آراء وتحليلات
من يحاصر من؟
أحمد فؤاد
عادت كلمة الحصار، بكل نزيف وجعها وآلامها ومرارتها، إلى الواجهة العربية مرة أخرى، بعد إنهاء الولايات المتحدة لما قيل إنه "وقف مؤقت" للعقوبات الاقتصادية ضد سوريا عقب الزلزال المدمر، فيما يتعلق فقط بأنشطة تقديم المساعدات الإنسانية للمنكوبين. والكلمة بدلالتها المفجعة جد موجعة للضمير العربي، إذ بدأت بحرف الحاء، وهو ذو معنى لافت، إذ يمثل الحدة والحسم والسخونة، فوقًا عن شواهدها القائمة على أعصابنا وتجاربنا وواقعنا المرير.
العقوبات الاقتصادية، بداية، هي سلاح فعّال للغاية، تستخدمه الدول الكبرى منذ قرون طويلة، لحصار وإضعاف أعدائها، لكن مع الولايات المتحدة تحول إلى سلاح دمار شامل، بما يفرضه من حصار عبر أدوات الهيمنة الأميركية الساحقة، التحويلات المالية الدولية والدولار، إذ يمكنها في هذه الحالة أن تحول حياة الشعب المستهدف إلى جحيم، حيث توقف تبادلاته التجارية مع العالم الخارجي، وتعيق كل عمليات التصدير والاستيراد وغيرها، كما أضافت واشنطن في العقد الأخير نوعًا جديدًا من العقوبات دعته بـ"العقوبات الذكية" وهو يستهدف شخصيات معينة في الأنظمة المعادية لها، تشمل حظر السفر والتجارة والتحويلات المالية، وتجميد الحسابات البنكية والمنع من الحصول على تأشيرات السفر وغيرها.
قصة العقوبات الأميركية على سوريا قديمة، منذ العام 1979، حين رفضت دمشق أن تنخرط في عملية استسلام أولى للكيان الصهيوني، كان بطلها أنور السادات أول ما باع وتخلى عن قضية فلسطين، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وضعت سوريا في ما سمته الولايات المتحدة "محور الشر" بجانب إيران وكوريا الشمالية، وبدأت بتطبيق سلسلة من العقوبات عليها ابتداءً من العام 2004.
وبعد الحرب الكونية التي شنت على الدولة السورية واستهدفت تقسيمها وتدميرها، كما جرى في ليبيا، أقرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أقسى العقوبات الممكنة ضد سوريا، وشهد العام 2020 بالذات، دخول قانون "قيصر" الأميركي الخدمة، كترسانة كاملة مصوبة تجاه أي حركة سوريا في العالم، وهو قانون يتفرد بأنه يعاقب أي فرد أو دولة أو مؤسسة تتعامل مع سوريا، وتشمل بنوده عقوبات اقتصادية ومالية ومصرفية، تستهدف التدمير الشامل للصناعات السورية، ومن ضمنها كل ما يتعلق بمشاريع البنية الأساسية وإنتاج الطاقة.
وتطال مواد القانون أي شخص أو شركة أو دولة، تبيع أو توفر سلعًا أو خدمات أو تقنيات أو معلومات أو دعم يمكن له زيادة الإنتاج المحلي في سوريا، خصوصًا من البترول والغاز الطبيعي، أو أي جهة أو مؤسسة توفر قطع الغيار للآليات أو الطائرات للحكومة السورية أو من يمثلها أو يعمل في سوريا، أو أي شخص يوفر عن علم بشكل مباشر، أو غير مباشر، خدمات بناء أو استشارات هندسية للحكومة السورية.
..
المبدأ الأساس في مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية يمكن أن يختصر في كلمة واحدة هي "الإرادة". إن أراد شعب ما الحياة فسيستجيب القدر، في كل دولة خضعت لهذه السلسلة من العقوبات، ومهما بلغت قسوتها، ومهما طال مداها الزمني، فإن وجود الحكومات في خندق واحد مع شعبها، والرؤية الصائبة، والوعي، ورفض البلطجة الأميركية، كلها كلمات تقف وراءها لفظة الإرادة مستترة أو واضحة، تكشف كيف عبروا أزمتهم، وكيف انتصروا في حربهم.
الحصار الاقتصادي أو سلاح العقوبات الأميركي هو حرب دون بارود ولا دخان، حرب صامتة، تستهدف أصلًا كسر إرادة الدولة، وجرها إلى ما تريده واشنطن من مواقف ومن سياسات، وتاريخ المنطقة مع هذه العقوبات طويل ومليء بالأمثلة على أنظمة تحدتها وكسرتها وتجاوزتها بنجاح هائل، وفي العالم فالنماذج أكثر وأدل.
النموذج الأقرب لسوريا هو مصر، التي خضعت عقب قرار تأميم قناة السويس في 1956، لسلسلة متتالية من العقوبات الغربية، استهدفت كسرها بعد أن عز عليها ذلك في العدوان الثلاثي، هذه الفترة وحتى العام 1970 كانت فترة البناء المصري الأضخم والأعظم على مر التاريخ الحديث، وواحدة من فترات التنمية وإقرار العدالة الاجتماعية، بشكل يعيدها للأذهان دائمًا، مصحوبة بكثير من الشجن والأسى، والزهو.
