آراء وتحليلات
قهر الأميركي.. حلم أم وعد؟
أحمد فؤاد
ليست المرة الأولى التي يخرج فيها سيد المقاومة بتهديد علني واضح للولايات المتحدة الأميركية. ليست المرة الأولى التي يخرج فيها السيد الكريم بتوصيف ورؤية استراتيجية محددة ودقيقة للعمل العربي العام الذي يستهدف إنهاء هذا العصر الأكثر ظلامًا وظلمًا في تاريخنا بجملته. وليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، التي تثبت فيها المقاومة عبر الأمين أنها أنبل فعل عربي في العصر الحديث.
لم يكن هذا الخطاب في ذكرى التحرير الثاني للبنان من أدوات الولايات المتحدة، إلا حديثًا يرتفع إلى مستوى التهديد القائم والخطر الحاضر، خطًا يكمل بفعله رسم دائرة الرد المباشر المطلوب على الشيطان الأكبر، خطاب امتلأ بالإيمان واليقين، رسالة ثقة من رجل نؤمن أنه أهل للثقة وبابها، أجاب سماحة السيد على الكثير من الأزمات المشتعلة، وآنس الخواطر والقلوب، سواء في تناوله لتأكيد الردع لكيان العدو، أو في ما هو أكبر.
قبل أن نقرأ بشكل متأنٍّ خطاب السيد، وما حمله من مؤشرات تحركات محور المقاومة إقليميًا، خلال المستقبل القريب ضد الوجود الأميركي القائم في سوريا والعراق مباشرة، أو حضورها في غيرهما دون حاجة لقواتهم المسلحة، فإنه ينبغي أولًا العودة عدة عقود قليلة إلى الوراء لفهم جزء من هذه "البجاحة" الأميركية في التعامل مع العالم العربي، وأنظمته الرسمية.
أول اتصال مباشر كبير بين الولايات المتحدة الأميركية والعالم العربي، جرى عقب انتهاء محادثات "يالطا"، التي ناقشت مستقبل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال عودة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، قرر أن يستقبل ملكي أكبر دولتين عربيتين، ولأن التلهف الملكي من عبد العزيز وفاروق جاء زاحفًا، وقبل الرجلان أن يذهبا للقاء تحت مدافع الطراد الأميركي التي يضيء بريقها في زهو، وخلافًا لأية قواعد سياسية، فإن الأميركي بدأ وجوده الكبير في المنطقة بالكثير جدًا من الغرور والصلف والرغبة الأكيدة في السيطرة المطلقة على هذه المنطقة. وهذه واحدة من قواعد السياسة البديهية والأولية، إن قررت أن تتوسل فإنه يتوجب على الطرف الآخر أن يتشدد، وبشكل عام فإن التهافت دليل عجز وضعف شديدين، ومؤكدين. بكلمات أخرى فإن طرفًا يستجدي سيدعو الطرف الآخر إلى أن يستقوي، وهذا خلاصة ما حدث في شباط/ فبراير من العام 1945، ولا يزال ساريًا حتى اليوم.
المسرحية التي جرت على متن الطراد الأميركي، بين المسوّق روزفلت الذي باع الوهم للملكين، اللذين مثلا دور الأبله الساذج المشدوه، منح واشنطن النفط والنفوذ مقابل ما قيل إنه الأمن لابن سعود واللا شيء لفاروق، أثبت الأميركيون أنهم أساتذة بيع الوهم والتربح من كل شيء وأي شيء، أسياد تصدير الأفكار والمبادئ كقوالب جاهزة وأنماط سريعة البلع في الكوكب كله، وأصحاب السبق في تحويل ما يهمهم إلى صورة مسيطرة عالمية، ورغم أنهم لا يرون في شيء قداسة إلا المال، إلا أنهم يبيعون للكل مقدسهم، أو على الأقل يتاجرون تحت عباءته. أميركا لم تفرض سيطرتها علينا وعلى غيرنا بفضل قوتها العسكرية، التي لا نحلم في يوم أن نضاهيها، لكن بفضل خمولنا وكسلنا وبؤسنا الشديد، لأننا فضلنا لعب دور المستهلك.
