نقاط على الحروف
لبنان موطِن الخيال العلمي.. فهل من يُقدِّر؟
ميساء مقدم
فاتَ أُدَباء الخيال العلمي الأوائل الكثير. لم يكن هربرت جورج ويلز الملقّب بـ"شكسبير الخيال العلمي" من أصحابِ الحظوة. عاش الرجل وأَفَل، دون أن يلتحق بنادي أدباء الخيال من مفكّرين وصحافيين وناشطين لبنانيين. أما اليوم، فيقال إن بيروت على موعد مع أبرز مخرجي هوليوود، في محاولة لتتبّع أسلوب بعض اللبنانيين في رسم الأحداث وربطها ببعضها البعض، لا سيّما استنتاج الحبكة.
مناسبة هذه السخرية بعض من الجَدّ، وكثير من المضحك المبكي. قبل أيام تعرّضت السفارة الأميركية في عوكر لإطلاق نار، ليتبيّن بعد عملية نوعيّة لشعبة المعلومات أسفرت عن توقيف المدعو م.خ في محلة الكفاءات، أن الموقوف الذي يعمل سائق "دليفري" لدى شركة "توتيرز" قام بهذا الفعل، متقصّدًا عدم إصابة أحد من حراس السفارة رغم أنه كان قادراً على ذلك. الموقوف اعترف أن إطلاق النار حصل بعد خلاف سابق مع أحد عناصر الأمن الذي تعرّض له بالإهانة أثناء توصيله "طلبية" إلى السفارة، وأنه لم يتمكن من "بلع" الإهانة، فقرر الانتقام.
كان لهذه الحادثة أن تمر بشكل روتيني في أي بلد خالٍ من النماذج إيّاها في لبنان. عن ماذا نتحدّث؟ عن حادثة إطلاق نار لأسباب شخصية تتحول في بلد مشحون طائفيًا ومذهبيًا وسياسيًا ومناطقيًا إلى جبهة إقليمية قد تبدأ بطريق الحرير ولا تنتهي بمعبر البوكمال. أمّا مِن قبل مَن؟ فهنا مربط الخيل. هم مجموعة مِمَن يطلقون على أنفسهم ألقاب شبيهة بالنخبة، والمثقفين، والتغييريين، وروّاد الإعلام الحر.. وما يشابهها من ألقاب منفصمة عن ذواتهم الحقيقية. وبعضُ الأمثلة في مجال استكمال السخرية.. لا تضر:
واحد من أشد التحاليل الاستراتيجية فداحة كان من إصدار "متعدد الألقاب"، مدير تحرير موقع "أساس ميديا"، صاحب الماجستير في الإعلام البحثي الفرنكوفوني، الأديب والشاعر (لسوء حظ القرّاء له 4 كتب بين الشعر والقصة والرواية)، محمد بركات. فقد تفتّق ذهنه في منشور على منصة X عن أن:
"إطلاق النار على السفارة الأميركية في لبنان يتراوح بين أن يكون:
- إطلاق نار على اللجنة الخماسية واجتماعها أمس في نيويورك.
- إطلاق نار على ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون.
- إعلانًا بتحويل لبنان، أو استعادة لبنان دوره السلبي، كساحة أمنية.
- إعلان حرب على أميركا من بيروت، وذلك في سياق الحرب ضدّ إقفال معبر البوكمال، كطريق إمداد بين إيران وسوريا ولبنان. وهذا قمة الخبل الأمني.
كل الطرق تؤدّي إلى الهاوية".
من هاوية بركات إلى سيمفونيّة النائب مروان حمادة الخالية من كل تجدد: "الاعتداء على السفارة الأميركية رسالة إلى الولايات المتحدة وإلى اللبنانيين كلهم الذين ذاقوا الأمرّين خلال الاحتلال السوري والإيراني". شقيقه الصحافي علي حمادة كانت له كذلك رؤية مملة حول الحدث في مقابلة مع الإعلامي رواد ضاهر في "بالمباشر": هذا عمل أمني استخباراتي واضح رسالة للأميركيين قد يكون لعدة الأمور، قد يكون موجهًا ضد زيادة التعاون الأميركي مع الجيش اللبناني، وقد يكون متصلًا بما يحصل في سوريا وبالمقاربة الأميركية للملف السوري والتي تغيرت وباتت تهز الوضع هناك".
