طوفان الأقصى
طوفان الأقصى من عرمتى إلى غزة
محمد أ. الحسيني
قرار سلطات الاحتلال باستدعاء 360 ألف من جنود الاحتياط لنشرهم على حدود الجبهة مع قطاع غزة وعلى الحدود الفلسطينية الشمالية مع لبنان، وتكليف سلاح الجو بنقل مئات الجنود النظاميين والاحتياطيين من جميع أنجاء أوروبا إلى فلسطين، لا يندرج في إطار الخطوات الطبيعية التي اعتادت "إسرائيل" على القيام بها في إطار الأعمال الحربية، وهي تأتي فقط في الحالات التي يحتاج فيها جيش الاحتلال إلى تلبية اتّساع دائرة انتشار الجبهات العسكرية، والنقص في عدد الجنود القادرين على خوض المعارك الحربية، أو إذا ما واجه أزمة عملانية تتعلّق بالخصم الذي يقف على الطرف الآخر من الجبهة.
وفي حالة "طوفان الأقصى" الذي أغرقت به المقاومة الفلسطينية "إسرائيل" بكل ما كانت تتوقعه وما لم تتوقعه من هزيمة عسكرية وأمنية، وكوارث بشرية ومعنوية ونفسية واقتصادية، وأمعن فيه مقاتلو حركتي "حماس" و"الجهاد" بكسر العنجهية الصهيونية في الصميم، فإن القرار الإسرائيلي باستدعاء الجنود وإعلام الحرب والاستنفار الشامل سياسياً وعسكرياً واستجداء الدعم من الولايات المتحدة وأوروبا والعرب المطبّعين، يعني أن "إسرائيل" بمن فيها من مسؤولين على اختلاف توافقهم وتعارضهم، وبما فيها من مؤسسات عسكرية ومدنية وسياسية، باتت تستشعر الخطر الحقيقي بالانهيار الشامل على طريق الزوال.
نتنياهو والخوف على المصير
إن حسابات التوازن العسكري تميل حتماً لمصلحة العدو بنسبة كبيرة، سواء لجهة العدد والعدّة والتجهيز العسكري واللوجستي، أو لجهة السيطرة في البر والجو والبحر، وإمكانية التحرّك في مساحة مفتوحة مقابل قطاع غزة الذي يعاني الحصار الجغرافي من الجهات كافة، وكذا الحصار في الجوانب الحياتية والإنسانية، إلا أن التكتيكات العسكرية التي اتّبعتها المقاومة الفلسطينية، ميدانياً واستخبارياً وتوقيتاً للحظة الطوفان، نجحت في توجيه أقسى الضربات الساحقة التي لحقت بالعدو، واستحضرت بذلك في الذهن الإسرائيلي نكبة هزيمة تموز العام 2006 الذي أسقط هيبة "إسرائيل" ومعها مشاريع بناء الشرق الأوسط الجديد، وهو مشروع حاول بنيامين نتنياهو إعادته إلى الأذهان في التهديد الذي وجهه بعد اتخاذه قرار شنّ الحرب الشاملة على حماس والجهاد في قطاع غزة.
لن ندخل في تعداد القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين من جيش الاحتلال، الذي ازداد بوتيرة متسارعة مع استمرار المواجهات داخل المستوطنات التي اقتحمها المقاومون الفلسطينيون، وكسروا فيها جدار العزل ونقلوا إليها ساحة المعركة بتقنية عالية ونخبوية صدمت قيادات العدو، فالحديث الأساسي يتركّز في نقطتين رئيسيتين: الأولى: كيف استطاعت المقاومة الفلسطينية إعداد العدّة للطوفان في ظل عمى العدو عن ذلك، أو في أحسن الأحوال عدم تقديره لإمكانية المقاومة من تنفيذ عملية شاملة بهذا النوع والحجم؟ والثانية: بغض النظر عن نتيجة المعركة، سواء توسّعت باتجاه حرب إقليمية أم انتهت بانتصار المقاومة أو بصيغة لا غالب ولا مغلوب، ما هو مصير نتنياهو الشخصي وما هو مصير هيكل "إسرائيل" ككيان؟
ما بين غزة وعرمتى
في النقطة الأولى، يقول مسؤولو العدو إن حركة "حماس" استطاعت خداع "إسرائيل"، فيما تحدّثت مصادر عسكرية صهيونية عن أن هجوماً من هذا النوع يحتاج إلى إعداد لمدة عام أو عامين، وكلا المقولتين صحيح، فطوال العام الماضي كانت الأنظار شاخصة إلى الشمال وإلى ما يحضّر له حزب الله من استعدادت للدخول إلى الجليل، بدءاً من مناورة "سنعبر" العسكرية التي نفذتها المقاومة الإسلامية في شهر أيار في منطقة عرمتى على بعد عشرين كيلومتراً من الحدود الفلسطينية، مروراً بنصب الخيمة على الحدود التي أرّقت العدو بكافة مؤسساته الكيانية، وساهمت في تعميق الشعور لديه بالهزيمة والعجز حتى دخلت في سياق المفاوضات حول الأرض المحتلة في منطقة الغجر، وصولاً إلى الإعلان عن "مطار حزب الله" في شهر أيلول الذي رأى فيه وزير حرب العدو يوآف غالانت مشروعاً إيرانياً يهدف "لإتاحة شن هجمات على إسرائيل"، وأخيراً الفعاليات الشعبية واحتكاكات التحدّي عند الحدود اللبنانية – الفلسطينية التي أظهر فيها الجيش اللبناني بسالة في التصدّي للتجاوزات الإسرائيلية.
