آراء وتحليلات
سادة وعبيد!
أحمد فؤاد
"لا مجال للخُروج مما نحن فيه سوى أن نشق طريقنا عنوة، وبالقوة، فوق بحر من الدم، وتحت أفق مشتعل بالنار".
ثائر عربي، في زمن ما ليس ببعيد.
قال الفيلسوف الألماني فريدريش هيجل: "تعلمنا من التاريخ أن لا أحد يتعلم من التاريخ". وفي هذه البقعة الجغرافية المنكوبة بأنظمتها وحكامها، ربما يمكننا الإضافة إليها، بغير شبهة تجنٍّ، أن البعض يتوهم أنه يستطيع أو يملك القدرة على معاندة التاريخ وقهر الطبيعة الإنسانية، ولا تزيده معرفة أخبار مئات الحكام قبله أنه –مثلهم- ليس سوى غبي جديد مغتر بغبائه.
في المنطقة العربية، اليوم، ظلال مواقف كبرى شاهدة وفارقة، غيرت مجرى الزمن وقلبت كل ترتيب وميزان. اليوم تتمثل "عاشوراء" بنورها وعبيرها، وبأرقى ما تنشره من مثل الحق وحسن الظن بالله، كما نعيش ذكريات حرب تموز المجيدة، بكل ما تحمله إلى نفوسنا من ثقة في قدراتنا وإمكانياتنا، وأيضًا تمر بنا ذكرى فاجعة غزو صدام حسين للكويت، بكل ما حمله بعده من جملة آلام وضياع، فرق الأمة العربية كما لم يفعل بها حادث في التاريخ القريب، وبدد ثروات العراق ورهن الباقي من موارد الأمة لصالح الشيطان الأميركي.
بداية، فإن سماحة السيد حسن نصر الله، في خطابه لتأبين فقيد العلم والعلماء العلامة الشيخ عفيف النابلسي، قد وضع يده على جراح الأمة النازفة، ووصف مكمن دائها، ووضع بكلمات بسيطة، لمناسبة تربوية، رسمًا استراتيجيًا دقيقًا وحاسمًا للطريق التي يمكن أن تحملنا إلى تغيير حقيقي في معطيات وأسباب موقفنا الصعب الحالي. تصورات سماحة الأمين العام لا تنطوي على مخاصمة للحقائق أو الثوابت، بل لعلها تؤكدها وتزيدنا إصرارًا على التمسك بها، وهي كلها موقف ليس بجديد من السيد، إنها الضرورة الأمينة للمصارحة والمكاشفة بما يقف أمامنا من عوائق، في سبيل ضمان الحركة الصحيحة في الاتجاه السليم. إنها صورة الوضع من قبل قائد يريد أن يواجه العواصف بما يتوفر لديه، ولا يتذرع بما يعيق قدراته، أو قدراتنا، إنه يصف الداء والدواء، في آن، بما يجعل المهمة كلها ممكنة.
رسم لنا الأمين ببصيرته وقدرته الفذة على قراءة اللحظة خطين أساسيين للأزمة التي تمر بالعالم العربي، أزمة خارجية تتمثل أولًا في الولايات المتحدة، الشيطان الأكبر، قطب الشر وعنوان الاستكبار وبوابة الخراب المكثف، وراعية المآسي ونافخة نيران المصائب في بدن الأمة وأطرافها. أية أزمة توجع العربي اليوم نستطيع بكل بساطة وثقة ردها إلى الأفعى التي تعتصر أجسادنا وتنفث في دمائنا سمومها الناقعة، وواشنطن ابتداءً وراء ما نمر به اليوم من قتامة واستبداد ووحشية وظلام مقيم.
قال السيد بعبارات واضحة لا تقبل لبسًا ولا تأويلًا: إن "الكهرباء لم تصل إلى لبنان، بسبب المنع الأميركي للغاز المصري والكهرباء الأردنية، ثم جاء حزب الله بالهبة الإيرانية، ومنعت أميركا الحكومة اللبنانية من استقبالها"، وأضاف أن: "كل المعاناة التي تعاني منها سوريا مثلا هي بسبب العقوبات الأميركية وقانون قيصر، ثم هي تمنع العراق من دفع ثمن الغاز الإيراني لخلق أزمة في الشارع هناك، ثم تلقي باللائمة على إيران".
أبعد من ذلك، أكد سماحة السيد –من جديد- أن سبب عدم التوصل إلى حل في اليمن، ينقذ هذا البلد العربي العزيز من جحيم الحرب المستمرة عليه وفيه، هو "الإرادة الأميركية بمنع التوصل إلى أي حل"، وهو أمر ذي مرارة خاصة، مع ما يمر به اليمن من ظروف لم يعد وقف الحرب فيها رفاهية، وتأثرت كل مرافقه ومناحي الحياة فيه من العدوان المجرم الدموي. وطبقًا لتقارير "يونيسيف" منظمة الأمم المتحدة للطفولة، فإنه في كل ساعة واحدة تموت أم يمنية و6 أطفال بسبب الحصار الوحشي وانعدام الخدمات الطبية الأساسية، ويتعذر الحصول على المستلزمات الصحية أو شراء واستيراد الأدوية والأجهزة للمستشفيات، وملايين اليمنيين وخصوصًا الأطفال معرضون للخطر المؤكد، في أضخم كارثة إنسانية وأكثرها ترويعًا مرت على الكوكب، ولا يزال صوتها خفيضًا ضعيفًا عديم الانتشار، طبقًا لأولويات الأجندة الإنسانية الأميركية.
