آراء وتحليلات
جنين.. انتهى زمن الفعل المجاني
أحمد فؤاد
يستقبل العرب عالمًا جديدًا أفقه يشتعل بالبارود والنار، وكل خطوة فيه تنذر باحتمالات انفجارات مؤكدة، وحتى إن لم تكن في قلب جغرافيته فإن شظاياها واصلة إليه بشكل من الأشكال، وفي هذا الوقت فإن الواجب على كل إنسان في هذه المنطقة أن يتوقف، ويتساءل، ويقيم أحواله في الفترة القليلة الماضية، ويبحث عما ستؤول إليه أحواله في الأيام المقبلة، وهي صعبة وطريقها مزروع بالأشواك وخياراتها عصيبة مرتفعة التكلفة والأثمان.
وفي قلب أي حديث عن مستقبل عربي، تأتي فلسطين كركن أول وعنوان لازم، تحرير كل عاصمة عربية وفك أسر كل عربي لن يتحقق سوى بزوال كيان العدو من أرضنا العربية، واستمرار وجود الكيان لا يؤثر مباشرة على الإنسان الفلسطيني في الأرض المحتلة، لكنه كذلك يخصم من حرية كل إنسان ويصادر جانبًا من موارده، وبالعموم، فإنه يخلق شرخًا هائلًا لا يُدارى في إمكانية أي فعل عربي جماعي بالحاضر والمستقبل.
هكذا يكون الطرح الواعي لطبيعة الكيان ونظرتنا إليه وتعاملنا إزاءه، فهو صراع صفري وحق مطلق، يحتمل إجابة إما نحن وإما نحن، وتنحصر نتائجه بين أن ننتصر أو أن ننتصر، لا توجد فيه احتمالية الحلول الوسط ولا يقدم لنا أوقاتًا مستقطعة في شكل هدنة مؤقتة أو معاهدة قانونية، سؤال الصراع الوحيد هو هل نرغب في الحياة والوجود، أم لا.
في الواقع فإن رمضان المبارك الماضي قد قدم لنا فرصة العمر للحلم بالفضاء على هذا الوجود السرطاني في قلب الأمة، حين انهمرت الصواريخ على شماله وجنوبه وقلبه، ووقف عاجزًا عن الرد والردع، وابتلع في مهانة وذلة كاملتين ضربات رجال الله، ومضت عملية "ثأر الأحرار" ولم يجرؤ الكيان أن يروج –كالعادة- أنه انتصر أو أنجز، حتى على مستوى جبهته الداخلية المهترئة بشدة.
أثبت ما جرى في رمضان المبارك أن هذا الكيان اللقيط هش للغاية، ليس لأن حكومته مهتزّة منقسمة، ولا لأنها يمينية، فالكل هناك متطرف دموي، بل لأنها قدمت الدليل على أن الأرض تلفظ النبتة الشيطانية دائمًا، طبيعة الحياة وقدرها المحتوم أن الشجرة لا بد لها من جذور حقيقية ضاربة في التربة، خلاف ذلك فستتحول إلى هشيم تذروه الرياح العاصفة في يوم ما.
الكيان الذي أصيب بشيخوخة مبكرة أو حالة عجز جعلته متيبس المفاصل غير قادر على مجاراة ما يحدث حوله، وحتى في قلبه، بدا كالعملاق المشلول التائه، لا يستطيع الهروب من الضربات القادمة، ثم إن حجمه لا يتيح له القدرة على الاختباء وراء شيء، والأم التي تهتم وترعى مشغولة بخسائرها ومواجهاتها في جبهات أخرى عديدة، مفتوحة ومشتعلة، وتهدد سيطرتها ووجودها، وفي هذا كله كان الظرف التاريخي يقدم لنا الفرصة، المقاومة هي أول شروطها وأهمها، والاستمرار في حشد وتعبئة الطاقات وراء هذا الهدف الأسمى يضمن –وحده- النصر الكامل، والنصر الأكيد.
