طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

دون كيخوت العربي
10/05/2023

دون كيخوت العربي

أحمد فؤاد

قد يكون مستغربًا أن تحوز روايات معينة اهتمامًا يفوق بمراحل كاتبها، وتجذب قلوبًا في مجتمعات إنسانية شتى، وتظل باقية تنبض في غير لغاتها الأم. ورواية الإسباني ميخائيل دي سرفانتس الأشهر على الإطلاق "دون كيخوت" قد طبعت آثارها في كل العالم، وتركت بصمة عميقة على الأدب الإنساني عمومًا، بحيث لا تكاد تخلو لغة أو مبدع من تأثر بهذه التحفة الخالدة.

الرواية المختلفة وضعت على قدم المساواة مع أعمال أخرى عدت هي الأكثر إلهامًا وحفزًا في التاريخ الإنساني كله، بدءا من إلياذة هوميروس وكوميديا دانتي الإلهية وأسطورة فاوست لغوته، وكلها تروي جوانب من قصة الإنسان، كل إنسان، في وجه تحدياته الكبرى، وتكشف عن عوار الواقع أو لحظاته الكبرى الفارقة، وتضخ إلى قارئيها معاني جديدة، وتمنحنا القدرة العجائبية على ركوب أجنحة الخيال حتى أقصى نقطة في السماء.

لكن "دون كيخوت" لا يمكن قراءتها بغير فهم لعصر كتابتها، ولواقع المجتمع الذي كتبت خلاله، فالأدب الإسباني في هذه المرحلة كان ثريًا بفعل التلاقح الخلاق بين الحضارات، والقرن السابع عشر كان هو الآخر الأكثر حركة والأعمق تأثيرًا في أوروبا والغرب، والنقد قد طال كل شيء، وحمل كلًّا من جون لوك في إنجلترا وديكارت في فرنسا لواء التنظير للعقل والمنطق ضد الجمود والارتداد إلى عصور الظلام، إلا أن دي سيرفانتس نجح في ترجمة هذا كله عبر شخصية "ألونسو كيخانو"، الفارس العجوز، والذي تجد فيه كل قيم الفروسية العربية التقليدية، من النبل والشهامة والإيثار، رغم محدودية قدراته، وكل شيء حوله.

تحملنا الرواية إلى قراءة نفسية للإنسان الهارب، الفار من واقعه إلى زمن مضى وانتهى، البطل ليس كما هي العادة صاحب الحق والحكمة، لكنه على العكس تمامًا، غارق في الوهم، ويجابه أزمته بمزيج من التمني والخيال وحتى الجنون، يتصادم مع الدنيا مستندًا إلى حلم ضبابي، يقاتل لا لينتصر لكن ليفر، إنها باختصار قصة الإنسان الأبدية مع العجز، حين يحكم الضعف ويقود البؤس ويسيطر.

النخب العربية كلها وأغلب الحكومات لا تزال ترى في الأميركي "صاحب اللعبة" الذي لو شاء أنقذ الجميع. والخطاب الرسمي لا يحمل وجهات نظر متباينة، فالكل في أزمته ينتظر من واشنطن التفاتة عطف أو فتات إحسان، عله يمدهم بطوق النجاة، ويضمن أن لا يتحول الواقع العربي إلى شكل أسوأ من مخيم لاجئين ضخم وواسع، بحجم كل الوطن العربي.

لا تزال النخبة العربية تمارس هذا الدور "الدون كيخوتي" أمام شعوبها، وتحمل رماحها وتحارب طواحين الهواء. تدعي مرة أن تكلفة المقاومة فادحة، أو أن أزمة الحكومات أنها لا تنفذ المعايير الغربية في الإصلاح، أو التوقف عند كلمة الفساد، وترك الحديث عن التبعية –أصل كل الشرور- لكي لا يغضب المانح الأميركي، وهكذا وقعنا في تحويل واقعنا إلى سيناريو خيالي بائس، بل أكثر بؤسًا مما حلم به سيرفاتنس وفارسه العجوز.