الموجع واللافت، في آن، أن الحكام الذين تلوا جمال عبد الناصر، تفننوا في بيع كل مصنع وكل شركة بنيت في هذا العهد، ثم انقلبوا ليقولوا إنه سبب الأزمات، وقلوبهم تحمل يقينًا أن السقوط المصري قد بدأ في 1967، في الحقيقة بدأ السقوط مع الارتماء في الحضن الأميركي، وبحجة الرخاء، ولم يجن الناس سوى المر والهلاك، والوضع المصري الحالي لا يحتاج إلى جهد شرح، في أكثر التوصيفات تهذيبًا تحولت قوة الشرق الناهضة سابقًا إلى دولة "مدمنة قروض"، تتذلل لجلبها من دول الخليج، ومن غير دول الخليج.
في المنطقة يبرز أيضًا المشروع الإيراني، الذي قطع خطوات واسعة في وجه حصار غربي كامل وقائم منذ انتصار الثورة الإسلامية في 1979، ولأنها ثورة رفعت شعار الفداء والتضحية في وجه العالم، فقد تمكنت بذكاء وقدرة من تحويل هذه المحنة إلى فرص، انتشرت الصناعات المحلية، وزاد الاهتمام بضمان الاكتفاء الذاتي من العذاء والدواء، واليوم، فإن التطور والتكنولوجيا الفائقة التي تجاري أكبر الدول أصبحت حقيقة ثابتة وواقعة وعلى الأرض، تقدم الدرس لمن يريد أن يتعلم الدرس.
ليست استعانة ثاني أكبر منتج للسلاح في العالم، روسيا، بطائرة مسيرة من إبداع الهندسة الإيرانية سوى دليل ضمن حزمة دلائل على ما يمكن للشعوب الحرة أن تحققه بإرادتها وتصميمها وإيمانها، الدولة المحاصرة تقدم لغيرها في محور المقاومة الإمكانات المادية والمعنوية في التزام مبدئي وأخلاقي تجاه قضايا الأمة الإسلامية، وهي تقوم بحمل هذا العبء في ظل تخلي الدول العربية الكبيرة عن أدوارها وعن قضاياها وانسلاخها عن أمتها.
الجمهورية الإسلامية تمكنت قبل أيام من إجبار الشيطان الأميركي على فك تجميد أصوله لدى كوريا الجنوبية، مقابل الإفراج عن أميركيين محتجزين، خشيت الإدارة الأميركية من استخدامهم كسلاح ضدها في انتخابات الرئاسة العام المقبل، لتثبت من جديد أن كسر الإرادة الأميركية ممكن ومتاح، فقط نحتاج لإرادة الانتصار عليهم.
في لبنان، البلد العربي الصغير المساحة، الكبير بمقاومته، فرض إرادته على الأميركي والصهيوني، حين بدأ التنقيب عن الغاز الطبيعي، عقب اتفاق تعيين الحدود البحرية مع فلسطين، الخوف الأميركي من عواقب غضب وعواصف نار تطال الكيان في حال معارضة المشروع وبدء الاستخراج كان واضحًا وكاشفًا إلى أي مدى يمكننا التأثير وتوجيه الضربات وقلب المعادلات في المنطقة، فقط بالإرادة.
..
لا يمكن ذكر الحصار دون الالتفات والتفكر في واحدة من كلمات سماحة السيد حسن نصر الله، وهي تنتمي بامتياز إلى الأدب الرسالي النبوي والخلقي الرفيع، لمناسبة الذكرى الأولى لاستشهاد القائدين الجهاديين الكبيرين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، قال السيد عن الحصار الأميركي لحزب الله: "نحن في ثقافتنا نُؤمن بالله عز وجل وأن الله سبحانه وتعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، ونحن نَعتبر أننا نقوم بتكليفنا، نحن عباده ونعبده، نعبده في الصلاة ونعبده في الجهاد وعندما نُطيعه ونَعبده نكون جُنداً له، وعندما نكون جُنداً له نُصبح جزءاً من جنوده في هذا الوجود وفي هذا الكون، "وما يعلم جنود ربك إلاّ هو"، حتى لو حاصرتمونا بقطعة أرض صغيرة، نحن الذي نَشعر فيه، لِتعرفوا من تُقاتلون ومن تُحاصرون، نحن الذين نَشعر فيه أننا نحن لسنا محاصرين، نحن مَعنا الأرض والجبال والوديان والتراب والأنهار والبحار والمحيطات والسحاب والرياح والشمس والقمر والنجوم والسموات السبع والملائكة، وما خَلق مما نعلم ومما لا نعلم، ونَشعر أنكم أنتم محاصرون، أميركا وعظمتها محاصرة، أعداؤنا كلهم محاصرون، ليس نحن المحاصرين، من يُؤمن بالله لا يمكن أن يَشعر بأنه مُحاصر ولو أُقفلت عليه كل الجغرافيا التي يتواجد فيها. أنتم تخوضون معركة خائبة، فاشلة لن تؤدي إلى أي نتيجة، القتل يَزيدنا وعياً وعناداً وإصراراً والحصار يَزيدنا ثقةً وتوكلاً واتصالاً بمصدر القوة الحقيقي الذي يَصنع النصر "وما النصر إلا من عند الله"".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024