نصر من الله

نقاط على الحروف

درس المقاومة
14/09/2023

درس المقاومة

أحمد فؤاد

"أقوى سلاح في يد القاهرين هو وعي المقهورين"..
ستيف بيكو، المناضل الحقيقي في جنوب أفريقيا، وأحد أبرز أبطالها المنسيين على الإطلاق.

هناك مقولة رائعة عن التاريخ أطلقها السير رالف رانسيمان أستاذ كرسي التاريخ بجامعة أكسفورد والباحث الأشهر في الحروب الصليبية "إن التاريخ له آذان، لكن ليس له عيون"، تلخص منهج حياته البحثي، بمعنى أننا يمكن أن نسمع ما جرى من روايات للأحداث والوقائع منقولة عن طرف ما من الفاعلين أو الحاضرين، ومعظم ما جرى نقله إلينا مسموعًا ومتواترًا جرت كتابته بأثر رجعي، يخلط الوهم بالحقيقي، إلى درجة تتركنا وحدنا مع نوع من الفولكلور الأسطوري، وتلقي بالتالي عبء التدقيق والفحص للإنسان ولعقله ودرجة فهمه للأحداث.

في الحقيقة لا يبتعد قول رانسيمان كثيرًا عن قول نابليون بونابرت أن التاريخ ما هو إلا كذبة اتفق المنتصرون عليها، وهو كله يحمل العقل على الإعتقاد بأن رواية التاريخ أو إعادة قراءته بشكل صحيح ودقيق دون ربطه بالحاضر والاستفادة في استشراف المستقبل نوع من التسلية أو إضاعة الوقت، أو كليهما معًا، فميزة إعادة القراءة الكبرى أنها تمنح الإنسان القدرة على التمييز وفهم ما جرى ويجري حوله، مرتبطًا بواقع يومه وتحدياته وقضاياه الأساسية والمركزية.

كيان العدو مثلًا قام على إعادة صياغة كذبة كبرى ليس لها أقدام تلمس الأرض، ولن يكون لها بالتالي أجنحة تحلق بها في فضاء العالم العربي الكبير، الأكبر من قدراتها على الابتلاع أو الهضم، وكلما استمرت هذه الكذبة فإنها تحتاج إلى عشرات ومئات الكذبات الإضافية لاستمرارها وإبقائها حية تتنفس، في خضم محيط من العداء الإنساني الكامل، وغير القابل للتغيير أو التراجع أو التطبيع.

في وسط الأزمة العاصفة التي تضرب قلب الكيان، وتشكك في وجوده أصلًا كدولة بالمعنى السياسي، أو مجتمع إنساني عادي بالمعنى الأوسع، فإنه قرر أن يعود إلى تاريخه لمحاولة إعادة إنتاج أسطورة التفوق الصهيوني على العرب، هذه العودة ليست أوراقًا ووثائق، لكنها هذه المرة مشاهدة ومرئية ومسموعة، على طريقة المقاطع القصيرة لمواقع التواصل الاجتماعي، لمحاولة التأثير في أكبر القطاعات العربية المستهدفة، وتمرير حديث اليأس إلى الضفة المقابلة، وسواء كان ذلك في ذكرى حرب تشرين/ أكتوبر أو غيرها، تبقى الرسالة الصهيونية مسمومة وملغومة، وفيها كل ما فيها من آثار المبالغة والتضخيم والإسقاط على ظروف لم تعد قابلة للتكرار، ومع أبطال لن يعودوا أبدًا لمشهد المواجهة.

ما يعيد الموساد قوله ونشره حول فضيحة أشرف مروان، صهر الرئيس المصري جمال عبد الناصر وسكرتير السادات للمعلومات، وتقديمه أسرارًا عليا للكيان مقابل المال، ليس جديدًا، ولا هو كل القصة المريرة العربية في أكتوبر 73، الأكثر وجعًا سبق أن رواه الجنرال الراحل سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري في الحرب، عقب إطلاعه على رسالة السادات إلى هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي، عقب ساعات من انطلاق الحرب، والتي تعهد فيها الرئيس المصري بوضوح وصراحة بـ "عدم تعميق أو توسيع الاشتباكات الحالية"، أي التفريط في فرصة التقدم إلى قلب سيناء واستغلال ضغط الجيش السوري من الجولان، وهو ما وصفه الشاذلي بالخيانة العظمى، إذ إن طرفًا يكشف عن نواياه وخططه أمام عدوه بهذا الشكل لا يمكن إلا أن يكون عاريًا في ساحة القتال.