روزانا بومنصف في صحيفة "النهار" خرجت من دائرة الروتين، لتكتب مقالاً "تبصيريًا" - تهويليًا مطوّلًا حول احتمالات ردّة الفعل الأميركية على الحدث. ورأت فيه أن "الاعتداء على مبنى السفارة يمكن أن يستدرج جملة إجراءات أميركية قد تضر بلبنان أو باللبنانيين في إطار محافظة الولايات المتحدة على مصالحها أو حماية رعاياها"، مشددة على "ضرورة رفض أن يتحوّل لبنان ساحة لتصفية حسابات أو توجيه رسائل إقليمية عبره باعتبار أن ذلك يشكل فصلاً من فصول الحرب الباردة التي لن تتأخر في التحول ساخنة أو محتدمة على الأرض"، ومحذّرة من أن ما جرى "قد يفتح الباب أمام تحفظات أميركية جديدة على مساعدة الجيش اللبناني".
بومنصف فتحت باب تأمّلاتها على مصراعيه انطلاقًا من حادثة شاب "الديليفيري": "السؤال الذي يفترضه البعض تبعاً لحادث إطلاق النار على السفارة الأميركية يتصل بتقويم مدى خطورته عليها وعلى طاقمها وربما ليس على حضورها في لبنان في هذه المرحلة، كما يتصل بما إذا كان يمكن أن يشكل حافزاً لضغط أو تصرف أميركي يمنع أولاً استمرار تهديد الاستقرار والأمن أو غيابهما المتزايد كما يحول دون التخريب على السياسة الأميركية الحالية المتمثلة ببناء الجيش والقوى الأمنية كقوى استقرار لئلا يصب ذلك في مصلحة قوى الأمر الواقع". هل كانت تتوقّع وصول جنود المارينز الى ميناء بيروت؟
صحيفة "الشرق الأوسط" تشابهت في تقديمها لـ"الحادث الحدث" مع قناة "mtv"، فرأت أن "اللافت أن العملية وقعت بعد ساعات قليلة على الاحتفال الذي أقامته السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا وطاقم السفارة لمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لتفجير السفارة في 20 سبتمبر (أيلول) 1984، في وقت ذكّرت قناة المرّ كذلك بعملية تفجير السفارة الأميركية وأجرت مقابلة مع الصحافي سيمون أبو فاضل الذي رأى أن ما حصل "ليس عملًا فرديًا انفعاليًا والرسالة تقول إن الفاعل يستطيع ارتكاب أكثر من ذلك". وعلى المنوال ذاته، عزف النائب أشرف ريفي: "رسالة سياسية للأميركيين، تقف وراءها جهة ما".
رئاسة الجمهورية وقوى الأمر الواقع وقطر وأميركا، جميعهم كانوا حاضرين في مقال سعد الياس في "القدس العربي": "جاء إطلاق النار على السفارة في وقت يُعتبر اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون متقدماً بين أسماء المرشحين للرئاسة مدعوماً من الولايات المتحدة وقطر. وقرأ بعضهم في إطلاق النار رسالة مزدوجة إلى كل من قائد الجيش والسفارة الأمريكية من قبل قوى الأمر الواقع".
أمّا النائب ميشال ضاهر فكان أكثر تسلية في تحليله، تماهيًا مع وظيفة مُنتجه الذي ربما كان اكثر نفعًا له، لو أنه انشغل بالتركيز على جودته بدلًا من التهلي بالتحاليل السياسية على هذه الشاكلة:
"إطلاق النار على السفارة الأميركية في لبنان أمر له عدّة دلالات مؤسفة وخطيرة.
١- ما زال لبنان منصة رسائل داخلية وخارجية.
٢- ما زال السلاح هو لغة الرسائل السياسية في بلدنا.
٣- يبدو أن الفاعل لا يدرك تبعات هذا التطاول أمنيًا على سفارة إحدى أهم دول العالم.
٤- التمادي بهذه الرسائل قد يوصلنا الى حدّ المخاطرة بعلاقاتنا الدولية بعدما دفعنا ثمنًا باهظًا لتردّي علاقاتنا العربية والخليجية".
على ما يبدو أن النائب سليم الصايغ عالق من جهته بحبال عاموس هوكشتاين: "لاطلاق النار على السفارة الأميركية مدلول سياسي بعد زيارة هوكشتاين وجولاته في لبنان وكأنها رسالة لواشنطن بأن لا حجم السفارة في عوكر ولا التحصن خلف أسوارها قادر على حمايتكم، وهذا له مدلولات كبيرة وانعكاسات في عمق العقل الأمني الأميركي".