في مواجهة هذا كله، والخيارات أمام الكيان تتقلص وتضيق، وتكاد تتلاشى تمامًا، قرر العودة إلى أسلوب الغرب الوحشي المعتمد، باختيار أضعف حلقة في جبهة المواجهة الواسعة، وتركيز هجومه ونيرانه، وجل ما يملكه من أدوات دمار وموت، هذا الأسلوب يعد اختراعًا أميركيًا بشكل حصري، جربوه واستعملوه في الحرب العالمية الثانية ضد المدن والشعوب، فيما عرف بـ "حملة القصف الإستراتيجي"، التي كانت استهدافًا واسع المدى للبنية المدنية بالأساس، وخلفت ضحايا في كل بلد طالته قاذفاتهم النفاثة، ولعل من المفيد ذكره أن ضحايا قنبلتي هيروشيما وناغازاكي الذريتين لم يزيدا عن قصف المدن الألمانية، بالذات دريسدن وكولونيا، كما أنه أقل من ضحايا هجوم القنابل الحارقة الشهير على العاصمة اليابانية طوكيوـ في العاشر من آذار/ مارس 1945، في واحدة من أكثر الغارات تدميرا في تاريخ الطيران العسكري، والتي أفنت خلالها نصف المدينة الكبيرة.
العدو اختار "جنين" موقعًا لرد اعتباره من المقاومة، وإجابة ظنها سهلة عن سؤال التحدي الوجودي الذي يهدده، وحشد قواته وطيرانه ومدفعيته وجرافاته الثقيلة المصفحة ودبابات الميركافا، لمحاولة تحقيق نصر دعائي أولًا، وخطوة نحو مواجهة محسوبة العواقب والتبعات، مع مخيم صغير المساحة والعدد، محدود الإمكانيات في مواجهة هذا الجيش الجرار، نصر بلا تكلفة تقريبًا أراده العدو، أو هكذا صور له شيطانه العملية في جنين.
بعد يومين من القتال العنيف، تجلت أزمة العدو أكثر، وانكشف تداعي بنيانه وضعفه وعجز كل ما في ترسانته من سلاح عن الردع، الروح التي قاتلت في جنين أثبتت مرة جديدة قدراتنا الخلاقة على المواجهة وكتبت ملحمة أسطورية جديدة على الأرض العربية، الروح –كما قالها الشهيد القائد عماد مغنية- واصلت تقديم الإجابة وانتزاع النصر من رحم المستحيل، بسلاح خفيف ونفوس ثابتة كالجبال عجز الكيان عن تحقيق أي هدف رئيس من عمليته، لم يعثر على مقرات العرين، ولم يتمكن من تكرار سيناريو 2002 بهدم كامل المخيم وتصفية مقاومته، والأهم: وحدات النخبة القتالية لديه تقع في كمين تلو كمين، رغم التكتم المعلن على قتلاه.
وبالتوازي مع ما قدمه الأبطال في جنين الصمود، خرج بطل آخر من نابلس، حسين خلايلة، ليقدم المدد والعون للرجال في وقفتهم العظيمة، ويضرب -من جديد- قلب الكيان في تل أبيب بعملية فدائية، تنشر الفزع والرعب في صفوف قطعان المستوطنين وحثالة البشر، وتزرع في قلوبهم اليقين بأن كل ضربة صهيونية، في أي وقت وفي أي مكان، لم تعد مجانية ودمنا لم يعد متاحًا كرصيد مفتوح بلا مقابل لحكوماتهم، وكل نار تشتعل في أرضنا سترتد عليهم جحيمًا لا ينفد ولا يعرف الحدود.
الأكثر إثارة في عملية البطل "حسين"، باسمه ورمزيته المقدسة الهائلة، أن المنفذ ارتدى زي الجيش الصهيوني، ووجه صفعة كبرى للكيان وأجهزة أمنه ومخابراته، في الوقت الذي يفترض فيه أن يكونوا على أهبة الاستعداد وفي قمة الجاهزية وفي ذروة التأمين، في فلسطين حسين يكتب للكل أن اليأس لا يُهزم إلا بالإيمان.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024