وفقًا لمؤشر الاقتصادي الأميركي البارز ستيف هانكي، فإن الدول العربية سقطت في فخ موجة التضخم، لكن الفارق الوحيد هو أن الدول البترولية منها قد استفادت من ارتفاع أسعار الطاقة لموازنة اقتصادياتها، بينما ارتشفت الأخرى كؤوس المرارة كلها، ووحدها.

ونشر الاقتصادي الأميركي ترتيبه لدول العالم وفقًا لمعدلات التضخم، لتضم الدول الخمس الأولى 3 دول عربية، هي: لبنان وسورية ومصر، بالترتيب، ولا يمكن لعاقل أن يقول إن خيار المقاومة كان على لائحة الاهتمام الرسمي المصري منذ مباحثات الكيلو 101 –فك الاشتباك مع العدو الصهيوني في 28 تشرين الثاني/ أكتوبر 1973 - وبالتالي فإن رد أزمة لبنان الموضوع على قائمة الاستهداف الأميركي أو سورية التي يفرض عليها قانون "قيصر" لحصارها، إلى خيار المقاومة هو الجنون بذاته.

الشر قائم والوضع صار أليمًا موجعًا لأن الشيطان الأميركي موجود، ومتوغل في مجتمعاتنا، الخراب هو النتيجة طالما قبل البعض بالعمل وكيلًا للأميركي في الداخل العربي، والأميركي لا يتدخل لمصلحة أحد، مهما بالغ في خدمته وتذلل لنيل الحظوة، النهاية الوحيدة المعروفة هي القتل وسوء المصير، سواء كان بالسم أم بالسيف، لا يهم، كلنا عند الأميركي عرب، وكلنا مستباح ومطلوب، حتى من كان في الحظيرة.

على الجانب الآخر من العالم، فإننا نمر بزمن عنوانه الأفول الأميركي، والتمنيات بانهيار هذا الشيطان بدأت تتحول إلى وقائع لها أدلة تسندها، ونظرة مستقبلية متشائمة للمستثمرين والحكومات هي بذاتها عنصر فاعل وعامل له ثقله في رسم صورة منطقية للتطورات، لم يعد الدولار الأميركي هو سيد الحاضر الأوحد، وبالتأكيد فإنه لن يكون جزءاً من عالم الغد.

رغم وعد الإدارة الأميركية، غير المسبوق، بحماية البنوك وضمان أموال المتعاملين والمودعين، فإن الأسبوع الحالي قد شهد انهيارًا جديدًا في هذا القطاع الحيوي، بفعل أزمة عنيفة تهز الاقتصاد الأميركي وتكاد تعصف به، ولحق بنك "فريست ريبابلك" بشقيقيه "سيجنيتشر" و"سليكون فالي"، لتكون كلها مسامير أخرى ضخمة تدق في نعش السيطرة المطلقة للولايات المتحدة على القطاع المالي والمصرفي العالمي، وتحكم بالفشل على أية وعود أو جهود تبذل من قبل الحكومة أو الاحتياطي الفيدرالي لكبح جماحها.
الأزمة الحالية لا تعد تكرارًا لأزمة الركود الهائل في 2008، إذ تعادل البنوك الثلاثة التي انهارت بالفعل أكثر من 25 بنكًا قضت عليها الأزمة السابقة، لكن جذر المشكلة الحالي لا يكمن في قرارات استثمارية خاطئة لإدارات البنوك، ولا خيارات مجالس إداراتها بالخوض في عمليات ائتمان مرتفعة المخاطر مقابل عوائد كبيرة، لكنها هذه المرة تنبع من طبيعة السرطان الذي انتشر في الولايات المتحدة.

