آراء وتحليلات
قراءة في خلفيات موقف بوتين من ممرّ بايدن الاقتصادي
حيّان نيّوف
على عكس ما روّج له الإعلام الاستباقي العالمي بما فيه الإعلام الروسي من الأخطار الإستراتيجية والتنافسية لمشروع الممر الاقتصادي "الهندي - الشرق أوسطي - الاوروبي" الذي جرى التوافق عليه على هامش قمّة العشرين بمبادرة من الرئيس الأمريكي جو بايدن، فقد كان مفاجئًا الموقف المتمايز الذي عبّر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من المشروع من خلال ترحيبه به واعتباره يصبّ في مصلحة روسيا، حيث قال بوتين على هامش المنتدى الاقتصادي لشرق روسيا:
"أعتقد أن هذا لمصلحتنا فقط، وأعتقد أن هذا لن يؤدي إلا إلى مساعدتنا في تطوير اللوجستيات، أولًا، تمت مناقشة هذا المشروع لفترة طويلة، لعدة سنوات. وصحيح أن الأميركيين التحقوا بهذا القطار في آخر لحظة، لكن بالنسبة لهم، لا أرى فائدة كبيرة من التواجد في هذا المشروع، ربما فقط من وجهة نظر المصلحة التجارية، وفي الوقت نفسه، فإن الحركة الإضافية للبضائع عبر هذا الممر هي في الواقع إضافة لمشروعنا "الشمال-الجنوب". ولا نرى هنا ما يمكن أن يعيقنا بطريقة أو بأخرى".
فما هي الخلفيات والأسباب التي دفعت بالرئيس الروسي لاتخاذ هذا الموقف الذي خالف التوقعات بما فيها التي روّج لها الإعلام الروسي نفسه؟
• في الخلفيات السياسية:
يضمّ المشروع في جزئه الآسيوي ثلاث دول هي "الهند والإمارات العربية والسعودية"، وهذه الدول الثلاث أعضاء في مجموعة بريكس التي تقودها الصين وروسيا، بعد أن تم توجيه الدعوة لكل من السعودية والإمارات مؤخرًا للانضمام إلى المجموعة بالإضافة للهند العضو الأصيل فيها. كما وتتمتع روسيا بعلاقات شراكة متصاعدة مع كل من الدول الثلاث وتنسيق سياسي على المستوى الإقليمي والدولي، وهذه الدول الثلاث لم تعلن صراحةً وقوفها ضدّ روسيا فيما يخص الحرب الأوكرانية على الرغم من الضغوط الغربية والأمريكية خاصة، وحافظت على موقف متوازن نسبيًا من تلك القضية بعيدًا عن الانجرار وراء الرغبات الأمريكية.
انطلاقًا من ذلك فإنه يمكن القول إن بوتين لا يريد أن يكون هذا المشروع سببًا لتخريب العلاقات المتنامية بين بلاده وهذه الدول الثلاث كما ترغب الولايات المتحدة وتخطط من ورائه، وبمعنى آخر فإن بوتين أراد تفويت الفرصة على واشنطن التي ظنّت أنها بهذا المشروع قد صنعت مفجّرًا حتميًا للعلاقات الروسية مع الدول الثلاث.
• في الخلفيات الاقتصادية:
تتمع روسيا بعلاقات شراكة اقتصادية مع الهند، وهذا الشراكة تضاعفت بنسب كبيرة بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وتحولت الهند إلى واحدة من أهم الدول المستوردة من الاتحاد الروسي، ودخلت روسيا في قائمة أكبر خمسة شركاء تجاريين للهند إلى جانب الولايات المتحدة والصين والإمارات والسعودية حيث بلغت قيمة الصادرات الروسية الى الهند في السنة المالية الأخيرة حوالي 40 مليار دولار، كما تحولت روسيا إلى رابع أكبر مورد نفط للهند والذي تدفع الهند ثمنه إما بالروبيه الهندية أو بالدرهم الإماراتي، يضاف إلى ذلك الكثير من التقارير التي تحدثت عن قيام الهند بإعادة تصدير النفط الروسي إلى اوروبا بعد حصولها عليه بأسعار مخفضة من موسكو.
وفيما يخص الإمارات العربية المتحدة، فقد تحولت وخلال فترة قصيرة ومنذ الحرب الأوكرانية إلى قبلة لرجال الأعمال والشركات الروسية بفعل سياسات العقوبات الأمريكية، واستقطبت الكثير من رؤوس الأموال الروسية التي باتت تشكل جزءًا لا يستهان به من موجودات البنوك الإماراتية، ولم تكترث الإمارات للضغوط الأمريكية بهذا الخصوص، وهو ما دفع الرئيس بوتين للإشادة برئيس دولة الإمارات بن زايد في أكثر من مناسبة، هذا بالإضافة إلى أن الإمارات تحولت إلى محطة اقليمية وعالمية لتصدير النفط الروسي، واستقبلت حتى الآن ما يقارب 61 مليون برميل من النفط الروسي منذ تطبيق العقوبات الغربية على روسيا.
