آراء وتحليلات
التطبيع مع الشيطان الأميركي
أحمد فؤاد
إذا ما كان الواقع يستطيع أن يتكلم بلسان عربي صريح، فإن ما سيقوله بالتأكيد لن يعدو قول أمير الشعراء أحمد شوقي "كلنا في الهم شرقُ"، من حروب ومؤامرات بالسلاح وبالدم في سوريا، إلى الحصار الاقتصادي والمالي في لبنان، إلى لعبة نشر الفتنة في كل بلد عربي، إلى الكوارث الطبيعية في ليبيا والمغرب، كلنا ننزف وقلوبنا تقطر دمًا على ألم لا يتوقف، ولا ينتهي.
ليبيا تقدم لنا الدرس الأحدث، في سلسلة دروسنا المنسية بالتعامل مع الشيطان الأميركي. أنت مهم حين تضعك واشنطن على لائحة أولوياتها وجداول استهدافها، وأنت حاضر في ذلك "الضمير العالمي" بقدر ما تحرك من أطماع الولايات المتحدة في سرقتك أو تدميرك، وأنت حاضر بالقدر ذاته الذي تثيره من لعابها ورغبتها في افتراسك ونهش لحمك، وحين تقف في الخندق الأميركي ــ ولو مصادفة ــ فأنت بطل وثائر ورمز للشجاعة، أما أي شيء خلاف ذلك، فأنت منفي إلى مجاهل النسيان.
خلال أحداث الربيع العربي المشؤوم، وحين جاء الدور على ليبيا، وبعد أن وصل الفيروس الأميركي إلى مفاصلها وتسرب إلى أعصابها، ومع افتقاد المجتمع للمناعة وتبديد نظامه لمقاومته الطبيعية وإرادة شعبه وقدرته، وانطبق على الجميع المثل الشهير "أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض"، وصار الإحساس العميق بالعجز واليأس هو المسيطر على الساحة العربية، مع فقدان البوصلة السليمة، ومشاهد الضحايا الأليمة، التي انتشرت على طول السواحل الليبية، وصور أهلها الذين دمرهم إعصار دانيال، ثم وقف الجميع يتفرج ويتابع، مع نوايا التدخل الإنساني التي قد فات وقتها وأوانها.
وبعكس ما جرى حين كانت البلد مطلوبة من الأميركي، ونشرات الأخبار بكل اللغات واللهجات تجعل من المدن الليبية أقرب إلينا من بيوتنا، بني وليد، درنة، سرت، مصراتة، بنغازي، طرابلس، وغيرها، حين رغب الأميركي في تدميرها، فجأة، تلاشت كل الحدود وتبخرت الخطوط الفاصلة بين القانون الدولي الحديث وشريعة الغاب وبشاعتها البدائية وتوحشها المفرط الذي لا يعرف الكوابح، حين أرادت واشنطن وحيث رغبت أن توجه ضربتها، تغير إيقاع الزمن، وتسارعت الأيام واقتربت المسافات وانهارت كل القيم والمثل، وتوجهت الجامعة المسماة زورًا عربية إلى مجلس الأمن الدولي تطلب قرارًا بحظر جوي، تبدل في لحظة واحدة إلى قرار تدخل عسكري واسع تحت الرقم "1973"، وقبل أن يكتمل التصويت كان "أوباما" في أميركا اللاتينية يتصل برئيس أركانه "مايك مولن"، مبلغًا اياه ببدء التدخل العسكري، في وصفة أقل ما يقال عنها إنها تصلح كسيناريو لفيلم هوليوودي، لا إلى مصائر شعوب ومستقبل دولة وحياة شعب كامل وجزء عزيز من أمة استبيح بالكامل.
وبعد أن انتهت عملية "فجر الأوديسا" بالتخلص من القذافي ومحو نظامه من الوجود، فإن التدخل الأميركي اكتمل بتدمير الدولة ونسف مقدرات استمرارها، وتقسيمها إلى ما يشبه مناطق فترة الإقطاع في عصور أوروبا المظلمة، ميليشيات تحت كل المسميات تسيطر بالسلاح وتكسب به قوتها، مذابح لا تتوقف، ونزيف لا يعرف نهاية أو حدودًا، والتنظيمات كلها لا يجمع بينها شيء بعد هذا إلا ولاؤها للأميركي، سواء في شرق ليبيا أو غربها.
ما الذي حدث بالضبط، وأدى إلى هذه الكارثة الإنسانية المفجعة؟ إنه غياب الدولة قولًا واحدًا، وفاصلًا، وتقزيم الدولة بالمناسبة وعلى الهامش أحد أهداف صندوق النقد الدولي المعلنة والواضحة والمطبقة في عالمنا العربي، على سبيل المثال، فإن الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة، بيتيري تالاس، قال إنه "كان من الممكن تفادي سقوط معظم الضحايا" جراء إعصار دانيال في ليبيا، وكان المطلوب من الحكومة والمسؤولين إصدار إنذارات فورية بشكل يمكن هيئات إدارة الحالات الطارئة من إجلاء السكان وتفادي معظم الخسائر البشرية، لكن "الفوضى المخيمة في هذا البلد" قد منعت التعامل الصحيح مع الكارثة.
وتعد مدينة درنة المنكوبة ثالث أكبر مدن الشرق الليبي، بعد بنغازي والبيضاء ووفقًا لتصريحات عبد المنعم الغيثي، رئيس بلدية درنة، فإن عاصفة دانيال تسببت في سيول كثيفة، كانت أكبر من قدرة المدينة على التحمل، وأعقبها انهيار سدي وادي درنة، وتراكم المياه المنحدرة من الجبل المحاذي للمدينة من جهة الجنوب، وتضاعفت المأساة.
وزير الصحة الليبي عثمان عبد الجليل، توقع وصول أعداد الضحايا إلى 10 آلاف شخص في درنة وحدها، بما يعني 5% من سكان المدينة الليبية، وقال إن 250 ألف إنسان يحتاجون إلى مساعدات إنسانية وطبية وإمدادات عاجلة، مع الإشارة إلى أن آلاف الجثث المطمورة تحت الأنقاض أو التي جرفتها مياه البحر تشكل خطورة بالغة على حياة السكان الباقين، والبلد لا تمتلك إمكانيات توازي الكارثة الإنسانية القائمة، والمأساة لا تضم درنة وحدها، لكنها تشمل مدن: درنة، والبيضاء، وشحات، والمرج، وسوسة، وتاكنس والبياضة ووردامة وتوكرة.
اليوم.. لا تقدم معظم الدول العربية سوى وعود بالمساعدة، ونوايا بإرسال فرق الإنقاذ والمساعدات، بعد مرور أيام كإنها الدهور على الشعب الشقيق المنكوب، تحولت ليبيا بفعل الأميركي وتدخلاته من رصيد للشعوب العربية وقضاياها ومستقبلها إلى عبء، تمامًا كما يحاول المطبعون والمرجفون أن يروجوه عن قضية فلسطين، وهم في هذا لا يخرجون عن حقيقة كوننا أمة واحدة، لكنهم قبل ذلك يدمرون مصالحنا وقضايانا الواحدة وراء الأخرى
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024