آراء وتحليلات
رباعية الأبعاد في منظومة الاقتدار – انتصار تموز نموذجاً (4 – 4)
محمد أ. الحسيني
استطاع الغرب، اعتماداً على سياسة تفتيت الكيانات العربية والإسلامية في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط وفق التعبير الغربي الذي يرسم حدود المستعمرات)، أن يكرّس "إسرائيل" قوة متفوّقة مقابل تخلّي معظم الدول العربية وما كان يسمّى دول الطوق عن نصرة القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي، وصولاً إلى اختراق هذه الدول واستباحتها في شتى المجالات السيادية. ولكن هذه المقولة غير قابلة للإسقاط على الواقع إذا ما ارتبط الحديث بمحور المواجهة الذي تكرّس وجودياً على أنقاض مشروع الشرق الأوسط الكبير بعدما أسقطته المقاومة في تموز 2006؛ فوجدت "إسرائيل" نفسها أمام طوق عسكري – أمني يمتدّ من إيران واليمن إلى العراق وسوريا إلى لبنان وفلسطين، أفشل كل المساعي الغربية لتمكين "إسرائيل" من الهيمنة على المنطقة.
سيناريو يوم القيامة
أسهم انتصار تموز 2006، وما بعد ما بعد تموز 2006، على مختلف جبهات المحور، في وضع الكيان المؤقت ضمن خيارات حرجة ومقيّدة في حدود ضيقة لا تسمح له إلا بالتراجع، بعدما أفقدته قوى المقاومة مقوّمات التفوّق وأزاحته عن موقع المبادرة والفعل، لينشغل بقلقه من تعاظم القدرات العسكرية لقوى المحور، واتّساع حدود الجبهة في الداخل والخارج، واشتداد الخناق حوله، وفق عقيدة الشهيد الحاج قاسم سليماني، عبر تنشيط الجبهات التي إذا ما اشتعلت ستكون إيذاناً للبدء بيوم القيامة الذي يهجس به مسؤولو العدو، ويرسمون له سيناريوهات مرعبة، حيث لا يتوقف فيه انهمار الصواريخ على الداخل الصهيوني إلا بعد أن يتحوّل الكيان المؤقت إلى كتلة دمار، وهكذا تتحقّق النبوءة التي يخشاها الصهاينة من أن كيانهم لن يصل بعمره إلى سنواته الثمانين.
ولم يعد مسؤولو العدو بعد انتصار تموز 2006 ينظرون إلى حزب الله على أنه قوّة قابلة للتحييد أو السحق، بل أصبح بنظرهم قوة إقليمية تشكّل رأس الحربة لمحور المقاومة، وهم محقّون في ذلك نظراً لتقديرهم لتأثير الحزب على المستوى الاستراتيجي في معادلة الصراع والمواجهة في المنطقة ككلّ، وليس فقط عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، فقد فرضت المقاومة الإسلامية معادلة تفوّق الردع، في حين أن تهديدات بنيامين نتنياهو بإعادة لبنان إلى العصر الحجري مخصّصة للاستهلاك الداخلي، فهو دائم التردّد في استخدام القوة "ويخشى التدهور إلى مواجهة شاملة غير مرغوب فيها"، ولكن يقابلها تهديدات فعلية من الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله بتدمير "إسرائيل"، مرفقة بمناورات عسكرية تحاكي عمليات اقتحام المستوطنات على طريق تحرير فلسطين، ومن المؤكد أن نتنياهو يرى في خلفية المشهد ترسانة ضخمة ومنصات منصوبة لآلاف الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة التي تصل إلى أبعد نقطة يتواجد فيها العدو على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
انهيار "إسرائيل" أمر واقع
في ما مضى كانت "إسرائيل" تمثّل مركز الجذب الذي تجتمع حوله كل المكوّنات الحزبية والسياسية الصهيونية، وكان الجيش يعدّ الدرع الاستراتيجي الحامي للقوقعة الصهيونية وخط الدفاع الاستراتيجي الذي يحفظ تماسك بنية الكيان المؤقت، فيما تدور الخلافات في الداخل ضمن دائرة هذه البنية، وأي تهديد لهذا الدرع يدفع الجميع داخل الدائرة إلى الاستنفار لحمايته؛ إلا أن الأزمة الوجودية اليوم تتركّز في أن المستوطن الموعود باللبن والعسل يشعر بأنّه مهدّد في ديمومة عناصر بقائه واستمراره، وأنه يعيش على أرض متحرّكة غير صلبة، فكلّ المحيط الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والديمغرافي الداخلي والخارجي على امتداد جبهة محور المقاومة، بات مزروعاً بعبوات ناسفة لا يعلم هذا المستوطن توقيت تفجيرها، ولا يملك القدرة على منعها أو تلافيها أو تعطيل آثارها، فضلاً عن أن الجيش بحدّ ذاته أصبح يعاني من التصدّع والتفكّك على مستوى الانتماء والحافزية للقتال، وتعتريه حالة هشّة في العقيدة الحربية بحيث لم يعد الجندي ملتصقاً ببندقيته، وطالما أن درع الحماية الذي كان يوفّره "الجيش الذي لا يُقهر" قد سقط، فإن التهديد بانهيار بنية الكيان برمّته يصبح أمراً واقعاً ومصيراً لا مفر منه.