أما في ما يخص السعودية، فالعلاقات الاقتصادية السعودية الروسية في تنامٍ مستمر، ويكفي القول إن البلدين عضوان رئيسيان في منظمة اوبك+، وأثبتت الأعوام الأخيرة أن التنسيق بينهما في هذه المنظمة لعب دورًا رئيسيًا ومحوريًا في تحقيق التوازن في أسواق النفط العالمية وكذلك الأمر بالنسبة لاستقرار أسعار النفط عبر الاتفاق على سياسات الإنتاج بما يحقق مصالح الدولتين والدول المنتجة بعيدًا عن الانصياع للمصالح الأمريكية في هذا القطاع.
إن النظر لهذه الأسباب الاقتصادية التي جرى ذكرها سيكون كافيًا للاعتقاد بأن الممر الاقتصادي المذكور سيكون داعمًا مباشرًا وغير مباشر للاقتصاد الروسي طالما أن دولًا أعضاء فيه باتت تشكل محطات للتجارة الروسية والاقتصاد الروسي بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية الثنائية، وهو ما دفع بوتين للقول إن هذا المشروع "سيكون في صالحنا"، ولأن البضائع الروسية من نفط وغيره ستصل إلى هذه الدول الثلاث عبر ممر شمال-جنوب الذي يربط روسيا بالخليج والهند عبر إيران فإن بوتين اعتبر أن المشروع يشكل "إضافة لممر شمال-جنوب".
• في الخلفيات الجيوسياسية:
بالنظر إلى خريطة المشروع والمسار الذي يسلكه من الهند وصولًا لمياه الخليج ومنها عبر البر الإماراتي والبر السعودي وصولًا إلى البحر المتوسط ومنه لأوروبا، وبالنظر إلى الدول الأعضاء الموقعة على مذكرة المشروع، فإنه يمكن الحديث عن الخلفيات الجيوسياسية من زاويتين:
الزاوية الأولى تتعلق بالمسار الذي يسلكه الممر الاقتصادي، حيث إن الدول المنضوية فيه ستكون في سباقٍ مع الزمن لإيجاد حلول للكثير من القضايا التي قد تشكل مخاطر عليه ولا شك بأنهم يدركون أن هذا المشروع يمر في حقول جغرافية تحيط بها الألغام المتفجرة أو القابلة للتفجير من كل الاتجاهات، في اليمن وسورية والعراق ولبنان وفلسطين المحتلة ومياه الخليج والخليج نفسه..
ويخطئ هؤلاء إن كانوا يعتقدون أن باستطاعتهم معالجة تلك القضايا باعتماد استراتيجية المواجهة التي أثبتت فشلها أميركيًا واسرائيليًا طوال عقود ولم ينتج عنها إلا مزيد من الفشل الأمريكي الإسرائيلي، وبالتالي ليس أمامهم إلا اعتماد استراتيجيات الحلحلة وتفكيك الألغام والتشبيك الإقليمي إن كانوا يريدون لهذا المشروع أن ينجح.
إن اعتماد استراتيجيات الحلحلة وتفكيك الألغام غير ممكن من دون موسكو التي بات لها نفوذ واسع في الشرق الأوسط سواء بشكلٍ مباشر أو عبر حلفائها، ما يعني بالضرورة تحسين الشروط التفاوضية لموسكو وحلفائها الإقليميين في مواجهة واشنطن والغرب الجماعي، هذا بالإضافة إلى أن المشروع في حال تمّ إنجازه سيتحول إلى ورقة ضغط بيد موسكو وحلفائها طالما أن تشغيله سيبقى تحت رحمة ارضائهم، هذا إن لم يقوموا بفرض مسارات جديدة لاحقة له كشرط لازم لتشغيله.
والزاوية الثانية التي يجب النظر إليها من الناحية الجيوسياسية والمتعلقة بالدول الأعضاء بالمشروع، هي أن المشروع بالمحصلة سيقوّي ويزيد من مكانة دول الجنوب العالمي على الصعيد الدولي في المدى المتوسط والبعيد، وهو ما يعني حكمًا تعويمًا إضافيًا لمفهوم التعددية القطبية في مواجهة الهيمنة والأحادية.
وبالمحصلة؛ فإن قراءة الخلفيات المتعلقة بالترحيب الروسي بهذا المشروع تزيل الالتباس عن موقف موسكو، ليس ذلك فحسب، فإنها أيضًا تزيل الالتباس عن الصمت الصيني تجاه هذا المشروع ومن جوانب كثيرة، بل إنه يمكن القول إن للصين وحلفائها الكثير من الأسباب الأخرى التي جعلتهم يبتعدون عن انتقاد المشروع المقدم من بايدن رغم أن واشنطن هي الأقل فائدة منه إلا في بعض الجوانب التجارية.
أخيرًا؛ لا بد من القول إننا في زمن التخبط الأمريكي، بل هو عصر الهرم الأمريكي الذي يتجلى في صورة الرئيس الخَرِف بايدن.