وقد بنى الصهاينة تعاملهم مع الحرب على هذه المعلومة من السادات، إذ تم تفعيل خطة "برج الحمام" في سيناء باتخاذ وضع دفاعي عن وسط شبه الجزيرة، وإطلاق كل قواتهم لإيقاف التقدم السوري مستغلين التهدئة المصرية غير المعلنة، وحين حاول الجيش المصري التقدم إلى الممرات كانت المصيدة جاهزة ومفجعة، شاب لهولها الجميع، وأدت بدورها إلى باقي مسلسل الانتكاسات المعهودة.

ما لم ينشره الصهيوني هو أن عامل تفوقه الأول كان في الطرف العربي الذي حمل لواء القضية في وقت من الأوقات، كان هذا الطرف العربي، حتى في عز صحوته وتصميمه، لا يرفع شعارًا أكثر من "إزالة آثار العدوان"، أي عدوان 1967، ولا يُحمل بالتالي نفسه من الهم أكثر من استرجاع سيناء والجولان والقدس، وفكرة بقاء الكيان مع هذه العقلية موجودة، وهذه القيادات العربية فوق خيبتها الشديدة، مهتزة وعديمة القدرة والإرادة، ولا تمتلك الإيمان الذي يترجم إلى فعل صادق وحقيقي.

كان مفهومًا أن الكيان قادر في تشرين 1956 وحزيران 1967 وتشرين 1973 على تدمير أية قوة عربية تقف ضده أو تحاول أن تقف ضده، وقبل حتى أن تفكر أن تقف ضده، كان مفهومًا أن الهزيمة هي ابنة شرعية لهذا السياق كله. الأنظمة التي قادت بلادها من ويلات إلى ويلات ومن كارثة إلى مأساة، كانت ترفع راية فلسطين فقط من أجل أمنها أو ضمان الحشد والشعبية لها، لكنها لم تسترجع شبرًا من الأرض تحت هذه الرايات، لم تفعل القيادات كريهة الخيانة خافتة الصوت سوى أنها فتحت الخطوط للأعداء واستدعت الأطماع وساعدت المؤامرات، وأدارت القضايا العادلة بكل غباء وعناد وجبروت وبمزيج من الترقيع والمسكنات إلى حيث أودية التيه والهلاك.
..
إذا كانت هناك ضرورة ملحة لاستخدام تعبير تاريخي، بحيث لا تفقد الكلمة دلالتها وهيبتها، ولا تبتذل رمزيتها معناها البليغ، فإنه سيكون وصف صائب وبالغ الدقة لقرار محور المقاومة بتسليح الضفة، هذا القرار يتفرد بأنه بدّل معادلة الصراع مع العدو الصهيوني، سواء في فلسطين أو الأقليم الواسع حولها، ووضع الكيان في مأزق هائل اقترن بأزمته الداخلية، وولّد هذا التفاعل السحري معنى جديدًا كليًا يواجه الاحتلال وهو: "العجز".

وللمقاربة التاريخية مع موقف مشابه وظرف ليس ببعيد، فإن الكيان خلال عمليته العسكرية "قادش" في العدوان الثلاثي على مصر 1956، والذي انطلق في نهاية شهر تشرين الأول، لم تزد خسائر جيشه المعلنة على 172 قتيلًا، في ظل اجتياحه لشبه جزيرة سيناء بالكامل، وهي مساحة هائلة تبلغ 60 ألف كيلو مترًأ مربعًا، مقارنة بمساحة فلسطين التاريخية التي تبلغ 27027 كيلو مترًا مربعًا.

اليوم في فلسطين، استطاع شعبنا البطل بالكثير جدًا من الإيمان وببعض السلاح الذي أوصلته الأيدي الأمينة إليهم، أن يحوّل 2023 إلى العام الأكثر دموية بالأراضي الفلسطينية في الألفية الجديدة، والتعبير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية إذ سقط نحو 175 صهيونيًا بنيران المقاومة البطلة، (35 قتيلًا و140 جريحًا)، مع الأخذ في الحسبان التكتم الشديد على الخسائر، والأخبار التي تلي العمليات الفلسطينية عن دهس فيل لسائح في تايلاند وغيرها.

حرب التحرير انطلقت بالفعل في فلسطين، وهذه الحرب خلاف غيرها من صراعات السلاح لا ينتصر فيها طرف إلا بكسر إرادة الطرف الآخر، حرب بالنقاط يفوز فيها الأطول نفسًا والأقدر والأكثر استعدادًا على تقديم التضحيات، قرابين الانتصار، وهي قادرة على تحطيم العدو بتكبيده من الخسائر اليومية والمستمرة والعالية ما يرسخ في يقينه أنه عاجز عن تحقيق التغيير أو الاختراق، فينهار مشروعه كله فوق رأسه، أو كما قالها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في يوم قريب: "قد تنتهي إسرائيل بتغير الظروف التي قامت على أساسها من دون أن نحتاج إلى حرب، وهذا سيناريو واقعي"، ودائمًا تحمل لنا الأيام صدق وعد السيد.

 

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل