آراء وتحليلات
القمة الصينية - السورية: قراءة في خلفيات التحرّك الصيني نحو دمشق؟
حيّان نيّوف
تنظر الإستراتيجية الصينية الحديثة إلى الشرق الأوسط كميدان جيوسياسي واستراتيجي بالغ الأهمية، وتنطلق من مبدأ الشراكة والتنمية والتشبيك مع الإقليم ككل ضمن مبادرتها العالمية التي تعرف بالحزام والطريق. ولأجل ذلك أقحمت نفسها في واحد من أصعب الملفات الإقليمية، وأقصد "العلاقات السعودية الإيرانية" التي بقيت متأزمة طوال سنوات متأثرة بعوامل عديدة كان أهمها الضغط الأمريكي المتنوع، ونجحت الدبلوماسية الصينية في تحقيق اختراق سياسي فاجأ الجميع ونتج عنه ما عرف باسم "إعلان بكين" الذي وضع حجر الأساس لعودة العلاقات السعودية - الإيرانية، وهو ما مهّد الطريق للدولتين لاحقًا لتكونا عضوين في منظمة بريكس+ وذلك في القمة التي عقدت في جنوب أفريقيا مؤخرًا.
تعتقد الصين اليوم أن نجاحها في هذا الملف سيشكل أساسًا يمكنها البناء عليه للتوغل والتشبيك الشرق الأوسطي عبر بذل المزيد من الجهد السياسي والدبلوماسي المصحوب بعروض التنمية والشراكة الاقتصادية، وهو ما أكدته زيارة الرئيس الصيني للسعودية في نهاية العام المنصرم والتي شهدت التوقيع على اتفاقيات عدة بقيمة إجمالية وصلت إلى 29 مليار دولار، وزيارة الرئيس الإيراني للصين في شباط الفائت والتي شهدت التوقيع على اتفاقيات مشتركة بقيمة إجمالية وصلت إلى 12 مليار دولار كجزء من اتفاق الشراكة الإستراتيجية بين بكين وطهران الذي جرى توقيعه في العام 2021 والبالغة قيمته 400 مليار دولار.
لم ترق للولايات المتحدة كل تلك التطورات الحاصلة في العلاقات الصينية الشرق أوسطية، وسارعت إلى اتهام بكين بالتغلغل وبسط النفوذ والسيطرة على المنطقة، وكثفت الولايات المتحدة ومن خلفها دول مجموعة السبع من ضغوطها على مبادرة الحزام والطريق الصينية، وأعلنت صراحة عن خطط لإقامة مشاريع بديلة لمواجهتها، خاصة بعد التشبيك السعودي-الصيني والتشبيك الإيراني- الصيني، وهو ما يعني بالنسبة للولايات المتحدة أن الصين باتت على مرمى حجر من حدود القارة الأوروبية ومثلها القارة الإفريقية التي لم تغب عنهما.
سارعت الولايات المتحدة لمواجهة التطورات الأخيرة عبر تفعيل استراتيجيات جديدة تهدف لقطع الطريق على التمدد الصيني قبل بلوغه أهدافه، وركزت بشكل رئيسي على العرقلة في الجغرافيا المحيطة التي تلي الجغرافيا السعودية والجغرافيا الإيرانية لإيقاف المبادرة الصينية وتطويقها، ولجأت واشنطن في هذا الإطار إلى تفجير السودان كخطوة أولى بعد أن كان الحل السياسي في هذا البلد في متناول اليد، ثم عمدت في مرحلة لاحقة الى تفجير الأوضاع في شرق سورية على الحدود العراقية السورية في محاولة لإغلاق تلك الحدود وكذلك الأمر في الجنوب السوري، وكل ذلك جرى عبر مجموعات وعملاء تابعين لها بعد أن شهدت المرحلة الأخيرة تحركًا عربيًا نحو دمشق منذ القمة العربية التي عقدت في جدة.
لم تقتصر الإستراتيجية الأمريكية في مواجهة وتطويق التحرك الصيني على التفجير الميداني في أكثر من منطقة جغرافية، بل شملت تحركًا سياسيًا نشطًا وضاغطًا خاصة تجاه الرياض، وتجلى ذلك عبر محورين رئيسيين:
الأول: تمثل بالتحرك الأميركي المستعجل لطرح مشاريع بديلة عن "الحزام والطريق" الصيني وهو ما نتج عنه "مشروع طريق التنمية العراقي لربط الخليج بأوروبا عبر العراق وتركيا، ومشروع الممر الاقتصادي "الهندي السعودي الأوروبي" لربط آسيا بالخليج ثم بأوروبا عبر الكيان الصهيوني.
