قبله.
وما إن حقق كل من الزعيمين مبتغاه من اعلان قمة بالي، حتى سارع كل منهما إلى التبرؤ من هذا الإعلان والانقلاب عليه قولاً وفعلًا، ثم لتثبت سياسات كل منهما أن ذلك الإعلان لم يكن سوى هدنة إعلامية وسياسية مرحلية، وأن التطورات الدولية الحاصلة وخاصة ما فرضه الصراع الجيوسياسي والاقتصادي والتكنولوجي والرقمي والتجاري والجيبولتيكي العالمي قد تجاوز النتائج التكتيكية المتواضعة لهذه القمة.
الحرب المستعرة بين الغرب الاطلسي وروسيا الاتحادية في اوكرانيا، فرضت نفسها وبقوة على استراتيجيات الجانبين الصيني والروسي. ولم تتوقف واشنطن عن ممارسة الضغوط الشديدة على بكين لانتزاع موقف علني منها يعادي موسكو، تارة من خلال ملف تايوان وتارة اخرى عبر حلف أوكوس الى جانب بريطانيا واستراليا أو في شرق آسيا والمحيط الهادئ عبر اليابان وكوريا الجنوبية، أو في جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي عبر العزم على انشاء قواعد عسكرية في الفلبين، هذا في الجانب الجيوسياسي، يضاف اليه جوانب اخرى تخص التحكم بموارد الطاقة وبصناعة الرقائق وأشباه الموصلات حيث تم فرض عقوبات على التعاون مع الصين في هذا المجال.
بقيت مواقف بكين متوازنة واتسمت بالهدوء والحكمة لتتوجها لاحقًا بالمبادرة الصينية لحل الأزمة الأوكرانية، وصولًا الى زيارة الرئيس الصيني "جين بينغ" إلى موسكو وعقده لقاء قمة تاريخي مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" استمر لمدة أربع ساعات ونصف، وشكل من حيث نتائجه نقطة تحول كبرى نحو رسم عالم جديد بعيدًا عن الهيمنة الغربية الاطلسية، ومعلنًا نهاية نظام القطب الواحد إلى غير رجعة.
ومنذ اللحظة الاولى لوصول الرئيس الصيني إلى العاصمة الروسية موسكو وحتى مغادرته لها بعد زيارة استمرت لثلاثة أيام لم تتوقف هيستريا التصريحات الامريكية سواء الصادرة عن البيت الابيض أو الخارجية، والتي استهدفت البلدين "روسيا والصين" والزعيمين "بوتين وجين بينغ".. سواء لجهة الملف الاوكراني أو التشكيك بالمبادرة الصينية، وحتى ميدانيا عبر إرسال قاذفتين استراتيجيتين فوق البلطيق اضطر الطيران الروسي للتعامل معهما وإبعادهما، وأخطر فصول الهيستريا والخبث الامريكي كان ما أعلنه البيت الأبيض عن توقيع الرئيس بايدن أمرا برفع السرية عن البيانات المتعلقة بأصل فيروس كورونا في خطوة تستهدف الصين بالتحديد في هذا التوقيت بالذات، ومن ثم إعلان بريطانيا عن عزمها تزويد أوكرانيا بقذائف تحمل اليورانيوم المنضب، إضافة إلى قرار محكمة الجنايات الدولية باعتقال الرئيس الروسي.
كل تلك الهيستريا الأمريكية لم تثن الزعيمين الروسي والصيني عن وضع استراتيجية شراكة جديدة بين البلدين بمواجهة استراتيجية القطب الواحد، حيث خرج الرئيس الروسي معلنا عن سبعة محاور رئيسية تمت مناقشتها والاتفاق عليها، هذه المحاور كفيلة بتغيير وجه العالم: إن روسيا قادرة على تلبية احتياجات الصين من الطاقة، والدعوة إلى زيادة تشجيع ممارسة التسويات المتبادلة مع الصين بالعملات الوطنية، وتم تقريبا الاتفاق على جميع معايير مشروع "قوة سيبيريا – 2"، والاتفاق على إنشاء هيئة عمل في مشروع "طريق بحر الشمال"، واستعداد روسيا لدعم الأعمال التجارية الصينية في استبدال الشركات التي غادرت البلاد، ودعم استخدام اليوان في التجارة بين آسيا وأمريكا اللاتينية، واستعداد البلدين لأن يصبحا رائدين في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال الجمع بين إمكاناتهما.
في المقابل وقبل مغادرة الرئيس الصيني موسكو، خرج وزير خارجيته معلنًا عنوان وجوهر اللقاء التاريخي بقوله: إن الصين وروسيا تمثلان قوى الخير في مواجهة قوى الشر، وإن العلاقة بينهما ستكون بمثابة القوة التي ستجلب السلام والاستقرار العالمي.
لا شك أن قمة موسكو بنتائجها قد أذهلت الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، ووضعته أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاعتراف بالتراجع وفقدان النفوذ والخضوع لإرادة خصومه في محور الشرق لبناء عالم متعدد الأقطاب يحكمه القانون الدولي، أو الاستمرار في المكابرة وسياسات المواجهة وحصد المزيد من الهزائم وصولاً إلى مكان تنعكس معه تلك السياسات على الجبهة الداخلية الأمريكية المتصدعة أصلًا.