الخطر في صواريخ حزب الله الدقيقة
كسر مسؤولو العدو جدار التحفّظ في مواقفهم وتجاوز البعض القيود الرسمية التي تمنع من يشغلون مناصب ومسؤوليات عسكرية وأمنية من التصريح، ليتوقّعوا نهايات مشؤومة تنتظر الكيان المؤقت، ويهزؤوا من "العنتريات الفارغة" نظراً لأن "الجبهة الداخلية ليست جاهزة لحرب مع لبنان"، أما العديد من المسؤولين السابقين، ومنهم مثالاً لا حصراً، رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت، والرئيس السابق لجهاز الشاباك يوفال ديسكين، والجنرال في الاحتياط شاؤول أرئيلي، فلم يجدوا أي حرج في دق ناقوس الخطر من احتمال تفجّر حرب أهلية وتقاتل داخلي يأخذ بـ"إسرائيل" إلى المصير الأسود والزوال على غرار "دول يهودية سابقة"؛ وهذا ما دفع الكاتب الصهيوني جدعون ليفي ليقول إن "إسرائيل تمر بعملية تدمير ذاتي.. ومرضها السرطاني بلغ مراحله الأخيرة ولا سبيل لعلاجه"، أما المؤرخ الصهيوني بيني موريس فوصف ""إسرائيل" كمكان ستغرب شمسه.. وخلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون ويكون اليهود أقلية في هذه الأرض، إما مطارَدين أو مقتولين".
وعلى الجانب السياسي، استدرج الاستقطاب السلبي للمحاور الإسرائيلية المختلفة، حالات استقطاب جديدة مبنية على اعتبارات دينية وعرقية، وأخرى مبنية على شعور بالغبن والخيبة ربطاً بالواقع المالي والاقتصادي الذي يعاني منه بعض شرائح مجتمع الاحتلال، وبذلك لم تعد الحكومة - بشخص بنيامين نتنياهو في الوقت الراهن – تشكّل ضامناً للحد الأدنى من التماسك، بل أصبحت أحد أهم عناوين الانقسام الذي يسهم في تعميق الشروخ الداخلية والصدوع المجتمعية وحالة انعدام الأمن، ممّا يؤشر إلى الشرخ البنيوي بين المكوّنات الصهيونية، وإلى فقدان الحد الأدنى من نقاط التقاء يمكن أن تجمع أطراف الصراع الداخلي.
أما في الجانب العسكري، فلعلّ التقدير الأكثر تعبيراً في صراحته ووضوحه عن القلق الوجودي ما أورده الرئيس السابق لقسم التخطيط الاستراتيجي في جيش الاحتلال اللواء احتياط مايكل هرتسوغ في دراسة نشرها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، حيث يقدّم وجهة نظر إسرائيلية تعتبر أن "الصواريخ الدقيقة التي يمتلكها حزب الله هي المكوّن الأخطر في الخطط الإيرانية في سوريا ولبنان.. وعلى الرغم من قدرة "إسرائيل" العسكرية إلا أنها تُعدً بلداً صغيراً وهشاً، حيث تقع المراكز السكانية والبنى العسكرية والوطنية الأساسية في مساحة عرضها 20 كيلومتراً وطولها 80 كيلومتراً. ومع عدد قليل نسبياً من الصواريخ عالية الدقة يمكن لحزب الله أن يكبّدها ثمناً باهظاً في أي حرب مستقبلية، من خلال استهداف مكوّنات هامة في الأمن القومي الإسرائيلي، وبالتالي تقويض القدرة على خوض الحرب بفعالية".
محور الساحات الموحّدة
كل ما كان مرسوماً لإسقاط المنطقة قد فشل، وخابت آمال كل من راهن على سحق المقاومة في لبنان، بل كانت النتيجة أن أقيمت منظومة سياسية – عسكرية متكاملة الجبهات، دون أن نغفل صوت الشعوب والقوى السياسية الحيّة في المنطقة والعالم، التي بدأت بالتحرّك لطرد قوى الاستعمار من بلادها لتأخذ زمام أمورها الوطنية والسيادية بعيداً عن الاستغلال ونهب الثروات القومية. ولعلّ تجربة المقاومة في لبنان تقدّم نموذجاً واضحاً في هذا المجال، فلم تعد "إسرائيل"، ومن خلفها الولايات المتحدة، تجرؤ على ارتكاب أي حماقة تعتدي فيها على لبنان برّاً وجواً وبحراً، لأنها ستواجه ردّاً مباشراً ومؤلماً في البر والجو والبحر، وقد لا يكون الرد فقط مقتصراً على الساحة اللبنانية بل سيشمل كل الساحات التي كرّست المقاومة وحدتها على أكثر من صعيد ومستوى، وعلى هذا الأساس يمكن "البناء على قوة هذا المحور وأن نستند إليه في الحسابات السياسية والإستراتيجية، ليس فقط في المواجهة بل أيضاً في منع الحرب، وخصوصاً في الدائرة اللبنانية"، وبذلك فإن "مشهد الصهاينة وهم يعودون إلى البلاد التي أتوا منها هو مشهد قطعي.. والأجيال الحاضرة إن شاء الله ستدخل إلى فلسطين وستصلّي في القدس ولن يكون هناك وجود لـ"إسرائيل".. أنا سأصلّي في القدس"، هكذا جاء حاسماً قول السيد نصر الله.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024