الثاني: تمثل بتفعيل الحراك الدبلوماسي والسياسي والاستخباراتي لتسريع انجاز التطبيع "السعودي الإسرائيلي" والذي على ما يبدو قد قطع شوطًا بعيدًا وفق ما دلت عليه تصريحات المسؤولين الأميركيين والسعوديين والصهاينة.
في ظلّ كل تلك الظروف والتنافس الصيني الأمريكي في الإقليم جاءت الزيارة التاريخية للرئيس السوري بشار الاسد إلى الصين بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ لتؤكد أن التحرّك الصيني الجديد نحو دمشق لا يمكن فصله عن عاملين رئيسيين:
الأول: انتقال الولايات المتحدة من المجاهرة السياسية والإعلامية بمواجهة الحزام والطريق الصيني إلى المجاهرة الجيوسياسية والعملية، وهو ما تجلّى بمشروع الممر الهندي، ومشروع طريق التنمية العراقي وغيرها.
الثاني: نجاح الولايات المتحدة بإقفال بوابات الحزام والطريق في منطقة حوض المتوسط بوجه الصين، وهو ما عكسته أحداث عدة سابقة وحالية، منها تفجير مرفأ بيروت، عرقلة اتفاق صيني/اسرائيلي حول ميناء حيفا، إلزام ايطاليا بالخروج من مبادرة الحزام والطريق والتي أبلغت رئيسة وزرائها الجانب الصيني خلال قمة العشرين بأنها لن تمدد اتفاق البلدين في إطار مبادرة الحزام والطريق، وكذلك عرقلة اتفاق صيني مع العراق حول ميناء البصرة "الفاو" بعد أن جرى تلزيمه لشركة كورية جنوبية بضغط من واشنطن.
تدرك الصين جيدًا أهمية ومحورية الجغرافيا السورية في الصراع والتنافس العالمي القائم والمستمر، إضافة إلى أن الجغرافيا السورية تشكل بوابة الشرق مجتمعًا على البحر المتوسط. فهي تمثل الممر البري الأقصر للربط بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، حيث يمر في سورية أقصر طريق بري يمكن أن يربط جنوب العالم بشماله ويشكل الطريق الدولي المعروف باسم M5 جزءًا من هذا الطريق، ويمتد من معبر نصيب جنوبًا على الحدود السورية - الأردنية، وصولًا إلى مدينة حلب في الشمال السوري ومنها إلى الحدود التركية وأوروبا، وكذلك الأمر بالنسبة للربط بين الشرق والغرب سواء عبر الطريق الدولي المعروف باسم M4 الذي يمتد من الشمال الشرقي السوري وصولًا إلى اللاذقية في الغرب على البحر المتوسط أو عبر الطريق الدولي الذي يمتد من مدينة البوكمال على الحدود العراقية السورية إلى العاصمة دمشق والغرب السوري وصولًا للمتوسط.
تشير تصريحات الزعيمين السوري والصيني بعد لقاء القمة الذي عقد بينهما إلى الأهمية الإستراتيجية لزيارة السيد الأسد إلى الصين، وتؤكد كل ما تطرقنا اليه في تحليلنا حولها بشكل مباشر أو غير مباشر.
فالرئيس الأسد وصف زيارته للصين بأنها هامة بتوقيتها وبظروفها حيث يتشكل عالم متعدد الأقطاب، واعتبر أنه لا يوجد فرق بين سورية وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي، فالغرب يستخدم هذه الساحات لإرباك الدول، لذلك يجب أن نواجه مبدأ القوة العسكرية بمبدأ القوة الناعمة المبنية على الأخلاق والتعاون الذي أقرته الصين.
والرئيس الصيني جين بينغ وصف الزيارة بأنها تشكل حدثًا مفصليًا في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين في مواجهة الأوضاع الدولية المفعمة بعوامل عدم الاستقرار، مؤكدًا أن بلاده تحرص على تعزيز التعاون مع سورية في إطار مبادرة الحزام والطريق، وتدعم انضمام سورية لمنظمة شنغهاي كشريك للحوار، كما تدعم بشكل ثابت جهود سورية ضد التدخل الخارجي وترفض تمركز القوات غير الشرعية على الأراضي السورية وتحث الدول على رفع العقوبات والحصار الاقتصادي غير الشرعي.