السبب الثاني، الأكثر لمسًا للوجع ولأعصابنا العارية، هو الداخل الممزق وأخلاقية الهزيمة التي تنتشر بشكل مرعب في الأمة العربية، قال السيد: "نحن نفتخر عندما يقال إننا من محور الممانعة، لأن ذلك يعني أننا لسنا عبيدا أو أدوات، شرفاء وسادة". الفكرة الأميركية في تقسيم العالم العربي إلى مروض ومتوحش هي فكرة قديمة، بقدم دخولهم المشؤوم إلى المنطقة، وبالتالي هم نجحوا في زيادة الهوة والانقسام في العالم العربي، ودفعوا بجهودهم وضغوطهم ومؤامراتهم فئة التابعين إلى سدة الحكم في أغلب البلدان العربية، هذه الفئة من سادة الأمر الواقع لا ينتمون في الحقيقة إلى الأمة ولا يعرفون عن قضاياها ولا تشغلهم مقدساتها أو مستقبلها، هم فقط عبيد الأوامر الأميركية، ومستعدون للسجود مع أول إيماءة من البيت الأبيض.
بهذا المنطق يمكن فهم اللامبالاة التي تعاملت بها حكومات الدول العربية مع الإساءة لكتاب الله الكريم من دولتين تافهتين في شمال غرب أوروبا، السويد والدنمارك، حيث عزّت حتى البيانات الرسمية، بكل ما فيها من معانٍ عجز فاضح، ولم تبادر تلك المسماة جامعة عربية لاتخاذ موقف يليق بما حدث من امتهان لكل قدسية أو كرامة.
جذر الأزمة العربية الحالية، والممثل في جبهتنا الداخلية ذات الصدوع والندوب ليس جديدًا، إنها الصورة الأكثر تكرارًا في نهاية عصور الاضمحلال، ومشاهد ما قبل التحولات الكبرى، سنوات الخفوت العربي أنتجت لنا أغرب ما مر بالبشرية من أسقام، حين صعد إلى كراسي الحكم على حين غرة الأتباع، مستغلين استعانة الحكام وأسياد القصور بهم كخدام مؤتمنين على الغرف والممرات الملكية المذهبة، ولعل أشهرهم "كافور الأخشيدي" المملوك المنسوب لسيده محمد بن طغج الإخشيد، والذي قفز إلى سدة الحكم في القاهرة في غفلة من الزمن وتقلب من الزمن عجيب.
في الواقع فإن العنوان العربي الأبرز ما أشبه الليلة بالبارحة، فقد مررنا بسيناريوهات عجائبية، يقف العقل أمامها بانشداه ذاهل، أقرب ما تكون إلى حكاوي ألف ليلة وليلة منها لتاريخ أمة عريقة تملك من الأسباب ما يجعلها دائمًا سيدة العلا ويمنحها أسباب المجد. اليوم تدحض روسيا كل ما كان يقال –أو يفترض- عن فعالية العقوبات وقوانين الحصار الأميركية، كما داستها سابقًا إيران، ويقر الغرب ذاته أنها صارت سياسات ماضوية لا تصلح للتطبيق في كل الظروف ومع كل الشعوب وتستعد فرنسا بكل ارتباطها بواشنطن لعصر ما بعد الدولار، وهي معادلة بسيطة أن أية أمة تملك القدرة على الصمود وتتمتع بالاكتفاء الذاتي من الغذاء والسلع، تستطيع تحويل سيف العقوبات الأميركي إلى حبر على ورق، وبدلًا من أن تقوم حكوماتنا ونخبنا بالتأصيل لتلك اللحظة ومحاولة اتخاذ ما يلزمها من سياسات تعيد بناء موقف إستراتيجي سليم يضمن لنا مكانًا في المستقبل، ويفك من أعناقنا طوق التبعية للأميركي، تتفنن في نشر التفاهة واستجلاب أدوات الترفيه لتشوه وعي الشعوب العربية وعقولها ووجدانها.
والكارثة أن هذه الطبقة لا ترى المصيبة إلا حين تقع على رؤوسها. ويذكر أن إحدى أهم الأدوات الأميركية في العالم العربي، الرئيس المصري الأسبق –المخلوع- مبارك، قضى سنوات حكمه الثلاثين الكئيبة في ظل قناعة أرساها سلفه، السادات، أن كل أوراق اللعبة في يد الأميركي، لكنه أدرك الحقيقة عند الربع الأخير من الساعة الأخيرة في عمر نظامه المأفون حين قال الدرس المتأخر لأمثاله إن "المتغطي بالأميركان عريان".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024