يجزم أغلب المحللين الماليين والباحثين أن مسلسل رفع سعر الفائدة الذي لجأ له الاحتياطي الفيدرالي لامتصاص التضخم الرهيب في أميركا كان صاحب الدور الأكبر في انهيار بنوكها، إذ يجبر القرار البنوك على رفع عوائد المدخرات، ومع اهتزاز الثقة العالمية في الدولار، وتراجع الدور المهيمن الذي تمتع به في التبادلات التجارية العالمية، فقد كان السلاح أشبه بمنح قبلة الحياة لتوقعات الأسوأ، والتي تقود بطبيعتها إلى دورة جديدة من الانهيار.

ولا شك أن القرار الأميركي بفرض عقوبات واسعة المدى على روسيا وعلى الشركات التي تتعامل معها من أية دولة في العالم، كان هو الآخر سلاحًا عكسيًا، رفع التضخم في الولايات المتحدة والعالم كله، ثم أضافت له الحرب تكاليفها وأعباءها، بأن أجبرت البعض وأقنعت الآخرين على سياسة ثابتة لاستبدال الدولار في احتياطياتها المالية، وتقليل ما تحوزه من سندات خزانة أميركية.

مستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، ألقى خطابًا مؤخراً في معهد "بروكينغز"، بعنوان "تجديد القيادة الاقتصادية الأميركية"، حمل اعترافاً واضحًا بشكل لا يقبل الشك بضرورة إجراء إصلاحات مؤلمة وملحة على الاقتصاد الأميركي، وعلى طبيعة تفكير الإدارة الأميركية ذاتها، بالتحول من مرحلة الأسواق المفتوحة إلى نوع أكثر تشددًا وانغلاقًا، لمكافحة التضخم وإعادة إنعاش الاقتصاد بعملية تغيير كبرى.

قد يكون حديث المستشار الأميركي صحيحًا نظريًا، إلا أن القيود على الأسواق والمستثمرين بدورها تحمل مخاطر أكثر من منافعها، إذ إن التشدد يؤدي بدوره إلى الانكماش، وهو ما سيحمل الاقتصاد إلى بطء معدلات النمو، والأخطر في الحالة الأميركية أن التضخم وحش قائم وموجود، وإذا ما أضيف إليه الركود قد نصل إلى الحالة الأسوأ اقتصاديًا وهي الركود التضخمي، بما يؤدي إليه تأكيدًا من كساد واسع، ثم انهيار متتالٍي ومتسارع في القطاعات الاقتصادية كافة.

لم يكن غريبًا على ولي العهد السعودي أن يسعى إلى تأمين مكانه في المستقبل، وبطبيعة الأسرة السعودية وبحساسيتها الشديدة تجاه التغيرات الدولية، فقد كانت واحدة من الدول التي سعت إلى فتح طريق جديد مع الصين، وصل إلى اتفاقيات وعقود وخطط تعاون واسعة المدى، تحسبًا للحظة يحتاجون فيها إلى حليف على القمة، إلى جدار من صخر يأوون إليه إذا ما انهار الحائط الأميركي المتصدع.

العالم العربي بحاجة إلى أن يقرأ الواقع الحالي، وما يجري فيه من حوادث تؤشر لانقلابات رهيبة، في حاجة إلى إعادة ضبط المؤشر على تأمين الحق العربي في الحياة، ووسط الاستهدافات والتربص الأميركي والصهيوني بفلسطين وسورية ولبنان، وتعدد أشكال الحرب التي تجري في المنطقة، لا بد من وقفة تعيد لنا الأمل في المستقبل الذي يوشك على الميلاد.

الاستمرار في طريق التبعية للأميركي لن يحمل أي جديد، سوى الدم والألم والصرخات اليائسة العاجزة، ولن تكون النهاية بالطبع أسعد من نهاية "دون كيخوت" ملقى على سرير قديم يعاني المرض، بعد أن عجز جسده عن مجاراة أحلامه، ليتقابل أخيرًا مع الحقيقة الوحيدة في حياته، وهي أن كل ما سعى إليه وأفنى فيه روحه وآماله كان سرابًا هائلًا، ومميتًا، وهي أبشع نهاية لإنسان هارب.

الاقتصادالعالم العربي

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة

خبر عاجل