كل ما تلا هذا الاجتماع المأساوي في العالم العربي كانت نتيجة متصلة به، أو تدور حوله، فشل كل الدول العربية في مواجهة النكبة، وسقوطها أمام لحظة رزع الكيان السرطاني في فلسطين، ثم الهزائم المتلاحقة المتتالية، والأكثر ألمًا أنها كلها كانت تجري في سياق خلافات وصراعات عربية-عربية أشد سخونة وحدّة، هزيمة وسقوط بغداد الموجعة كانت إحداها، حتى جاء الربيع العربي المشؤوم، ووجدت واشنطن أخيرًا الفرصة في 2011 لكسر دمشق، النظام العربي الرافض الأخير.
يقول سماحة الأمين العام: "إن ما يجري في سوريا اليوم هو استمرار لما بدأ في العام 2011، وهو مشروع أميركي، استعانت فيه أميركا بعدد من الدول الاقليمية التي ساندتها بالمال والاعلام والسلاح"، ويضيف السيد: "الأبواب سُدّت والحصار أُحكم، وبمجرد أن بدا واضحًا أن الحرب العسكرية فشلت وبدأت سوريا تتعافى، كان قانون قيصر جاهزًا".
ومع حديث التحديات والحرب والحصار الخانق المعادي لأبسط صور الإنسانية في سوريا، يصل السيد إلى القول الفصل في قادم الأيام: "شرق الفرات منطقة محتلة من قبل القوات الأميركية؛ فالصراع هناك صراع اقليمي ويمكن أن ينجرّ الى صراع دولي، إذا أراد الاميركيين أن يقاتلوا بأنفسهم أهلًا وسهلًا، وهذه هي المعركة الحقيقية التي ستغيّر كل المعادلات".
ويزيد سيد الوعد الصادق بيتًا للمرجفين ممن لا يزالون مقتنعين أن الوقوف أمام أميركا معركة انتحارية أو وهم لن يتحقق، بقوله: "ما يُشاع أنّ الاميركان يريدون اغلاق الحدود السورية العراقية كل ذلك أوهام ولن يُسمح بذلك".
من صنع أسطورة التفوق الأميركي، في المنطقة العربية بالذات، كان العرب أنفسهم، لم تهبط علينا أميركا من الفضاء ولم تخرج من عصا نبي ولا ساحر، نحن فتحنا لها أبواب أوطاننا وبيوتنا وعقولنا، ورغبة في الحصول على الجوائز السهلة –اتفاقيات استقلال مثلًا- كان الإصرار من جانبنا يزداد والرهان يرتفع بين النخب على قوته وقدرته، وبدأنا نستخدمه في التآمر والترهيب ضد بعضنا وضد أشقائنا وضد أبنائنا، وحتى ضد أنفسنا، كان الاستسلام أو الخيانة، أو كلاهما معًا، هي عناوين الزعيم العربي الذي يُمدح على إنه صاحب القرار العقلاني الرشيد.
كلما أطل السيد في ليلنا الطويل، الحالك، يبدد مع طاقات صوته الهادئة الواثقة سنين طويلة من الهزائم والتراجع والمساومة بالمبدأ وبالقضايا وبالحق، في هذا اليوم وهذا الخطاب لا يعد التهديد الموجه إلى الكيان المهتز، شبه الغارق ذاتيًا، جديدًا، إن "أيّ اغتيال على الأرض اللبنانية يطال لبنانيًا او فلسطينيًا أو سوريًا أو إيرانيًا أو غيرهم سيكون له رد الفعل القوي"، وقادة الكيان ومجتمعه الممزق يعلمون علم اليقين أن فعلهم في لبنان له ثمن لا يستطيعون تخيله، والتقارير الصهيونية تؤكد فيما تنشره أن صواريخ الحزب الدقيقة قادرة على تحويل الأرض تحت أقدامهم إلى جحيم يأكلهم، لكن الجديد هو الارتفاع بالتعاطي إلى مستوى الاشتباك مع المجرم الأصلي في كل نقطة دم سالت بالمنطقة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024