هكذا كان الاهتمام الاستخباري العسكري والاستطلاع الأمني والميداني منصبّاً على الشمال فيما كانت المقاومة الفلسطينية تتحضّر بكل إصرار وهدوء وبحرفية عالية جداً داخل قطاع غزة. ومن جهة ثانية، فمن المعلوم أن العدو لا يعتمد فقط على الإحاطة المعلوماتية عبر الوسائل التقنية المتطوّرة في البرّ والجو والبحر، بل يعتمد بشكل أساسي على المعلومات التي يؤمنها عملاؤه داخل القطاع، فعملت المقاومة الفلسطينية من وقت لآخر على فقء عيون العدو، ليسهم هذا الأمر في تكريس العمى الاستخباري الإسرائيلي، وهذا بحد ذاته إنجاز نوعي لا يقل أهمية عن الإنجاز العسكري، بل يمكن اعتباره العامل الأساس في نجاح التحضيرات التي قادت إلى الطوفان.
السقوط الحتمي
أما في النقطة الثانية، فقد يرى البعض أن "طوفان الأقصى" يوفّر فرصة سانحة لنتنياهو في استنقاذ نفسه والكيان ككل للخروج من المأزق السياسي الذي كان يهدّد بتعميق الانقسامات الإسرائيلية، ويفتح الباب أمام توحيد الكيانات المتحاربة، ويعيد لملمة شتات الأجهزة العسكرية والأمنية التي تفسّخ تماسكها بسبب التناقضات الداخلية التي كانت تنذر بنشوب حرب داخلية، ويتيح له تشكيل حكومة "وطنية" تضمّه ومعارضيه لمواجهة الخطر المصيري الذي يهدّد بزوال "إسرائيل"، وفق ما كان خصوم نتنياهو يتّهمونه بالتسبّب به.
كل ذلك يبدو صحيحاً في المبدأ ولكنّه لا يعطي مبرّراً لبقاء المقاومة الفلسطينية دون حراك فيما تستمر مشاريع الاستيطان في القدس المحتلة، وتتوالى عمليات تدنيس المسجد الأقصى في ظل معلومات تحدثت عن مشروع كانت تعدّه حكومة نتنياهو لتغيير الواقع المتعلق بالمقدسات الإسلامية، ومن جهة ثانية فإن ما يبدو من توحّد إسرائيلي راهن سيؤول بعد هدوء الصخب العسكري، كيفما كانت نهاية المعركة، إلى أزمة أعمق سيكون فيها نتنياهو الخاسر الأكبر، وينفتح الباب أمام تفسّخ أوسع في تركيبة الكيان المؤقت، فالعدو لن يستطيع حتماً ضرب أو إضعاف حركات المقاومة، والمغامرة في الدخول البري إلى قطاع غزة وما يمكن أن تستدرجه من توسّع لدوائر المواجهة، ستجلب المزيد من الكوارث وتعود بالخراب على "إسرائيل"، وعليه فإن جلّ ما يمكن لنتنياهو أن يفعله حالياً هو تأخير توقيت السقوط، بانتظار المصير الذي سبقه إليه أسلافه، فالتاريخ يسجّل أن كل من خاض معركة ضد المقاومة في لبنان وفلسطين انتهى به الأمر، بعد هزيمته، إلى الأفول والزوال.