"تقدم" وهو بحسب صفحته على X "حزب ديمقراطي تقدمي يعمل للعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة" لم يفوّت فرصة استنكار "الاعتداء على سفارة الولايات المتحدة"، وقال: "نطالب الدولة وأجهزتها الأمنية التحقيق وكشف من نفذ ومن وراءه لمنع انجرار لبنان لصراعات إقليمية".
بدورها، طرحت جريدة "الأنباء" الالكترونيّة انطلاقًا من الحادثة "جملة من الأسئلة حول ما إذا بات لبنان مكشوفاً أمنياً بعد استحالة التوافق على رئيس جمهورية، ومن يقف وراء الحوادث المتنقلة التي تحصل في أكثر من منطقة، وهل تستدرك القوى المحلية خطورة ما تتجه إليه الأمور؟، أما النائب زياد حواط فتوسّع من عوكر الى بنت جبيل: "إطلاق النار على السفارة الأميركية في عوكر والحوادث الأمنية المتنقلة وآخرها نشر حواجز في بنت جبيل يكشف محاولة للتوتير الأمني. حذار اللعب بالنار في هذه اللحظة الدقيقة والحساسة. لبنان لم يعد يحتمل سياسة صندوق البريد وإطلاق الرسائل خدمة لمصالح خارجية".
ومع "نداء الوطن" يحلو الختام. هنا تجتمع المعلومة مع المصادر والتحليل، تمامًا كصحافة مسؤولة عن كل شيء، إلا المصداقية. من بوابة العودة الى الاغتيالات، أثارت الصحيفة القضية، ونقلت عن مصادر قولها إن "كل ما يحصل على الأراضي اللبنانية هو مسؤولية أمنية لبنانية وأنّ التساهل يجعل المرتكب يتمادى، وما حصل على مستوى السفارة خطير، وإذا لم يتبيّن الفاعل، سينضم هذا الملف الى ملف الاغتيالات السياسية، لأنّ من اغتال لديه من التنظيم ما يكفي للقيام بعمله". وأضافت: "إن منطقة السفارة الأميركية في عوكر، هي حزام أمني بامتياز ولا يمكن لفرد أن يخرق هذا الحزام، ما يعني أنّ هذه الرسالة، في ذكرى تفجير السفارة عام 1984، هي رسالة أمنية متطورة. وهناك جهة رصدت وراقبت ورأت ثغرة يمكن الدخول منها ففعلت".
ولأن عدم الغمز من بوابة حزب الله أمر مُستبعد لدى هذه الصحيفة المسكونة بهاجس الحزب، نقلت عن أوساط ديبلوماسية غربية قولها "إنّ حدود دور "حزب الله" على المستوى الداخلي هي سياسية، لكن كل ما يتعلّق بالشأن السوري أو الإسرائيلي أو الأميركي، فهو ايراني، وبالتالي فهذه رسالة ايرانية الى الولايات المتحدة من لبنان متعددة الأوجه تبدأ من دور أميركا في ضبط الحدود العراقية السورية ولا تنتهي بالقول إنّ الولايات المتحدة حريصة على الاستقرار في لبنان، لأنه إذا كانت الولايات المتحدة تدعم الجيش اللبناني فهذا الفريق يريد أن يظهر أنّ الأمن في لبنان في يده وليس في يد الجيش أو أي فريق آخر".
ما سبق هو نبذة عن حادثة أعلنت القوى الأمنية أنها فردية، لكن روّاد المعجم اللغوي للتحضر والثقافة فضلّوا عدم انتظار التحقيقات، واطلاق العنان لخيالاتهم في خدمة اتهاماتهم السياسية، ولو جاءت على جثّة وطن يكافح للبقاء على حافة السلم الأهلي. انكشف اليوم خداع وكذب هذه القوى، وأسلوبهم المعتمد على إطلاق الكذبة، ثم تكثيف التداول بها، ثم تدويرها على مختلف منصّاتهم، لتصبح مسلّمة في ذهن المتلقّي. اليوم، على الرأي العام أن يتعلّم درس عدم الثقة ويحاكم هؤلاء، فمن يمارس الخداع مرّة، سيواصل الخداع والتضليل عند كل مفصل.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
10/10/2024